من المعروف أن المؤلف أو الفنان أيا كان : روائيا، شاعرا، مسرحيا، رساما، سينمائيا... له ميزاته الخاصة التي لولاها لما كان لعمله قيمة ابداعية.. فيها تكمن أصالته. وقد تظهر له وللمتلقي تلك السمات الشخصية، الفكرية أو الفنية، بسرعة وبدون عناء.. وقد تغيب أو لا تبدو لأي منهما بسهولة.
وسواء أداها صاحبها عن وعي أو بغير شعور منه، فهو يفضل عادة عدم الخوض فيها وعدم الإفصاح عنها. وكأنها "سر مهني" لا ينبغي كشفه، مؤَمِّنا بذلك مساره الأدبي والفني من أي منافسة أو خطر صادر عن النقاد أو غيرهم ممن قد يعترضون سبيله خلال رحلته الأدبية والفنية في محطاتها المتنوعة وعلى طرقها الشائكة.
لكن هذا النوع من الالتزام بالحذر أو الخوف من المنافسة أو من النقد لا ينطبق على جميع المؤلفين. فالروائي الموريتاني موسى ولد أبنو لم يتقيد به في نصه التالي : " قصتي".
ففيه يقدم مفاتيح قراءة دقيقة غير مسبوقة تعطي للقارئ فكرة عما يجري من حوار وشد وجذب بينه ككاتب من جهة، والكلمات والمفاهيم التي يتغذى عليها.. أو ينشئها أو يختارها، من جهة أخرى. من ابرز الأمثلة على ذلك ما يمكن وصفه بعِلم أسماء عَلم (onomastique) خاص به.
وهنا نلاحظ كيف يمتزج البعد الفلسفي لدى ولد ابنو - الحاصل على شهادة الدكتوره في الفلسفة من جامعة السوربون الفرنسية - مع ثقافته العالِمة، الواسعة والعميقة، المنبثقة من التراث الاسلامي ومن التراث والفكر العالميين.. وكيف يبدع هذا الكاتب /"الناقد" في توظيف هذا المزيج في"قََصَصه" - كما يقول هو مقتبسا الكلمة من نص القرآن الكريم.. وهذا المزيج يشرح لنا في "قصتي" كيف وظفه في رواياته مستخدما تقنيات تناص مركبة (intertextualité) ليس من اليسير على أحد أن يسبر أغوارها إن هو لم يعثر على هذه المفاتيح التي تساعد- ليس فقط- على الدخول والغوص في أعماق روايات موسى ولد أبنو وأبطالها، فحسب، بل يمكن أيضا الاستنارة بها خلال التعامل مع أعمال مؤلفين آخرين.
البخاري محمد مؤمل
------------------------------------------------
قصتي / بقلم موسى لد ابنو
1. قصتي مع الأسماء
• حدث ذلك قبل مجيئي إلى هذا العالم العجيب بفترة وجيزة، في نهاية خمسينيات القرن العشرين، (14 هـ) : رأت والدتي، رحمة الله عليها، في منامها أن "مصحف بنت شعيب أُلقِي في حضنها!". قصت الرؤيا على جدي، رحمه الله، الذي قال لها: "سترزقين ولدا، سمه موسى". وقبيل فجر يوم إثنين، وكان يوم عيد المولد النبوي، دخلت والدتي عالم الأمومة الجميل، فصدّقت عَبْرَ جدي لحلمها. هكذا أخذت اسمي!
وإذا كان العالم اللغوي الروسي رومان جاكوبسون Roman Jakobson يرى أن أول ما ينطق به الطفل الرضيع هي كلمة "ماما" (امّاه)، لأن حرف ال"م" أسهل على الرضيع لتشابهه مع حركة الفم التي تصدر منه خلال الرضاعة، لذلك يقولها الرضيع بدون مجهود وبكل سلاسة مع عملية الرضاعة، ويقول باستمرار "ماما". إلا أن موسى الرضيع لم ينطق أول ما نطق بكلمة "ماما"، لكنه نادى أمه باسم غير مسبوق، فلم يقل "المّاه" وإنما قال "مَكُّدَّايَه"! يا لها من فرحة تغمر الأم التي كانت تشتاق إلى اللحظة التي سينطق فيها طفلها بكلمة "امّاهْ"، التي جاءت بهذه الصيغة العجيبة...
عندما صرت أضع أسماء أبطال رواياتي، وبعد اطلاعي على دراسة رولاَنْ بارْت Roland Barthes "ابْروسْتْ والأسماء" Proust et les noms، تكشَّف لي هذا الاسم، مَكُّدَّايَه، وتجلى لي في معانيه الأولى. يقول Roland Barthes "إن اسم العلم يتطلب استكشافا لفك رموزه، فهو شيء ثمين مكنون وفوّاح، يتفتح كالوردة... وهو بمفرده يمثل بابا كاملا من القاموس." هذا حتى ولو لم يكن يحمل دلالات لغوية بديهية. أما إذا كان يحملها، فإنها تكون هي المفتاح للوقوف على مكامنه. فهل يحمل هذا الاسم، مَكُّدَّايَه، دلالات لغوية؟ مَكُّدَّايَه اسم علم مركب مزجي، يتألف من اسمين حتى صارا كلمة واحدة، مثل "سيبويه"، واسمه الحقيقي عمر بن عثمان بن قنبر، وهو من أصل فارسي. ومعنى اسم سيبويه "رائحة التفاح". كانت أمه تدلّعه بذلك. أما الكلمتان اللتان شكلتا الاسم مَكُّدَّايَه فهما كلمة "مَكّ" ومعناها: مص الصبي ثدي أُمه. والمكون الثاني هي كلمة "الدّايَه" ومعناها: المُرضِعة أو المُوَّلِّدة...
• من الغريب أن هذا المزج بين المعاني لتشكيل اسم العلم صار منهجي في وضع أسماء أبطال رواياتي. هكذا فإني، ومن خلال اسم واحد من بين أسماء أبطال رواية مدينة الرياح، ڤُوسْتْبَاسْتَر ْ(Ghostbuster) الذي نُحت ليتناغم مع اسم أوْدَاغڤُوسْتْ، تجاوزت اللغات لأصِل إلى صميم دور هذا الشخص في النص. فتصير كلمة " ڤُوسْتْبَاسْتَر ْ" في الرواية إسما لرئيس البعثة الأثرية التي تبحث عن أَوْدَاڤُوسْتْ، مدينة القوافل المفقودة التي طمرتها الرمال ولم يعد أحد يعرف مكانها. فتشكلت كلمتان- تبعا لإيقاعهما الموسيقي وتناغمهما مع كلمة "أوْدَاغڤُوسْتْ"-Ghost )ڤُوسْت("شبح" بالانجليزية، وBuster (باسْتَر) "باحث". فجاءت كلمة "Gostbuster" إسما للباحث الأثري في الرواية، الذي يعني إسمه بالإنجليزية الباحث عن الأشباح...
• لكن الحدث الملهِم الذي انطلق منه الحكي، في مدينة الرياح، كان اكتشاف اسم ڨارَا. كانت الفكرة التي سبقت اكتشاف اسم بطل الرواية وكتابتها تتصور عملا روائيا يكون لوحة سيسيوتاريخية للمجتمع الموريتاني. هكذا فرضت الفترة المرابطية نفسها كبداية، لأنها المرحلة المؤسسة لتاريخ هذا البلد. في تلك الفترة كان صنهاجة البيض يقطنون شمال وغرب موريتانيا، بينما كان ﮔﻧﮕار َ السود يسكنون الجنوب والجنوب الشرقي؛ فيكون إذن المجتمع الصنهاجي-ااﮕﻧﮕارِي هو مجتمع الرواية. ومن ثم جاء دور موسيقى التيدنيت التي أنتجها هذا المجتمع وثلاثيتها التي طبعت ثقافة البيظان والتي شكلت ثلاثية النص. وخلال بحثي عن أسماء شخوص هذه الفترة التي سترد في الحكي، اكتشفت أن الاسم الحقيقي لعبد الله بن ياسين، داعية المرابطين، هو سيدي عبد الله مُولْ ڨارَا، ووجدت أن "ڨارَا" اسم يعبر بجلاء عن تلك المرحلة من تاريخ هذا البلد، ببعديها الصنهاجي وااﮕﻧﮕارِي. ف"ڨارَ" كلمة تحمل رنينا سودانيا ﮔﻧﮕاريا، وهي في نفس الوقت كلمة عربية-بيظانية. فكلمة "ڨارَ" تعني في الجغرافيا البيظانية "الجُبيل المستدق، المنفرد، الأسود، شبه الأكمة، مَلْمَلَهُ الحَتُّ، فبقي شاهدا على طبيعة عبثت بها عوامل التعرية". أخذ بطل الرواية اسمه ولونه الأسود من هذا المعنى، كما أخذ منه وظيفته كشاهد على أزمنة غابرة. وبما أن سيدي عبد الله مول ڨارَا، المعروف بابن ياسين، كان بطل تلك الفترة التاريخية، توصلت إلى نتيجة مؤداها أن اسم بطل الرواية سيكون "ڨارا". وجاء اسم أبي البطل "فارَا مُولْ" نتيجة لهذا الإلهام: "مول"، إشارة إلى الأصل البيظاني لاسم ڨارَا، و"فارا" إشارة إلى أصله الزنجي. هكذا تكون ثنائية الفترة، بجانبيها الصنهاجي وااﮕﻧﮕارِي، قد تجسدت في اسم البطل. عندها بدأت استكشف هذا الاسم، أعني اسم ڨارَا، لأن الاسم، كما يقول رولان بارت Roland Barthes، «يمكن أن يستكشف وأن يتكشف وتحل رموزه. فهو وسط بالمعنى البيولوجي، يمكن أن نغوص فيه، ونسبح إلى ما لانهاية في المتخيل والتأملات التي ينطوي عليها، كما تحتوي الصَّدَفَةُ درتها، أو كما تختزن الوردة أريجها قبل تفتقها. وبعبارة أخرى فإن اسم العلم يحمل دائما في طياته معنى مكثفا».
إن تفتق معنى ودلالات اسم ڨارَا هو الذي أعطى لبطل الرواية وظيفته كشاهد على الزمن الغابر، والذي يمكن أن يجتاز الحقب. وهذا المعنى المستوحى من طيات الاسم هو الذي أوجد فكرة حكي يتناول فترات زمنية متباعدة. كما أنه أوجد فكرة انتقال البطل من الزمن الفلكي إلى اللازمان، لكي يتمكن من الانتقال من فترة زمنية إلى أخرى. ومن ثم جاءت فكرة الزمن الكهفي وفكرة الخضير، مَلَكُ الزمن، الذي يمكِّن البطل من الانتقال في اللازمان. يظهر من هذا أن الرواية كلها تبلورت انطلاقا من استكشاف دلالات هذا الاسم.
• ترتبط دلالات الأسماء بمواضيع الحكي. فأسماء الشخوص ليست اعتباطية، وإنما هي ذات دلالات، وتحمل في طياتها مواضيع الحكي. هكذا تظهر الجدلية بين الأسماء والسرد. وقد تمثل بعض أسماء الشخوص نقطة انطلاق تشكل النص، وفي بعض الأحيان تفرض أسماء الشخوص نفسها انطلاقا من مسار السرد. ففي "الحب المستحيل" تشكل النص انطلاقا من اسم آدم الذي يرمز للإنسان الكامل، الرجل الأول الذي خرجت من ضلعه المرأة وبسببها وقع في الخطيئة، ونقض الميثاق الإلهي، فطُرد من الجنة. وقصة سيدنا آدم تنبئ بزلات البشر في العصر المستقبلي، والتي يتمحور حولها النص. يترادف اسم مَاِنكِي (Manikè) بطلة القصة، مع كلمة manikè"" التي تعني في اليونانية "فن التنبؤ بالمستقبل" وتعني أيضا في اللغة اليابانية "المرأة التي عرفت الحب". ترمز هذه البطلة لشخص المرأة المتحكمة في مصير الرجل، وقد مثلت قدر آدم في الرواية، وهو الذي تحول إلى امرأة من أجل أن يعيش حبه معها. أما (Androgyne) في رواية L’Amour impossible الذي صار خُنَاثَةُ في "الحب المستحيل"، فهو شخص يرمز، كما يوحي اسمه، إلى اختلاط الأدوار وإلى محو الفوارق بين الجنسين، الذي تفاقم في المجتمعات الحديثة. وفي "الحب المستحيل" يوجد أيضا شخص ريمان(Riman) الذي يوحي اسمه بالشيطانية ويمثل أهل الشر في مجتمعات التقانة.. واسم سُولِيمَا Solima ، في مدينة الرياح، منحوت من الحروف الأولى من كلمات فرنسية ثلاث: Soleil (الشمس) و Libya (اسم النقطة 32 من الخريطة الأرضية لكوكب المريخ) و Mars (المريخ)، وذلك لأنها لما كانت تُحضِّر رحلتها إلى الأرض تدربت في "مركز تدريس اللغات والحضارات الإنسانية" الموجود داخل النظام الشمسي في ليبيا، على المريخ...
• أما شخص أبو الهامة "الرجل الدميم عظيم الهامة" في روايتي الحب المستحيل ومدينة الرياح فهو سقراط، كما وصفه أفلاطون في كتابه الثناء على سقراط. ويعود وجود الشيطان وسقراط دون أي تغيير في اسميهما أو في ملامح شخصيهما، من نص إلى آخر، إلى كون الأحداث التي تدور في الروايتين هي تجسيد للصراع الأزلي بين الخير والشر، وذلك من المنظور الديني-الفلسفي الذي جسده أبو الهامة (سقراط) في الجزء الأخير من مدينة الرياح، حيث ظهر وقد أعفى لحيته وجعل على هامته طاقية الأصوليين، وتحدث بوعظهم. يوجد مسوغ آخر لظهور سقراط في مدينة الرياح، وهو أن بعض استتباعات قراءتي لأسطورة المَأْدُبَة (الأفلاطونية) التي وردت في الحب المستحيل توجد أيضا في مدينة الرياح: فإذا كان العقاب الإلهي الذي نزل بالجنس الأنْدْرُوجيني قد نتج عنه ظهور الجنسين، الذكر والأنثى، فإن هذا الفصل رافقه فصل آخر فصَم شعور كل إنسان إلى ثنائية الوعي واللاوعي، التي لا تقل خطورة عن فصل الإنسان اللأندروجيني المتكامل، بأنوثته وذكورته، والذي جعل منه الزوجين الذكر والأنثى، كما ورد في أسطورة المأدبة. هذه الثنائية بين الوعي واللاوعي شكلت موضوعا محوريا في رواية مدينة الرياح.
2. قصتي مع القرآن
• تدور أحداث مدينة الرياح في برازخ التاريخ، وتعتمد أسلوبا في الكتابة برزخا بين الواقعية والرمزية، وبين رواية الخيال العلمي والرواية التاريخية. فالمكان والزمان والأبطال واللغة التي أنتجتها الرواية تتأسس في فضاء بعيد، فضاء القَصص القرآني. تستلهم رواياتي النص القرآني، سواء في وجهها الإبداعي: (خلق المصطلحات والجمل وأسماء الأبطال)، أو في تكوين عالم جديد يحاكي عوالم القَصص القرآني، أو حتى في إيجاد تقنيات جديدة للحكي. فمثلا، خلال كتابة الرواية، واجهت معضلة إبداع بطل يشهد على عشرات القرون وينتقل بين حقب زمنية متباعدة. وإن كانت فكرة نسبية الزمن قد خطرت ببالي كطريق إلى حل ممكن، إلا أنها لم ترُق لي. لكن عندما استحضرت قصة أصحاب الكهف، وكونهم عاشوا {ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا} تبلورت أمامي طريقة تمديد حياة بطل الرواية لتغطي قرونا كثيرة. كما أني استلهمت القَصص القرآني في خلق شخصية الخضير في الرواية، ملَك الزمن، الذي ينقل البطل من فترة زمنية إلى أخرى، ليؤدي وظيفته كشاهد على الفعل الإنساني عبر التاريخ. وبما أن موضوع الرواية الرئيسي هو بصيرة الإنسان والحكم عليها من خلال مقارنة فترات من التاريخ تفصلها قرون عدة، كان لابد من إيجاد لحظة يتكور فيها الزمن، لحظة يمكن أن تشتمل على عشرات القرون التي جابها البطل، وتكون هذه اللحظة لحظة حق تنجلي فيها الحقيقة أمام البطل-الراوي، وتمكنه من الحكم على التاريخ وعلى نفسه وعلى الزمن. هنا يظهر دور القَصص القرآني وأهمية استلهامه في الكتابة الروائية وفي حل معضلات السرد. لقد جاء في القرآن الكريم أن لحظة الحق هذه كائنة، وهي لحظة سكرة الموت: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ(19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ(20) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ(21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (سورة ق). فعند سكرة الموت يتمدد الزمن ليستدير، فيُسترجع الأمد مهما طال، وتُسترجع البداية، وتتكشّف الحقيقة. هكذا جاء الحكي في رواية "مدينة الرياح" ليروي لحظة الحق هذه، لحظة الشهادة التي ينكشف فيها الغطاء. يروي البطل في هذه اللحظة، ببصيرة ثاقبة، أحداثا عاشها في زمن امتد عشرة قرون. أحداث كان في غفلة منها، فتكشفت له وصار شاهدا عليها، يعرف كل شيء عنها ويحكم عليها ببصيرة:
«...أنا في عالم جديد، تهاجمني خلاله ذكريات تافهة، غريبة، من الحياة التي تغادرني.. وجاءت سكرة الموت بالحق.. لم أعد في غفلة من شيء.. بصري اليوم حديد.. أضاءت سكرة الموت تلافيف حياتي التي ظهرت بصور مكبرة آلاف المرات، والزوايا المظلمة كأنما صوبت عليها آلاف الشموس الصحراوية الموتورة.. انزاحت الحواجز بين الظاهر والباطن، البادي والخفي، المعلوم والمجهول.. الوعي يتم من خارج منطقة الوعي. إنني من منطقة ما بعد الحياة، وما قبل الموت، من منطقة التخوم، أستعيد شريط حياتي.. أسمعه، وأراه، أدركه بالتفاصيل. ليس فيه قبل ولا بعد.. أنا الذي أفنيت حياتي أحاول، بلا جدوى، أن أربط حياتي بأحلامي، وشعوري بلا شعوري، ووعيي بوعي الآخرين، لأصدر حكما على الآخرين وعلى ذاتي وعلى الزمن، وارتدت محاولاتي يائسة مخذولة، ها أنذا أشاهد ما عجزت عنه طوال حياتي يتحقق من تلقاء نفسه ساعة موتي.. الآن، وبعد ما خرجت من الميدان، أرى نتيجة المعركة الحاسمة بين حياتي وأحلامي، مجسدة أمامي بدقة متناهية، كل شيء فيها يأخذ حجمه الصحيح، قبل أن تلتهمها بالوعة العدم. أرى العالم كله من عدسة ناظور، كله الآن بديهيات، لم تعد ثمة ألغاز ولا أسرار.. كله على مستوى واحد من الوضوح. الزمن اختزل نفسه في بعد واحد، لم يعد ثمة ماض ولا مستقبل، أصبح حاضرا فحسب.. وشخصت البداية...» (مدينة الرياح، ص 9-10).
• تتجلى في القصص القرآني كل الحقيقة الإنسانية، وكل تحديات الحاضر. هذا ما جعلني أستلهم من القرآن الكريم أهم موضوعاتي الروائية. ففي روايتي الأولى، الحب المستحيل، تمحور الحكي حول الأمانة الواردة في الآية قبل الأخيرة من سورة الأحزاب. {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} فالأمانة هي أمانة العِلْم التي أودعها الله الإنسان، عندما علمه الأسماء: {وعلم آدم الأسماء كلها}؛ والظلم هو الجهالة المحكوم بها أزليا على الإنسان، والتي تجلت في زلاته في ماضيه وحاضره وفي مستقبله. وهذا ما تكرسه المدن غير الفاضلة في "الحب المستحيل". أما بنية مدينة الرياح فهي تَمثُّلٌ لقَصص سورة الكهف. فالأجزاء الثلاثة في الرواية تتناص مع القَصص في هذه السورة: (قصة أصحاب الكهف، قصة موسى عليه السلام والخضر، وقصة ذي القرنين). كما أن هذه الأجزاء الثلاثة تتمثل المحطات الثلاث في قصة موسى عليه السلام والخضر (خرق السفينة، قتل الغلام، إقامة الجدار).
تتقاطع الثيمات في الرواية مع موضوعات القَصص في هذه السورة: السفر خارج الزمن (زمن الكهف) البصيرة (مجمع بحري المعرفة الإنسانية والمعرفة الإلهية)، الفعل وعلاقته بالخير والشر (خرق السفينة، قتل الغلام، إقامة الجدار)، وأيضا غرور الإنسان وقصور بصيرته، حتى ولو كان نبيا، (اعتراض موسى عليه السلام على أفعال الخضر). وهي أمور تُتمثل في الحكي من خلال حكم كاهنة أَوْدَاڨُوسْت على ڨارَا: "لن تستطيع أبدا أن تحكم بتمعن على المستقبل بالحاضر.." (الرواية، ص61). وهو الحكم نفسه الذي تحكم به الكاهنة على أُودِيبْ في تراجيديا صُوفُوكْل، أُودِيبْ مَلِكًا اليونانية. لكن التّناص يتجلى بشكل أوضح في كون "كهف" أصحاب الكهف برزخا زمانيا ومكانيا: {وترى الشمس إذا طلعت تزَّاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه}، والمكان في مدينة الرياح كهف برزخي، فجمهورية تَنْڨَلَّ هي "جمهورية المنكب البرزخي الديمقراطية"؛ وأحداث الرواية تدور في الفضاء الموريتاني الذي يسميه الشيخ محمد المامي "المنكب البرزخي" ويقول عنه أبو الهامة: «هذه الأرض برزخ» (ص54)، كما أن ڨارَا يقول: «كهفي ممتلئ سوداوية إلى حد الفيضان.. » (ص125)، وزمانها زمن كهفي: البطل ڨارَا ينقله الخضير في اللازمان، من فترة تاريخية إلى أخرى. والحكي في الرواية ينتقل مرتين من الزمن إلى اللازمان، حيث يفر البطل في نهاية الفصل الأول إلى قمة الجبل فيلتقي الخضير، ويفر في نهاية الجزء الثاني ليلتقيه مرة ثانية؛ مثلما هو الحال في سورة الكهف التي ينتقل قَصصها مرتين من الزمن إلى اللازمان: الأولى عندما يعتزل أصحاب الكهف مجتمعهم ويلجأون إلى الكهف، والثانية عندما يصل موسى عليه السلام إلى مجمع البحرين ليلتقي الخضر...
• ومن أبرز إشكاليات هذا التناص المقابَلة بين الجزء الأخير من الرواية الذي يتناول مستقبل مجتمع التقانة وقصة ذي القرنين التي تتناول مصير الأرض بعدما مُكِّن للإنسان فيها: {إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا}. ڨارَا والثعلب و فاله وكلابها و النَّمَادِي وكلابهم يشكلون أيضا تمثلا لأصحاب الكهف وكلبهم، ولاَزِمَة رواية مدينة الرياح: «إذا كنت رافضا للقدر فاعتزل البشر، وانفرد في الصحراء وانتظر أمر ربك.. » هي كذلك تمثّل لنداء أصحاب الكهف {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} (الكهف:16) في نهاية الجزء الأول من الرواية، يهرب ڨارَا من مجتمع بشري فاسد، مجتمع أُودَاغُوسْتْ، فيأوي إلى رأس جبل الغلّاوية، منتظرا الخلاص بالموت أو رحمة من الله، مجيبا نداء البعيد الذي جعل أصحاب الكهف يعتزلون مجتمعهم. فهو ينتج ويؤوّل على صعيد حياته البشرية هذا النداء الذي أجابه أصحاب الكهف. وهو نفس النداء الذي جعل موسى عليه السلام يقصد مجمع البحرين (بحر المعرفة الإنسانية وبحر المعرفة الإلهية) ليلتقي الخضر (الخضير في الرواية).
أما تأويل قصة ذي القرنين من سورة الكهف في مدينة الرياح فإنه نتج عنه تصور لما سيؤول إليه مجتمع التقانة. فعند ما أتدبر محطات ذي القرنين في سورة الكهف، وأتدبر تمكينه في الأرض وإتيانه أسباب الأشياء كلها، فالذي يتبادر إلى ذهني هو الإنسان التقاني الذي غزا مشارق الأرض ومغاربها، والذي تحكّم في الطبيعة: {إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا} (الآية 83). وعندما أتدبر ما ورد في القرآن الكريم عن محطات ذي القرنين (العين الحمئة، القوم الذين تطلع عليهم الشمس دون ستر، البشر الذين لا يفقهون قولا ويأجوج ومأجوج) فإنه يحضر ذهني تلوث المياه وتشقق طبقة الأوزون في الغلاف الجوي التي نتجت عن جهالات البشر وفساده: {إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض} (الآية 90) وهي كلها أمور تُذكِّر بما آل إليه مجتمع التقانة.
• إن القصص القرآني والأساطير والنصوص التراثية المؤسِّسة، سواء كانت عالمة أو شعبية، لا تقص علينا حكايات من الماضي بقدر ما تنبئنا عن خبايا مستقبلنا. وهذا هو مرتكز توظيف التراث في رواية الخيال العلمي. فرواية "الحب المستحيل" مثلا هي استلهام للخطيئة الآدمية على أنها أمر سيحدث في المستقبل، بطرد بني آدم من الكوكب الأرضي، الذي يكون قد دمره مجتمع التقانة. كما أنها أيضا تدبر للأمانة في سورة الأحزاب، على أن نقض الميثاق الأزلي الذي ورد في هذه السورة ينبئ عن جهالات وزلات مجتمع التقانة الواقعة في الحاضر والتي ستتفاقم في المستقبل. والرواية هي أيضا تأويل لقصة آدم وحواء التي، وإن كانت قد خرجت من ضلعه لتوقعه في الخطيئة، إلا أنها تمثل أيضا مآله، بما أحدثه مجتمع التقانة من تخنيث للجنس البشري وهدم للأسس الطبيعية لعلاقات الجنسين من تكاثر وتكافل، وبتحويله الرجال نساء، والنساء رجالا، واستنساخه البشر. هذا القدر مطروق في "الحب المستحيل"، وقد قاد آدم، في نهاية الرواية، إلى تغيير جنسه للحاق بمحبوبته، حيث قرر أن يتحول إلى امرأة، فأصبح حواء. تتزاوج في "مدينة الرياح" وفي "الحب المستحيل" لغات عدة (تراثية، فلسفية، علمية) وأساليب عدة (روائية، شعرية، موسيقية، دينية). إنه عالم الرواية الذي يدعونا إلى التفكير: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} سورة الأعراف -الآية 176.
• يظن الإنسان أنه صائب النظر وأنه يسعى من أجل الخير وطبق الهدف الذي رسم لنفسه، لكنه في أغلب الأحيان يكون أعمى، بينما يظن أنه يبصر؛ فتنتج أفعاله عكس ما أراد. يظن الإنسان -والحالة هذه-أنه يسعى لمصلحته، وهو في الحقيقة يعمل لهلاكه. فيكون التخلص من الظاهر سبيلا أوحد لاكتشاف الحقيقة الجوهرية ومعرفة الحكمة الإلهية. وهذا بالضبط هو موضوع القَصص القرآني في سورة الكهف. ففي مستهل السورة تأتي قصة أصحاب الكهف الهاربين من ظلم المجتمع البشري، والذين يتقبلهم الله في رحمته، فيخرجهم من الزمن الفلكي ليدخلهم في الزمن الكهفي: {وترى الشمس إذا طلعت تزَّاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه} ليرجعهم بعد قرون إلى مجتمعهم، فيروا ما آل إليه. ثم تروي السورة قصة موسى عليه السلام والخضر، التي تُظهر بجلاء قصور البصيرة الإنسانية وعجزها عن تقصي الحقيقة. وفي الأخير تروي سورة الكهف قصة ذي القرنين الذي ملك الشرق والغرب، وجال الأرض مكتشفا الوجوه المختلفة لفعل الإنسان فيها، حتى وصل بين السدين وأقام السد دون يأجوج ومأجوج. وتُستنتج دلالة هذا القَصص في الآية 97 من السورة: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً(104) ﴾. يستوحي نص مدينه الرياح هذا المعنى ويتناوله على صعيد الزمن البشري، زمن التاريخ، ليقارن أفعال البشر في فترات متباعدة من التاريخ، لكن ضمن تاريخ بلد واحد (موريتانيا) من الماضي إلى الحاضر والمستقبل، تقاس من خلالها بصيرة الإنسان، وهل هو يسعى إلى الخير أم إلى الهلاك، وهل أن الإنسان ينتقل بفعله في التاريخ إلى الأفضل أم أنه يرذل. هكذا يكون ڨارَا، بطل رواية "مدينة الرياح"، الضمير الذي يقارن بين الماضي والمستقبل في مسيرة التاريخ، وهو الإنسان المنتشل من المستقبل البعيد ليروي ذاكرة الماضي السحيق...
3. قصتي مع تراجيديا اليونانية
في "مدينة الرياح" كما في "الحب المستحيل" أقحمت التراث القديم في رواية الخيال العلمي، سواء كان هذا التراث عالميا، من خلال تراجيديا اليونانية، أو عربيا إسلاميا من خلال القصص القرآني والتراث الشعبي الموسيقي البيظاني. جاء نص "مدينة الرياح" على منوال حكاية أُودِيبِّيَّة، لا بالمعنى الفريدي (Freudien)، ولكن بالمعنى الصُّوفُّوكْلِي. فَصُوفُوكْل (Sophocle) عندما ألف أُودِيبْ مَلِكا كتب تراجيديا البصيرة الإنسانية، وذلك وفق القراءة المتميزة التي قدمها كارل رينهارت (Karl Reinhart). فالطريق الفاصل بين بداية مجد البطل التّيبي (نسبة إلى مدينته تيب Thèbe)) إلى نهايته المروعة، هو صراع بين الظاهر المضلل والحقيقة الباطنية. يتَقدم أوديب نحو تجلي الحقيقة، وبهذه الطريقة -كما يقول هايدڨر (Heidegger) - "يتقدم خطوة خطوة ليجعل نفسه في اللاّكُمون، ولتتجلى أمامه الحقيقة، التي لن يطيق النظر إليها إلا بفقء عينيه، لينقذ نفسه من الظاهر المضلل. وهكذا يكون البطل التيبي قد اضطر إلى أن يعمي عينيه كي يرى حقيقة ذاته". فبفقدان بصره تمكن أوديب Œdipe من النظر ببصيرة، لتتجلى أمامه الحقيقة. يرمز ڨارَا لوجوه عدة من أسطورة أُودِيبْ (Œdipe): فهو تخبره كاهنة أوْدَاغٌوسْتْ بأن حفيده سيقتله، كما أخبرت كاهنة تيب Thèbe)) لاَيوسْ، والد أُودِيبْ، في الأسطورة اليونانية. لكن ﺗَﻧْڨَلَّ، حفيد ڨارَا، قاتل جده والمتزوج جدته، لم يفقأ عينيه كما فعل بطل تراجيديا اليونانية؛ لأنه الأُودِيبْ التقاني، الغارق في الظاهر، المنغمس في الخطيئة! تستلهم أيضا رواية "الحب المستحيل" نصا تراثيا عالميا آخر، هو أسطورة المأدبة لأفلاطون وتوظفه في الخيال العلمي لتصف مجتمعا مستقبليا نزل به نفس العقاب الإلهي الذي سبق وأن نزل بالجنس الأندروجيني .(Androgyne)
4. قصتي مع أَ ژَوَانْ
• ينتظم نص مدينة الرياح تحديدا على شكل جلسة موسيقية بيظانية، وتأتي أجزاؤه وفصوله مقابلة لطرق ومقامات التِّيدِنِيتْ (عود الموسيقى البيظانية)، فيقابل الجزء الأول من النص الطريق السوداء (أول طرق التِّيدِنِيتْ)، والجزء الثاني يقابل الطريق البيضاء (الطريق الثانية من التِّيدِنِيتْ)؛ ويقابل الجزء الثالث طريق ﻠڨْنَيْدِيَّه (طريق الغول انْوَفَّلْ، الطريق الثالثة في التيدنيت)، لأن هذا الجزء من الرواية يتناول المجتمع التقاني المستقبلي الذي فقد إنسانيته ولأن طريق ﻠڨْنَيْدِيَّه تمثل الموسيقى التي لم يعزفها البشر، بل إن عازفها هو الغول انْوَفَّلْ (الغول لغة يعني الهلكة، وكل ما أهلك الإنسان فهو غول؛ أو الغول: كل ما زال به العقل). جاءت ﻠڨْنَيْدِيَّه في النص باسم "برج التبانة" لأنها ترمز لعالم آخر، ولأن عازفها لا ينتمي إلى عالم البشر.. الجزء الأخير الذي قابلها تدور أحداثه في فترة مستقبلية هاجر فيها بعض البشر من الكوكب الأرضي إلى عوالم أخر، وفيها صارت كائنات فضائية تجوب برج التبانة، وأحيانا تحط على الأرض بحثا عن شذرات من عصرها الذهبي، كما هو حال سُولِيمَا التي تصطاد النفوس الخيّرة، مسافرة في الثقوب السوداء بسرعة الضوء، من نقطة إلى أخرى من مجرتنا.
• مَوْسَقَتْ ﻟڨْنيديه (جَانْبَتْ الغول) الجزء الأخير من "مدينة الرياح" الذي يتناول مجتمع ﺗﻧڨْلَّ ومدينته غير الفاضلة (مدينه الرياح).. ﺗﻧڨْلَّ "الغول الْمُلَوِّثْ" (الرواية) الذي حوّل المجابات الكبرى إلى مخزن للنفايات السامة.. في مراكز تخزين النفايات السامة، التي ترمز إلى هَلَكَةِ مجتمع التقانة وفساد أهله في الأرض، جاءت موسيقى ﻠڨْنَيْدِيَّه، كما وصفها ڨارَا: «ثقيلة، صاخبة، حادة، متلاحقة، سريعة، تعجل عن الآذان فتخترق الجسم، لتدخل من جميع مسام الجسد، ألحانها غليظة فاحشة..» (ص162). ويضيف ڨارَا واصفا هذه الموسيقى )في الصفحة 164 (: «كنت منزعجا شديد التوتر من الموسيقى الجحيمية التي تبعث النكد وتدفع إلى الإحساس بالقرف والغثيان؛ كتائب مسلحة بعتاد كثيف من الآلات الكهربائية والإلكترونية تتبارى في صخب يفجر طبلة الأذن، وينفُذ إلى مواطن الإحساس، كالمكاوي؛ سيل عرم من المفرقعات المحطِّمة للسكينة، العديمة التناسق والتناغم، يرافقها صراخ مسعور، يكرر ذات النبْحة في نشاز أبدي.. كلمات الأغنية في ضمير الأنا، تحكي عناد البشر في ضلالاتهم، موقعة على أوزان قصيرة مبتذلة..»...
• تقابل مقدمات أجزاء الرواية الثلاثة مداخل طرق التيدنيت وتوجد في كل جزء خمسة فصول تقابل المقامات (أَظْهُورَ) الخمسة، المشكِّلة لكل طريق من طرق التيدنيت. جاء هذا التقابل بين أجزاء وفصول الرواية وطرق ومقامات التيدنيت ليبرز علاقة موضوع الحكي في كل جزء مع دلالات الطريق المقابل في التيدنيت، والعلاقة بين ثيمات الفصول وثيمات المقامات. هذا التناص بين الرواية والتيدنيت نابع من الطبيعة المشتركة للزمن الروائي والزمن الموسيقي؛ لأن الأدب والموسيقى يحاكيان زمن الأسطورة، ولأن زمن الرواية وزمن الموسيقى، حالهما حال زمن الأسطورة، ينقذان من مأساة النهاية.. يكثر الاسترجاع في الرواية لأن موسيقى التيدنيت تفرض الترديدة والاسترجاع والتنويع، ويستدير زمنها كما يستدير الزمن في طرق التيدنيت ومقاماتها. هكذا إذن تنهل رواية "مدينة الرياح" من معين ميتلوجيا موسيقى التيدنيت، وبهذا تكون رواية سينفونية بالمعنى الحقيقي.
5. قصتي مع العربية
• بداية، أتقدم بجزيل الشكر إلى كل الأصدقاء الذين حثوني على تعريب نصوصي الفرنسية وراجعوها معي قبل نشرها. قصتي مع اللغة العربية بدأت مع مسار تحفيظي للقرآن الكريم، قبل دخولي المدرسة النظامية. أما في هذه المدرسة، فكانت اللغة العربية مهمشة وكان جل التعليم باللغة الأجنبية. إلا أني أتذكر أن مدرس العربية في الابتدائية، المرحوم أحمد ولد وَدِّيهْ، كان كثيرا ما يبعث معي تلميذا إلى المنزل برسالة شفهية إلى أسرتي: "أكرموه"...
• لما بدأت الكتابة، كنت لا أكتب إلا باللغة الأجنبية، الفرنسية. وبعد صدور روايتي الثانية، ألح علي صديقي أحمد ولد بياه، الذي كان لا يفهم الفرنسية، طالبا تعريب كتبي وقال لي: أمْل علي ترجمة، حتى ولو كانت بالحسانية، لهجتنا العربية في موريتانيا. فوافقت وشرعنا في التعريب أو "الحَسْنَنَة". اخترنا آخر رواية صدرت لي، BARZAKH ، التي صارت بعد تعريبها، "مدينة الرياح". فصرت أملي عليه ما كنت أظنه ترجمة وأدى ذلك إلى اكتشافين هامين قاداني فيما بعد إلى الرجوع إلى لغتي الأم!
-الأول هو مدى تأصل الحسانية في اللغة العربية : كنت كلما أمليت على صديقي ما احتسبه عبارة حسانية ورجعت إلى القاموس )القاموس المحيط ( وجدتها كلمة عربية فصيحة جرى عليها تغيير طفيف! هذا الاكتشاف ذكرني بقراءاتي في المرحلة الجامعية، عندما كنت أجري بحوثي في الفلسفة الإسلامية. في تلك الفترة، قرأت البيان والتبيين وكتاب الحيوان للجاحظ ومروج الذهب للمسعودي، فوجدت أن لغة هذه الكتب تشبه إلى حد بعيد الحسانية التي نتكلمها اليوم في موريتانيا.
-الثاني هو أن من يكتب بلغة أجنبية يتصور أنه يكتب نصا أصليا، بينما هو في الحقيقة يترجم نصا آخر لم يكتب بعد، ولن يكتب إلا باللغة الأم! والنصان ليسا إلا ترجمة لنص ثالث لن يكتب أبدا. ذلك أنه وراء النصين يوجد شيء آخر، هو ما يحاول النصان التعبير عنه. ويكون كلا النصين ترجمة موجهة للقراء الذين يفهمون هذا الأصل. لأن الانتقال من التفكير إلى الكتابة لن يتم إلا من خلال ترجمة، بما يعني ذلك من خيانات. يقول جاك درّيدا Jacques Derrida إن أحادية اللغة ضرب من المستحيل وأنه يوجد تصور لغوي قبل جميع اللغات يشكل ما قبل اللغة pré langage ومنه يمتح الكاتب ليعبر عن أفكاره. هكذا تكون عملية الترجمة من صميم الفعل اللغوي، وتكون دائما مؤسسة لهذا الفعل، خلاف ما هو شائع من أنها عملية لاحقة به. فإذا لغتنا الأم هي بمعنى من المعاني لغتنا الأجنبية الأولى! لذا يجزم درّيدا Derrida بأننا لا نملك أبدا اللغة التي نتكلم وأننا في الواقع دائما أجانب عليها!
• بعد اكتمال المسودة الأولى من "مدينة الرياح"، اختفى صديقي أحمد ولد بياه وراء قضبان السجن السياسي وتركني أواجه بمفردي تصحيح المسودة وإعدادها للنشر. فقمت بالتصحيح الأولي ثم عرضت المخطوطة على أصدقاء آخرين ) المرحومة الشاعرة خديجة منت عبد الحي، والكاتب محمد فال ولد عبد اللطيف والقاص والكاتب المسرحي محمد فال ولد عبد الرحمان والسفير والصحفي أحمد ولد المصطفى ( فرفعوا الأخطاء وبدأت عملية البحث عن ناشر. أعطيت المخطوطة لصديقي المرحوم محمد ولد حمّادي ليبعثها إلى الخليل النحوي في تونس لعرضها على الناشرين في مناسبة معرض الكتاب بتونس. فأخذها منه د. سهيل إدريس، صاحب دار الآداب اللبنانية، الذي تبنى النص ودعاني إلى بيروت لإصدار الرواية. لما نشرت "مدينة الرياح" لقيت ترحيبا واسعا من طرف النقاد وجمهور القراء العرب ولم يتصور أي أحد أنها مترجمة. وفي العام الأول من صدورها اعتمدتها اليونسكو لنشرها ضمن مشروع كتاب في جريدة المكرس للتعريف بذخائر الأدب العربي.
• هذه التجربة الأولى علمتني أن نصوصي الفرنسية ليست إلا ترجمات لأصول لم تكتب، وأنه يجب تعريبها من أجل الوقوف على هذه الأصول. فعربت رواياتي المنشورة وصرت أعرب أي نص أكتبه بالفرنسية.. بعد أحمد ول بياه تعاونت مع آخرين، وكنت أشترط أن يكون الذي أملي عليه الترجمة لا يفهم الفرنسية، ليستحيل عليه البحث عن اللغة الأجنبية وراء ما أمليه عليه في لغتي الأم. هكذا تعاونت مع الأستاذ محمد المصطفى ولد الندا في تعريب روايتي الفرنسية الأولى L’AMOUR IMPOSSIBLE، صدرت عن دار الآداب سنة 2000 تحت عنوان "الحب المستحيل"؛ ومع الكاتبة فاطمة بنت عبد الوهاب ود. محمدُّو ولد امَّيِّنْ والكاتب محمد الأمين ولد احظان ود. محمذ ولد محبوبي في تعريب LA MECQUE PAÏENNE )حج الفِجار(.
• لما اكتشف د. سهيل إدريس الرواية، أثارت لديه اهتماما كبيرا بالأدب الموريتاني وعبر لي عن أسفه من أن مجلة الآداب، التي كان يصدرها آنذاك، لم يسبق أن اهتمت بهذا الأدب وطلب مني المساعدة في إنجاز عدد خاص من المجلة حول الأدب الموريتاني. وجهت له دعوة وجاء مع زوجته إلى نواكشوط وشرعنا في إعداد العدد الخاص. شكلت لجنة من الأدباء والنقاد تـضم د. سهيل إدريس نفسه. لكن هذا الأخير عكس جل المواد المرشحة. وهكذا تحول العدد الخاص إلى ملف صدر في أحد أعداد المجلة...
6. قصتي مع السياسة
• بدأت ممارستي للسياسة مع نهاية ستينيات القرن العشرين. في سنة 1968 صرت عنصرا نشطا في مظاهرات وإضرابات التلاميذ، رغم كوني أنتمي إلى أسرة الرئيس الحاكم. في تلك الفترة، كانت موريتانيا تعيش تحت ظل نظام الرئيس المختار ولد داداه، الذي كان قد مضى على حكمه أكثر من عشر سنين؛ كنا ننتقد حكمه ونرى فيه وجه الاستعمار الجديد، وكنا نرفض نظام الحزب الواحد الذي انتهجه. كنا نرفض نمط حياة آبائنا ونتهمهم بأنهم يولون اهتماما كبيرا للأمور المادية وأنهم يتجاهلون معاناة العالم. وكنا أيضا ننتقد خياراتهم السياسية. الشباب اليوم لم يعد يحلم ولم يعد يُعنى بالسياسة وكل ما يهمه هو الاستقرار. لكن قلة عناية الشباب بالشؤون السياسية ظاهرة حديثة. في مرحلة الستينيات كنا لا نتردد في إسماع أفكارنا. كنا مطمئنين لمستقبلنا، فالبطالة لم تكن موجودة...
• إبان تلك الفترة، لم تكن الجامعة موجودة في موريتانيا وكانت مظاهرات الشباب تعني مظاهرات التلاميذ. في تلك الفترة، كنا متمردين على كثير من القيم التقليدية السائدة، وكنا نحلم بمجتمع جديد.. تتميز سن المراهقة بالإسراف والشطط في أمور الحياة، فكثيرا ما نتكلم عن "أخطاء مرحلة الشباب"، كما لو كانت الأفعال التي نقوم بها في هذه المرحلة من العمر تكون دائما ناتجة عن الاندفاع والطيش وعدم التفكير. لكني أرى أن اندفاعات الشباب هي في الواقع نوع من ممارسات المواطنة. فممارسات الشباب السياسية والاجتماعية تقوي روح المواطنة وتعد للقيام بدور المواطن الصالح. كنا ناقمين على الأرض كلها، كما يقول جُونِي هَالِدَيْ في أغنيته. كنا نهجر منازل أسرنا لنعيش في "القصور"، وما أدراك ما القصور: غرفة واحدة بدون أثاث. كنا نقضي فيها جل وقتنا، نعقد فيها اجتماعاتنا ونقرأ. كنا نكتب شعاراتنا على الجدران ونوزع المنشورات.
• انتميت إلى حركة القوميين العرب التي نشأت كرد فعل مباشر على هزيمة العرب ونكبة فلسطين والمشروع التغريبي ضدّ اللغة العربية؛ وكان عمري لا يتجاوز الأربعة عشر عاماً. في تلك الفترة لم يكن فكر البعث قد انفصل عن الحركة القومية عموماً. وكانت هناك ضرورة للاختفاء وللحياة التنظيمية السرية. تحمّلت المسؤولية الكاملة التنظيمية في قيادة الحركة الوطنية الديمقراطية التابعة لحزب البعث وساهمت في تشكيل جناح يساري ماركسي في الحركة، حيث قدت مع أخرين هذا الجناح الديمقراطي الثوري في صفوفها، قبل أن ينشق عنها في مرحلة لاحقة. كنا نحاول أن نتجاوز المدارس القومية التقليدية، وأن نتخطى اليسار الماركسي، الذي يتبنّى أممية لا ترى الحدود القومية، وقطرية تتجاهل الوجود القومي.
كثفت الحركة جهودها في البداية للدخول إلى المؤسسات التعليمية والعمال، والتغلغل داخل المجتمع من خلال النقاشات والمناظرات مع المنافسين حول أهداف ومبادئ القومية العربية، وضد المواقف الرجعية...
• كل اهتماماتنا كانت منصبة اتجاه الحركات الثورية في العالم الثالث: شي ڨيفارا Che Guevara وفيديل كاسترو Fidel Castro وهوشمينه Ho Chi Minh كانوا هم قدوتنا؛ وكنا نرى في اقتحام شباب الحرس الأحمر للساحة الصينية دليلا على أن الشباب يمكنه أن يجد لنفسه سلطة في المجتمع تمكنه من رفض سلطة الكبار والحكام. كنا أيضا نتابع باهتمام بالغ النضالات الدائرة في الولايات المتحدة الأمريكية من أجل انعتاق السود والاعتصامات وسائر الاحتجاجات التي كان ينظمها الهيبّي mouvement hippie والطلاب في العالم. الطابع الدولي لهذه الحركات جعلنا نضع أحداث موريتانيا ضمن ديناميكية عالمية.
• ابتداء من سنة 1968، وبعد القمع الشديد الذي ووجه به إضراب عمال ميفرما في ازويرات، اشتدت معارضتنا لنظام المختار ولد داداه وانطلق كفاحنا ضد الإمبريالية. إلا أن حنكة المختار ولد داداه السياسية مكنته من احتواء هذه المعارضة، عندما أخذ، ما بين 1972 و1974، سلسلة من الإجراءات المشهودة، كان من ضمنها مراجعة الاتفاقيات مع فرنسا وإصدار عملة وطنية وتأميم ميفيرما، التي كانت بمثابة "دولة داخل الدولة". بعد هذه الإجراءات، هرول كثير من المعارضين إلى دخول الحزب الواحد وانحسرت المعارضة، فصار المختار ولد داداه واثقا من نظامه ولم يتوان عن الارتماء في أحضان المغرب والزج بموريتانيا في "حرب الصحراء". تزايد عبء الحرب بوتيرة سريعة وعرفت البلاد أزمة اقتصادية غير مسبوقة، فجاء انقلاب 1978 وبدأ حكم العسكر...
• في سنة 1977 نلت شهادة الباكالوريا وسافرت إلى فرنسا في منحة إلى المدرسة العليا للصحافة في باريس. وفي عام 1978، بدأت دراسة الفلسفة في جامعة السوربون، موازاة مع دراسة الصحافة. في الجامعة تعرفت على دومنيك بوياحيىDominique Bouyahia ، شاب من أب جزائري وأم فرنسية كان ينشط في أقصى اليسار الفرنسي. عرفني دُومِنِيكْ على رَني لَفوفْر René Lefeuvre رجل سبعيني، مؤسس دار اسْبَارْتَاكُوس SPARTACUS التي كانت تنشر، منذ تأسيسها عام 1934، كتبا تعنى بنقد اسْتَالِينِيّة وأنظمة معسكر الاتحاد السوفييتي. دعاني رَني لَفوفْر للإقامة في منزله، الذي كان في نفس الوقت مقر دار النشر وصرت عضوا في جمعية "أصدقاء اسباتاكوس Les Amis de SPARTACUS " التي كانت تدير الدار. أهدافنا كانت واضحة: إحياء الفكر الاشتراكي غير اللينيني non léniniste وتعميمه وفضح الجرائم التي ترتكب في الاتحاد السوفييتي بدعوى بناء الاشتراكية. سعى رَني لَفوفْر دوما إلى التعريف بنضالات العمال وإلى إلقاء الضوء عليها بروح نقدية. لقد علمته التجربة أن الثورات وسياسات الذين ينادون بالاشتراكية أو الشيوعية يجب أن تخضع لفحص نقدي كالذي يخضع له المجتمع الرأسمالي. هذا هو ما كان رَني لَفوفْر يسميه "الماركسية الحية".
• لم يكن الفوضويون Anarchistes يعدوننا من ذويهم، بسبب ما كنا ننشر من نصوص ذات مرجعية ماركسية، فيما كان الّلِينِينِيُّون ينظرون إلينا كمشوشين، لأننا كنا ننشر أيضا نصوصا فوضوية. لكن ما كنا متأكدين منه هو أنه لا يهم إن كان النقد الراديكالي للمجتمع يأتي من ماركس أو من باكونين Bakounine ) مؤسس الفوضوية(. أذكر هنا موقفي، عندما عرض علينا تنظيم الفعل المباشر Action directe الإرهابي أحد نصوصه لنشرها. لم يتجرأ أحد من جمعيتنا لمواجهة الإرهابيين بقرار الرفض، فكنت الوحيد الذي واجههم به...
• بعد نيل شهادة الدكتوراه، غادرت فرنسا متوجها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فاستقبلني بعض أفراد حركة "مناهضة الواقع الراهن" situationnistes الأقصى يسارية، والذين كانوا على صلة بجمعيتنا في فرنسا. مكثت سنتين في نيويورك أزاول وظيفتي كمستشار في الأمم المتحدة ثم عدت إلى بلدي وانخرطت في مشروع أول جامعة وطنية، فقمت بتأسيس قسم الفلسفة، وبدأت معاناة سياسية واجتماعية جديدة…
7. قصتي مع الفرنكوفونية
• إن الترحيب الكبير الذي لقيته "مدينة الرياح"، النسخة العربية من BARZAKH، جعلني أشعر بمدى ازدراء الفرنسيين للكتاب الفرنكفونيين. ف BARZAKHصدرت 1993 في باريس وبقيت مطمورة في مجاهل لفراكوفونية إلى يومنا هذا، لا لأن الرواية دون المستوى، ولكن لأن كاتبها عربي-إفريقي. وهو نفس المصير الذي عرفته روايتي الأولى L’AMOUR IMPOSSIBLE، التي صدرت في باريس سنة 1990، ولم يسعفها أن الناشر أعلن عنها واصفا إياها بأنها "رواية أفريقية في الخيال العلمي". رغم هذا فقد قمت في مطلع العام 2009 بتأسيس تجمع للكتاب الموريتانيين الناطقين باللغة الفرنسية، في محاولة لتجاوز الصراع التقليدي بين الفرنكوفونيين والناطقين بالعربية. لكني قدمت استقالتي من هذا التجمع احتجاجا على ما عاناه المسلمون في فرنسا بعد هجمات باريس. كما تنازلت عن وسام جوقة الشرف Légion d'honneur الذي تقلدت في فترة الرئيس جاك شراك.
• قد يتساءل المرء: لما هذا الإصرار على الفرنسية وجعل هذه اللغة الأجنبية لغة الكتابة الأولى؟ ذلك لأن اللغة الأجنبية تمكنني من النظر إلى نفسي وإلى الواقع من زاوية لا تتيحها اللغة الأم، فتظهر لي الحقائق من وجهة نظر أخرى. عندها أعبر عما أرى باللغة الأجنبية ثم أرجع إلى لغتي الأم لتأصيل ما كتبت. تعودت على نشر النص الفرنسي قبل تعريبه، لكني الآن صرت أكتب النص الفرنسي ثم أبقيه كمسودة وأعربه، قبل أن أعود إليه لأعدله على ضوء نسخته العربية. حدث ذلك مع روايتي "حج الفِجار" التي كتبت أولا بالفرنسية، في الفترة ما بين 2001 إلى 2003 ثم عُرّبت في الفترة 2003 -2004- وصدرت عن دار الآداب سنة 2005، إلا أنها لم تنشر في نسختها الفرنسية إلا عام 2016.
8. قصتي مع القراءة
• لقد أمضيت كل فترة شبابي وأنا أعيش مع أسرتي على الطريقة الموريتانية: جميع أفراد الأسرة يعيشون في خيمة واحدة. الوالدان ألأقارب، الأبناء والبنات، دون أن ننسى مستلزمات الحياة التي تحتل هي الأخرى حصتها من المكان. لك أن تتصور مستوى خصوصية الحياة المتاحة لكل فرد في هذا الحيز الذي قلما يتجاوز 4 أمتار على 4. في خيمتنا كنت أجد طريقتي الخاصة التي تمكنني من القراءة: كنت أضع كُمَّ دَرَّاعَتي على رأسي وأمرره أمام وجهي، ليكون حاجزا بيني مع الآخرين، وأمسك كتابا أضعه بين وجهي وكُمَّ دراعتي وأبدأ القراءة، فتنقطع عني ضوضاء الأحاديث من حولي. أمكث هكذا ساعات وساعات أسبح في بحر القراءة الذي لا ساحل له!
• لما انتقلت أسرتي إلى نواكشوط، تخلى أبي عن التجارة وصار حارسا لملعب العاصمة، ونصبت أسرتي خيمتها في حائط الملعب. هذه المرة، لم أقاسمهم الخيمة؛ أخذت غرفة في بناية الملعب لأخلو فيها إلى نفسي. فكنت أستخلي فيها بكتبي. وكان أن اكتشفت في أحدى قاعات الملعب الفسيحة مستودعا كدست فيه أكوام من الكتب )كان الملعب يومها تحت وصاية وزارة الشباب والثقافة والرياضة (. كانت القاعة التي حولوها إلى مستودع للكتب غير مسقوفة. كنت أتسلق الجدران وألقي بنفسي بين أكوام الكتب وأمضي يومي أقرأ. أحيانا أبقى هكذا حتى هبوط الظلام، فأشعل الضوء وأواصل القراءة حتى يغلبني النعاس!
تصنيف: