قراءة الأصوات والحركات في حضارة: قصتي مع إبداع شبابي*...

الإطار و البداية.
منذ أيام قليلة صدر كتاب ينال الآن قسطا كبيرا ومتزايدا من اهتمام النخبة والقراء.

وقد كان من حسن حظي أن حصلت على نسخة منه قبل ذلك بفترة. كنت من خلالها أتوهمني في حوار واقعي لا ينقطع : دائما مع نفسي ومع الكِتاب..أحيانا مع مؤلفته .. وتارة أخرى مع الناشر. فهكذا، ما إن قرأت صفحاته الأولى حتى خلتني أبادر بالاتصال بمؤلفته التي عندي بها معرفة وروابط شخصية متينة. حدثتها بتحمس عن انطباعاتي الأولية وعن مشاعري تجاه "منتجها" الفكري. فبقيتْ صامتة..لا ترد علي إلا قليلا.. مقتصدة جدا في قولها، مبينة لي بأدب كبير عدم رغبتها في الكلام ، وكأني أزعجتها لما حدثتها عن نفسها أو عن أعمالها.
وأنا بدوري كنت أتذوق بعض الشيء طعم مرارة ما بسبب إحساسي بخيبة الأمل. كنت أتوقع منها "توددا".. وشروحا.. و "تشكرات حارة".. أكثر مما لقيت، ملاحظا أن تحفظها يخرج عما ألفته لدى كتاب آخرين مولعين جدا بالحديث عن الذات لدرجة النرجسية. ورغم اصراري، فقد فهمتُ أنني لن أوفقَ في "تكليمها" أكثر من ذلك: تواضع المرأة وحياؤها هما أشد وقعا عليها وتأثيرا من إلحاحي، حتى ولو كنت أكبر سنا من أبيها .. ولو أن لي بها أواصر قربى. بل على العكس: تبينتُ أنه علي أن أراجع نفسي وفضولي ـ الساذج تارة ـ الذي لم يكن مبررا في كثير من الأحيان. تركت الموضوع وتفرغت لمشاغلي الأخرى وقراءتي.
بعد ذلك بأسبوعين أو أكثر، ها هو هاتفي يرن: على الطرف الآخر من الخط رجل يدعوني للمشاركة في حفل توقيع كتاب، ويصر محدثي على أن أتقدم بالمناسبة بكلمة تتضمن تعليقا حول الكتاب. ثم وافاني بالمعلومات الأساسية:عنوان الكتاب ـ اسم المِؤلفة ـ مكان الحفل وتاريخه. ثم أخبرني أنه من المؤسسة القائمة على النشر: أي "منشورات مختبر علم الاجتماع" عارضا علي نسخة  من الكتاب إن كنت في حاجة إليها. أجبته أنها ليست ضرورية، ثم شكرته ووعدته بتلبية الدعوة .
وما إن انتهت مكالمتنا، حتى سارعت إلى الاتصال بالمؤلفة عبر الهاتف، قائلا:

عزيزه، أنت الآن سوف تتحدثين بإسهاب عنك وعن أعمالك أمام الناس. فلتشحذي عزائمك، ولا تبخلي جهدا لكي تتغلبي على الخجل.. فإني أوصيك على ألا يؤدي بك حياؤك الشديد إلى الارتباك".

فردت علي باختصار ..وبشجاعة ونفاذ بصيرة يدلان على أنها جديرة بالثقة :

" أتحدث عن نفسي! لا. لأنها لا تهم أحدا من الناس غيري. أما عن كتابي، فنعم: سوف أقدمه للحاضرين، وللقراء من ورائهم، راجية من الله العلي القدير أن يوفقني لما أريده دون أن يخل ذلك بسلوكي ".

أنساني قولُها "خيبةَ أملي" السابقة، خاصة لما لاحظت فيما بعد أنها أوفت بما تخيلته وعْدا أخذَتْه على نفسها إبان هذا الحوار الصوري. بينما بقيت أنا منشغلا .. وتائها أحيانا .. في تعاملي مع الموضوع على ارض الواقع. 

تخوفي ... ثُم قراري.
فورما وصلتني الدعوة لحضور الحفل، بدأ الشك يخمرني والأسئلة تتزاحم في مخيلتي : هل ينبغي أن أتكلم عن الكتاب و كيف يكون ذلك ؟ فإن رفضتُ، فبماذا أبرر سكوتي؟ وإن قبلتُ، فماذا أقول ؟ هذا علما أن كوني من المعجبين كثيرا بالكاتبة لا يساعدني على الخوض بموضوعية في أعمالها.. إضافة إلى أنني لست جامعيا.. ولا باحثا متخصصا في الموضوع.
كان تخوفي مبررا تماما، لكني أقدمتُ. لأقول ماذا؟ لم أكلف نفسي عناء البحث عن إجابة يفترض أن تأخذ صبغة "أكاديمية".. كما هو معهود في هذا النوع من المناسبات. عوضا عن ذلك، قلت في نفسي: " سوف أكلمهم ببساطة عن ما عشته مع هذا الكتاب".. أي عن قصتي مع قراءته التي جاءت على مرحلتين :
• قراءة لذاتي من أجل الاستمتاع دون سواه
• قراءة أردت من ورائها المشاركة في النقاش حول الكتاب
وحبذا لو التقتْ القراءتان في الخلاصة والإستنتاجات التي سوف أخرج بها.

قراءة بها استمتعتُ.
كنتُ قد قرأت الكتاب، كما اسلفتُ، قبل أن استلم الدعوة لحضور الحفل. ولم أملّ معاودة قراءته عدة مرات.أولها كانت بدافع فضول.. حسبته سيكون عابرا.. بدون تحمس مسبق.. ولا تعمق سيلحق. ثم سرعان ما تحول فضولي إلي متعة لذيذة.. دفعتني لأقرأ بصوت عال.. لأسمع.. ولاستمتع. فهذا الكتاب تذوقته: أصواتا.. ورنينا.. وموسيقى ... فهو بالنسبة لي: لحن مسموع.. يجب أداء نغماته بلا خَفِية .. هكذا صار إحساسي في كل مرة: استشعر أسماء الأصوات والحركات تشدو في وجداني من خلال مورفولوجيتها الناطقة عبر تناغمها الصوتي مع ما توحيه وما تؤديه من معنى. فكانت تسافر بي.. بعيدا..بعيدا..أجوب أعماق بلادي مستكشفا وباحثا مواطن الأصالة الحضارية والثقافية في هذه الربوع من الصحراء.
أما فيما يتعلق بالبنية الوظيفية الأساسية، كنت اندهش ـ كلما افتح صفحة ـ أمام خيار المؤلفة، مناجيا ذاتي أمام قدرتها علي مفاجأتي كقارئ.. وعلى شد انتباهي و إثارة فضولي كمواطن موريتاني من مجتمع البيظان. فوجدت نفسي أخاطبها منبهرا: "هذه هي الْبَدَّ"، مبرزا بذلك الخصوصية الفكرية والأدبية التي بين يدي. لأن "الْبَدَّ" في الحسانية تعني الخروج عن المألوف.. وقد تحمل "شحنة أخلاقية" ايجابية أو سلبية، أي مرفوضة أو مقبولة.. تبعا لظروف استعمالها وفقا للمعايير السائدة.
و"الْبَدَّ"هنا مقبولة تماما: فالكاتبة، باختيارها موضوع "أسماء الأصوات والحركات في الحسانية، بين الاصالة والتأصيل"، فإنها حقا: أبدعت.. إذ رفضت المسير علي الدروب الممهدة. فهي تؤكد لنا مرة أخرى أن ما يعرف عند الفلاحين في بلادنا ب: "امْرَايَرْ البقر".. إي المَهْيع أو النهج الذي تم رسمه منذ زمان، لا يليق بخيالها الفياض. وهذا ما جعلني أجد في الكتاب لذة ودفعا حماسيا لروحي وعقلي.. الذين سئما .. روتينا ورتابة سائدين.. قد أديا إلى وأد مبكر للتصور لدى الكثير من مفكرينا ونخبنا اليافعة.. تحت سيطرة المحاكاة والتقليد.

إشكالية تستحوذ على فكريالمعرفة المركبة...
بعد الانطباعات وعواطف الرضا الجياشة التي تولدت لدي منذ المرحلة الأولى، راجعت الكتاب مرة أخرى لعلي أخرج منه بمادة علمية أو أدبية تفيد في نقاشه.
تأكدت ملاحظاتي السابقة من جديد، لكنني حاولت جاهدا أن لا أقتصر عليها.. غير أنني بقيت عاجزا.. متذبذبا.. لست أدري من أين أدخل في أغوار هذا الكتيب الذي لا يكاد يتجاوز 120 صفحة من الحجم الجيبي... فبدا لي الموضوع أكثر تعقيدا مما يمكن قياسه بكمية الأوراق المطبوعة، ومما تصورته في بادئ الأمر: أنا أمام قضية معقدة لا تقتصر على المتعة الفنية فحسب، بل تُعنى بمعارف بشرية.. متعددة ومترابطة. فوجدت نفسي أغوص في متاهات القضايا الفكرية المركبة (la complexité de la pensée) كما عرفْتُها في بعض أدبيات رائد الفلسفة في عصر العولمة: الفيلسوف وعالم الأنتربولوجيا الفرنسي أدغار موران (ُEdgar Morin) . تأكدت فعلا أنني أمام إشكالية معرفية مركّبة، جديدة علي، أثارتها المؤلفة.

لمَّا يدخل إيليا أبو ما ضي على الخط...
لاحظت من تأملاتي أن باب الموضوع لم يطرق من قبل. أما الآن فها هو يُعرَض.. يُفَصَّل.. يُحَلَّل.. مجالات متعددة ومنابع متنوعة وضعتني مرة أخرى في شك من أمري؛ فهاهي الأسئلة تتجاذبني.. هي و التردد من جديد.. وأنا عاجز عن أي ردٍّ قطْعي.. أكيدٍ: أتخبط في طلاسم الشك.. مثل أدباء المهجر... أسائل قراءاتي ملحا ومفصلا من غير أن أحصل على جواب.. وأنا أتخيل إيليا أبو ماضي وهو يدخل معي علي الخط ويشاطرني إشكاليتي، وكأنه يردد معي تساؤلاتي، تعبيرا عن إعجابي ودهشتي أمام عمق وتنوع المسائل التي أثارت الكاتبة، وأمام شدة ترابطها :
أين نقطة العبور لدراسة هذا الكتيب؟ لست أدري.
أهو الأسلوب الشيق الرزين الذي ينساب من ريشة الكاتبة الشاعرة؟ لست أدري.
أهي المفاهيم السوسيولوجية والانتروبولوجية ..التي وافتنا بها لما فكت رموز الأصوات والحركات الواردة في اللهجة الحسانية وعلاقاتها بالموروث الاجتماعي؟ لست أدري.
أهو مجتمع "البيظان".. وصيرورته.. وتاريخه.. ومنابعه الأسطوريه والدينية التي يتغذي عليها... والتي نحتتها الكاتبة عبر المصطلحات الصوتية والحركية التي أوردت.. وفسرت.. وشرَّحت؟ لست أدري.
أهي المعطيات اللغوية واللسانية وعلاقاتها بعضها ببعض... وكيف يرتبط الدال بالمدلول صوتيا أوحركيا؟ لست أدري.
أهي دقة التأصيل لأسماء الأصوات والحركات في الحسانية من خلال المقطوعات الشعرية الجميلة ـ سواء باللغة الحسانية أو بالعربية الفصحى ـ لجهابذة من الأدباء المنتمين لهذا البلد، مستشهدة بهم الباحثة.. كأداة توثيق دقيقة للعبارة المنتقاة، مبينة ـ في كل مرة و حسب الضرورة ـ الظرف الزماني والمكاني للاستخدام ؟.. لست أدري.
أهي النماذج الرائعة من تراثنا الأدبي العتيق والحديث التي أوردتها الكاتبة الأديبة بمناسبة عمليات التأصيل بواسطة الشعر .. ومتانة الروابط بينها والمفاهيم التي أرادت الباحثة بيانها في كل حالة؟ لست ادري.
كيف انتبهت هذه الشابة لشاعرية وموسيقي صوتيتين معبرتين عن معان متعددة.. تُختزل في كلمة واحدة من الحسانية؟ لست أدري.
وما سرهذه الخصوصية في كون النغمة الصوتية لكلمة تنتمي للهجة بدوية صحراوية توحي بالمدلول..و هي متداولة بكثرة بين الناس.. في حين يعتبر إيحاء المعنى من خلال الصوت أسلوبا شعريا نادرا صعب المنال في لغات أخري توصف ب "الحضرية"، على سبيل المثال: (l’alliteration) في الأدب الفرنسي.. ؟ لست أدري.
تساؤلات كثيرة ..لم ولن أوفَّق في حصرها. فبالرغم من صغر حجم هذا "الكتيب"، فانه موسوعي من حيث ثراء المادة.. ونموذجي من حيث الأسلوب و المقاربة.

 محلي الإعجاب، والنقد والتحليل لآخرين...                  
وبسبب عمقه وغزارته، فإنني لما راجعت نفسي.. انتبهت إلى أن خبرتي المتواضعة لا تمنحني الكفاءة للغوص في أسراره وأغواره .. ولا الجراءة علي فك رموزه. فمرة أخري تبينت أن قراءتي له لن تتجاوز المستوي الذي يخولني فضولي "كقارئ مستهلك" و"منحاز" بوصفي "معجب" بالكاتبة التي نحتفل معها اليوم بإصدارها الثالث.. وهي تفاجئنا هذه المرة بنوع مخالف لما كنا عرفناه معها سابقا من موضوعات ومن مقاربات بحثية هي الأخرى كانت أصيلة وشيقة.
فهذا هو جهدي.. تاركا للسادة الجامعين..والباحثين..والكتاب..جدارة وأهلية النقد.. والتحليل.. والاقتراح..."فكل ميسر لما خلق له"، كما جاء في حديث نبوي شريف: هم قوم ميسرون للبحث الأكاديمي ومنهجيته.. بينما أنا فإن الله يسرني هذه المرة لدور القارئ المعجب بما قرأ.

سأختتم شاكرا ومهنئا.
كانت هذه هي قصتي مع قراءة هذا الكتاب النادر في نوعه.
شكرا لكم، أيها السادة المنظمون و المدعوون، علي دعمكم لإصداره، وعلى دعوتي بهذه المناسبة.
أما أنت، يا عزيزه، فأقول لك:
إنك رسمت مسلكا أنا أعتز به... اخترتِ: فأبدعتِ.. وجمعتِ: فدققتِ وأثريتِ.. وحللتِ: فرتبتِ وأصبتِ.. و كتبتِ: فأحسنتِ.. ثم أخرجتِ: فأمتعتِ وأرضيتِ.
وها أنت الآن أصدرتِ: فالمسارَ أكملتِ...
فتبارك الله عليك.
فمنا جميعا تستحقين: دعما.. و شكرا.. و تكريما.
هنيئا وشكرا لك.
 نواكشوط، 30 بريل 2014

البخاري محمد مؤمل ـ

-----------------------------------

* تم تقديم هذا النص من طرف كاتبه في شكل مداخلة شفوية بمناسبة تقديم الكتاب المذكور خلال حفل نظمه المركز الثقافي المصري بمقره في نواكشوط. وكان ذلك بتاريخ  30 بريل 2014

تصنيف: 

دخول المستخدم