كورونا في السنغال وفي موريتانيا: التفوق في الفحوص لا يعني بالضرورة التفوق في السلامة...

يسود في أوساط إدارات الأزمات الوبائية والتخطيط الصحي الرأي القائل بأن القيام بالفحوص على نطاق واسع يشكل إحدى الرافعات الرئيسية لأي إستراتيجية فعالة لمحاربة جائحة كوفيد 19 المستجد؛ وتعمل القطاعات المعنية في بلدان العالم على ضوء هذ ا الطرح، كل دولة حسب طاقتها ورؤيتها.

وفي غرب إفريقيا تحاول السنغال مسايرة هذا التوجه. إلا أن تواضع الوسائل المتوفرة في البلد تطرح اكراهات وقيودا يتطلب التعاطي معها العمل وفقا لمعيارين: ما تسمح به الإمكانيات، وما تقتضيه  الضرورة. كما أن عدم استقرار انتشار الجائحة على حال يستدعي تكيفا دائما ويقظة لا تفتر ولا تنقطع.

الإمكانيات:  فحوص ضعيفة العدد وبوتيرة غير مستقرة...

لا تتوفر وسائل كشف فيروس كورونا بشكل كاف في العالم.. وتتفاوت كثيرا الوسائل والمصادر في هذا المجال من بلد لآخر ومن قارة لأخرى، حسب مستويات النمو الاقتصادي والتكنولوجي وحسب الخطط الإستراتيجية والسياسيه لمعالجة الجائحة في كل فضاء. وطبعا فإن الإمكانيات المتوفرة في القارة "السمراء" دون المستوى المطلوب بكثير. إلا أن التفاوت قائم فيما بين الدول الإفريقية. فجمهورية السنغال مثلا تعتبر من أفضل دول غرب إفريقيا شأنا بسبب وجود معهد باستير في دكار الموروث عن الاستعمار الفرنسي[i]. واعتمادا على هذا المعهد، كثفت السلطات من حملات الفحص والكشف عن فيروس كورونا.. حيث تمكنت خلال الأسبوع الأخير من إجراء 6542 فحصا.

لكن هذا الرقم- على أهميته- بعيد كل البعد من الإيفاء بالغرض إن كان الهدف هو تعميم الفحوص على أكثرية السكان (dépistage de masses) كما يُفهَم من مقابلة اجرتها قناة "فرانس 24" منذ أيام قليلة مع الدكتور آمادو صال مدير معهد باستير الذي سبق ذكره.. وكما دعت له دراسات تم إعدادها بطلب من الحكومة السنغالية. لكن المعطيات الحالية لا تَعِد بتحقيق الرجاء على ارض الواقع. فإن نحن اعتمدنا على أرقام مجموع فحوص الأسبوع الأخير السابقة الذكر، فإن عملية مسح فعالة- تشمل 60% من سكان السنغال البالغ عددهم 16 مليون و209 آلاف نسمة- سوف تأخذ أكثر من 28 سنة. يا للهول!

ومن جهة أخرى، نلاحظ عدم استقرار في الوتيرة التي تسير عليها عمليات الفحص. فهي بين مد وجر مستمرين. كما يظهر من الجدول التالي:

نلاحظ من خلال الجدول انخفاض عدد الفحوص من 873 إلى 800 بين يومي 28 و29 ابريل. ثم ارتفع العدد يوم 30 ابريل إلى 1161 فحصا ليهبط بعد ذلك إلى 901 ثم يرتفع  إلى 1190- وهو أعلى مستوى له- ليهبط أيضا على التوالي في اليومين الأخيرين من الأسبوع إلى 810 و807 فحصا.

وموازاة لتغيير وتيرة الفحوص وخلافا لتذبذبها الدائم بين المد والجزر، يظهر الرسم االبياني التوضيحي السابق أن الإصابات بالمرض في تزايد مطرد يوما بعد يوم.

 الضرورة: ترشيد المصادر.. والتركيز على أولوية الأولويات.

يُستشف من المعطيات الرقمية السابقة ومن ما حصلنا عليه من شروح إضافية ومعلومات صادرة عن الجهات المعنية وغيرها أن السلطات السنغالية لم تعمل حقيقة على القيام بفحوص جماهيرية، خلافا لما توهمه البعض على ضوء بعض التصريحات أو المعلومات التي تم نشرها في الإعلام.. بل تصرفت حسب إمكانياتها.

وفي هذا المنحى تلتقي موريتانيا مع جارتها الجنوبية. حققت السلطات الصحية الوطنية 1759 فحصا منذ ظهور أول حالة كورونا في البلد  في 13 مارس 2020.. وهذا رقم متواضع جدا مقارنة مع السنغال: تُضاعِف ثلاث مرات ونصف الفحوصُ السنغالية- لأسبوع واحد- جميعَ الفحوص الموريتانية.

 والغريب أن التفوق السنغالي الكبير في مجال الفحوص لا يرافقه توفق في مجال فعالية الوقاية. وكأن كبر عدد الفحوص لا يضمن السلامة! بل على العكس: التفوق هنا لموريتانيا التي لا يوجد بها اليوم سوى حالة واحدة مؤكدة ضد 1271 حالة في السنغال.  

لم تَدَّع السلطات الموريتانية ولم تحاول أبدا القيام بفحوص جماهيرية، بل تركزت جهودها لحد الآن على محاور دقيقة تستمثر فيها وسائلها بطريقة يراد منها ترشيد المصادر وفعاليتها، حيث يُجرَى الفحص أساسا على ثلاث فئات :

  • المشتبه بحملهم للفيروس الذين تبدو عليهم أعراض المرض.
  • من ربطتهم علاقة مباشرة حديثة العهد مع من ثبتت إصابتهم.
  • القادمين من الخارج، وبصورة خاصة من دولة موبوءة.  

وتنفيذا لهذا المسار تم كشف 8 حالات إصابة في البلد بفيروس كورونا: أحداها ما زالت صاحبتها تخضع للعلاج والحجر الصحي؛ بينما توفيت امرأة مصابة وشفي الباقون. أي: أن حالة واحدة مؤكدة توجد الآن في البلد وأن الوفيات اقتصرت على ضحية واحدة.

وهذه الحصيلة تجعل من موريتانيا حالة نموذجية شاذة حسب كثير من المراقبين والخبراء (انظر: " كورونا في موريتانيا: حذار من التراخي..ومن إهمال محاربة الإرهاب.!")

حذار! حذار! انتشار الوباء لا يستقر على حال...

نظرا للوضع الجيد نسبيا في البلاد، بدأت أصوات تتزايد من داخل الوطن وحتى من خارجه تطالب بتخفيف الإجراءات الاحترازية والوقائية التي اتخذتها الدولة بشكل مبكر فور ظهور أول حالة كورونا داخل الوطن وعززتها تدريجيا بعد ذلك تبعا لتطور الأوضاع في الداخل وفي الدول المجاورة. وتدعو تلك الأصوات إلى فتح الطرق للسفر بين الولايات، وفتح الأسواق، ورفع حظر التجول أو التخفيف منه وكذلك فتح المدارس.

إلا أنه يجب أن يعي الجميع أن البلد لم يكسب بعدُ الحرب على كوفيد 19.  ولن نكسبها طالما أن الخطر مقيم ويكبر يوما بعد يوم في جوارنا، مخيما بظلاله المخيفة على بلادنا عبر الحدود التي يعبرها متسللون خفية قادمون من الدول المجاورة الموبوءة.

كما أنه قد يأتينا من مصادر أخرى.. لأنه من المؤكد اليوم أن المعطيات والمعلومات العلمية حول الفيروس وطرق عدواه في تطور مستمر تتغير المعارف بسببه. مما يجعل وتيرة انتشار الوباء لا تستقر على حال. فنلاحظ أن دولا ومناطق عديدة زادت فيها سرعة انتشار الجائحة مؤخرا؛ وهذا بعد ما بينت الدراسات الاحصائية، واعتقَدَ الخبراء والباحثون أن وتيرتها تراجعت في تلك البلدان .

على ضوء كل هذه المعطيات والعوامل المتغيرة باستمرار، ينبغي علينا أن نبقى على درجة عالية من اليقظة والحيطة، خاصة فيما يعني الفحوص التي ينبغي أن تشمل حملات عشوائية مكثفة ومتزايدة، إن كان ذلك هو السبيل القويم حسب ما يقول بعض العارفين بالميدان. والأهم من ذلك، والأكثر استعجالا، أن يتم تجهيز المنشآت الصحية على مستوى المستشفيات والمراكز الصحية، في الولايات والمقاطعات، بأدوات الفحوص اللازمة، ظبقا لاستراتيجية وسائل حكيمة وفعالة. وأملنا كبير في أن يتحقق هذا بسرعة، علما أن التقارير اليومية الصادرة عن وزارة الصحة لا تشير في هذا المجال إلى نقص في الوسائل، بينما تذكر دائما الحاجة إلى دعم في مجال "الوقاية الفردية" وفي وسائل "دعم قدرات التكفل : أَسرَّة الإنعاش".

وبالإضافة لما هو مطلوب من الدولة، علينا أن نمتثل جميعا وبدون تراخ للتعليمات والإرشادات الصحية القائلة بالتباعد الإجتماعي وبتطبيق اجراءات الوقاية الفردية (mésures barrières).  وفي نفس السياق، يجب علينا، فرادى وجماعات أو مؤسسات، كل حسب موقعه، أن نعمل بمقتضى النداء الذي وجهه رئيس الجمهورية في أول خرجة اعلامية رسمية له حول الموضوع، حيث دعا إلى الاستعداد للتضحيات المتنوعة التي يقتضيها منا جميعا التصدي لهذه الأزمة الصحية وتداعياتها المختلفة التي لا سابق لها في الكون .

والعالم ما زال بعيدا كل البعد من السيطرة عليها. بل يبدي باحثون متعددون تخوفهم من أن هذه الجائحة وتداعياتها المختلفة، الصحية، الإقتصادية، الاجتماعية... قد لا تبقي ولا تذر في أوساط الفئات الهشة، وخاصة في الدول المتخلفة والفقيرة.. عسى الله أن يخيب ظنهم.

البخاري محمد مؤمل ( اليعقوبي)         

       

  

 

[i]  تم إنشاؤه عام 1896 في مدينة سان لويس السنغالية من طرف الطبيب الفرنسي أميل مانشو.. ثم نقل مقره بعد ذلك إلى داكار. ويتم تسييره وإدارته بصورة مشتركة من طرف الحكومة السنغالية ومعهد باستير الفرنسي. وتربطه منذ 20 مارس الماضي اتفاقية توأمة مع المعهد الوطني الموريتاني للدراسات في مجال الصحة العمومية.. اتفاقية وقعها - كما يظهر من الصورة المرفقة في اعلى النص-عن الطرف الموريتاني البروفسور محمد عبد الله ولد بلاهي، وعن الطرف السغالي الدكتور آمادو صال.

 

تصنيف: 

دخول المستخدم