قصتي مع صوف الكلاب

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.

 

عندما أهداني أخي وصديقي الشيخ محمد المامي ولد حمود كتابين مطبوعين طباعة حديثة، هما : كتاب البادية، وفتح الشكور مترجما إلى اللغة الفرنسية، طلب مني أن أترجم كتاب البادية.

قرار الترجمة

ولما قرأت ترجمة شوقي الهامل لكتاب البرتلي الولاتي "فتح الشكور"، إلى الفرنسية أعجبني الكتاب، وبدأت أفكر في الموضوع بجدية، فقرأت كتاب البادية، فلم أفهم منه شيئا أول وهلة، لكنني وجدت أن الكتاب يستحق عملا مماثلا لعمل شوقي الهامل على فتح الشكور، فقررت الشروع في ترجمة كتاب البادية إلى اللغة الفرنسية.

خاصة أن ذلك يصادف انشغالا لدي وهو؛ إخراج كنوزنا إلى الخارج. 

نحن لسنا أمة تمتلك جيشا قويا، ولا اقتصادا مزدهرا، ولا حتى فرقا رياضية متألقة؛ ولكن لدينا ثقافتنا المتميزة التي يمكن أن تكون رافدا للحضور على المستوى العالمي، فرأيي هو أن علينا أن نخرج هذه الثقافة للآخر، في نوع من الدبلوماسية الناعمة soft diplomacy ، وهذا ما قادني إلى تأليف كتاب المحاظر باللغة الفرنسية L’éducation islamique non formelle Mahdra de Mauritanie  الذي نال جائزة شنقيط في العلوم الإسلامية سنة 2016 ، وعلى نفس النهج قررت ترجمة كتاب البادية، لأن الشيخ محمد المامي يستحق أن يعرف به في الجامعات والمراكز العالمية.

يعتبر كتاب البادية أول مصنف يتناول فقه البادية ونوازلها، وهذه الترجمة التي اكتملت - بتوفيق من الله - هي أول ترجمة له، وقد مكنني البحث حول المحظرة بالاحتكاك بالمشاييخ، وبالعلوم الإسلامية، وباللغة العربية عموما؛ فأجريت مقابلات مع المرحوم العلامة محمد سالم ولد عدود، وحمدا ولد التاه، ومحمد ولد أحمد مسكه، ومحمد سالم ولد التاه ولد يحظيه ولد عبد الودود، على سبيل المثال لا الحصر.

ولكن ذلك لم يكن كافيا لفهم كتابٍ معقد ككتاب البادية، نظرا لمستوى المسائل الفقهية والأصول المستبحرة، فشرعت في قراءة الكتاب على المشاييخ، فكان أول من اتصلت به هو الشيخ محمد بن أحمد مسكة؛ حيث كنت أقرأ الكتاب وأشير إلى النقاط التي لم تتضح لي فيشرحها لي، ولكن توقفنا بعد خمس حصص؛ إن كانت قليلة فإنها - كما يقال بالحسانية - "انعاج".

وبعد ذلك سافرت إلى لعيون، حيث خصص لي الدكتور أحمد كور ولد يابه  يوما كاملا، رغم مشاغله، فتدارسنا الكتاب فعرضت عليه النقاط التي كنت أجد فيها إشكالا فأشفي لي فيها الغليل؛ ثم اتصلت بالشيخ بومية ولد ابياه وكان من حسن الحظ، أنه كان قد حقق كتاب البادية في أطروحة دكتورا في جامعة محمد الخامس نوقشت سنة ،2009  وأهداني مخطوط كتاب يعده على الأطروحة يشتمل على مقدمة، ونص كتاب البادية محققا تحقيقا وافيا وشافيا، فساعدتني تلك المقدمة، والنص المحقق، على فهم فقرات مستعصية من كتاب البادية.

وبدأت أدرس عليه كتاب البادية على طريقة المحاظر القديمة، جملة بجملة، كلمة بكلمة. واستغرق ذلك عدة سنين، ولا زلت حتى اللحظة أستفسره في أمور تتعلق بكتاب البادية أو غيره من شتى العلوم، وكنت قد سجلت في سلك الدكتوراه في Ecole Pratique des Hautes Etudes de  -Paris    Sorbone    - فسافرت إلى باريس لمقابلة الأستاذ المشرف الدكتور حسين بن  خيرة، حيث زودني بإرشادات منهجية وعلمية ساعدتني في تناول الموضوع.   وقد نوقشت الرسالة في مارس 2022.

ولما كان كتاب البادية مشحونا بالأصول، وجب علي دراسة ذلك الفن دراسة منهجية، فطالعت  مراجع مثل : مدخل إلى أصول الفقه المالكي لمحمد المختار ول اباه، ونشر البنود على مراق السعود لسيدي عبدالله ولد الحاج إبراهيم، وسُلم المطالع لدرك الكواكب الساطع لجلال الدين السيوطي للشيخ محمد الحسن أحمد الخديم اليعقوبي الجوادي، وشرح مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول للإمام أبو عبد الله محمد الشريف التلمساني، والبرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين الجويني، والجامع لأصول الفقه المسمى أصول المأموم من علم الأصول للعلامة محمد صديق خان التنوخي.

وللغوص أكثر في مسائل الأصول المستعصية؛ لجأت إلى محاضرات عن الموضوع في الوسائط الحديثة، أنارتني على الخصوص في مسائل القياس العويصة، من علة ومسالك العلة من سبر وتقسيم، وتحقيق المناط وتنقيح المناط، إلى آخره.

وقد حصل شيء من التوفيق في الترجمة، فهنالك مقطع من جمع الجوامع لتاج الدين السبكي الذي اقتبسه الشيخ محمد المامي في كتاب البادية؛ طرحتْ ترجمته مشكلة عويصة، وأعياني البحث عن متخصص في الأصول يشرحه لي، فلم أجده؛ حتى وقعت على تسجيل مصور للأستاذ الدكتور الحسن البخاري يشرح نفس المقطع، فكان ذلك بمثابة فتح.

 إذ كنت قبل ذلك أجد بعض المعاناة، وأوقاتا من اليأس، حتى أظن أن المهمة مستحيلة، وأن لا سبيل إلى ترجمة كتاب البادية، أو بعض المقاطع من كتاب البادية؛ ولكن سرعان ما يأتي الفرج. وكانت أتذكر دائما - في تلك الأوقات العصيبة - ما قاله لي المرحوم أحمد باب ولد أحمد مسكة ممازحا، عندما خبرته بنيتي ترجمة الكتاب : "C’est un gros morceau" وذلك ما يعني أنها "مهمة صعبة". 

من ناحية أخرى، طالعت كل ما كُتب عن الشيخ محمد المامي عموما، وعن كتاب البادية بالذات. 

فبالإضافة إلى كتاب بُومِية ولد ابياه، آنف الذكر؛ طالعت مقدمة الشيخ محمد ول أحمد مسكة عن الشيخ محمد المامي، وكتابين لمحمد ولد البرناوي، وما كتبه أحمد كوري ولد ياب - وباللغة الفرنسية، طالعت ما كتبه محمد المختار ولد أباه، وعبد الودود ولد الشيخ، ويحي ولد البراء، والمقال الجيد الذي كتبه إسماعيل وارشايد حول كتاب البادية، إلى آخره.

 وفي مرحلة لاحقة، اتصلت بالدكتور عبد الرحمن ولد حمدي ولد أبن عمر، حيث تدارسنا مقاطع من كتاب البادية، واتصلت أيضا بالفتى اللوذعي أحمد ول حبيب اللهظ، المتخصص في الأصول؛ حيث درست عليه قصيدتَي قوادح العلة ومسالك العلة، الموجودتين في كتاب البادية.

كنت أيضا على صلة بعبد الله ولد أحمد بزيد، فكانت شروحه لبعض الفقرات مفيدة ومستنيرة.

الترجمة

طالعت شيئا عن نظريات الترجمة؛ يقول كورنا : "كل ترجمة تعتمد على مفهوم التفسير l’interprétation  فهي تولد من لحظة غير موضوعية، حيث يستشفي المترجم كل موارده  من قدرته الخلاقة ".

ويقول جورج دانيير إن المترجم يجد نفسه " في كثير من الحالات مرغما على الابتعاد عن النص، للحفاظ على روحه.

يقول كوستر Goster : "المعنى هو نقطة انطلاق النظريات التفسيرية التي ترى أن الترجمة ليست ترجمة كلام من لغة ما إلى لغة ثانية، وإنما هي البحث في لغة ثانية عن كلام يحمل نفس المعنى". 

تعتبر ترجمة أي كتاب من المخزون الثقافي للأمة مساهمة في نشر المعرفة، وتثقيف المسلمين - على اختلاف ألسنتهم - حول موروثهم الثقافي.

ولما كان القرآن قد ترجم إلى جميع اللغات الحية المعروفة، وترجم البخاري ومسلم، والموطأ، ومختصر الشيخ خليل، وقد اطلعت على ترجة جيدة أخرى - ممتازة -  لرسالة أبي زيد القيرواني؛ فكانت ترجمة أي كتاب ليست جائزة فحسب، بل مطلوبة؛ لما فيها من نشر العلم والفائدة.

كما أن الترجمة تعود بفوائد لا تحصى على المترجم نفسه، وذلك ما كنت شاهدا عليه بنفسي خلال ترجمتي لكتاب البادية أو "صوف الكلاب" كما كان يسميه مؤلفه، حيث التقيت بكثير من المشاييخ الأجلاء، وتعلمت الكثير عن الشيخ محمد المامي وآثاره وزمنه.

بالإضافة إلى ذلك قادتني الترجمة إلى الغوص في فنون كانت غائبة عني من فقه وأصول ولغة.

 

د. محمد سالم ولد مولود

تصنيف: 

دخول المستخدم