أرسل الله تبارك وتعالى نبيه الخاتم ﴿ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ فوضع عن الناس ﴿ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾، فكانت رسالة الإسلام رسالة رحمة وتحرير، أنارت العقول وألانت القلوب وزكت الأنفس وحررت العبيد وأحيت الموؤودة وأنصفت المظلوم ومنحت المعدوم ورحمت الضعيف وأقامت العدل ونشرت الإحسان وأشاعت الحريات. وقد تنعم الإنسان المسالم في عهد النبوة والخلافة الراشدة بحرية الاعتقاد والتدين وحرية الرأي والتعبير وحرية التصرف والتنقل وحرية التعامل والتملك، وغيرها من الحريات العامة والخاصة.
وقد أعطى الله تبارك وتعالى للإنسان حق الحياة وحرم القتل وسفك الدماء بغير حق وليس في كتاب الله عقوبة قتل على غير القاتل والمحارب المفسد في الأرض. وهذا يعني أن حقك في الحياة يتوقف عند اعتدائك على حق الآخرين أيضا في الحياة. فالحقوق والحريات لا تبرر الفوضى والعدوان. وحرية الاعتقاد لا تعني المجاهرة بالردة والتحريض عليها في مجتمع مسلم تتأسس وحدته واستقراره وانسجامه على الإسلام، ولا تعني قبول أنشطة مؤسسات التنصير التي تضلل الأطفال وتستغل حاجة الفقراء والمساكين. لكنه في المقابل لا ينبغي للسلطة العامة أن تتدخل في أعماق الإنسان وتتغلغل في نفسه وتشق عن قلبه وتتسلط على ضميره وتتحكم في عقيدته. ثم إن هذا غير ممكن أصلا فلا سلطان في الواقع على الضمير، والتهديد بالقتل إنما يعطي لأعداء المسلمين ذريعة في اتهامهم بالنفاق بإظهار الإسلام وإضمار الردة خوفا من السيف.
والمسلمون هم أكبر المستفيدين اليوم من انتشار حرية الاعتقاد وتكريسها في الدساتير، نظرا للأفواج الكبيرة التي تعتنق الإسلام يوميا عبر العالم. والمسلمون هم أيضا أكبر الخاسرين اليوم من فقه التضييق على حرية الاعتقاد، حيث تستغله الجماعات التكفيرية المتطرفة من أجل استباحة دماء المسلمين باسم قتال المرتدين. حتى إنه وجد في الجماعات المتطرفة من يرى أن قتال حماس أولى من قتال الصهاينة، لأن قتال المرتدين أولى من قتال الكفار! هذا مع أن حماس هي عز الأمة وتاجها والصهاينة هم عدوها اللدود. وهل هاجر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام إلى المدينة المنورة إلا بسبب التضييق على حريات الاعتقاد والتدين والتعبير في مكة المكرمة.
وحاجتنا اليوم إلى معالجة أسباب التكفير والقتل لا تقل أهمية عن مجابهة موجات الإلحاد والانحلال. ولا شك أن الموظف الأكبر لرأي قتل المرتد اليوم هم أصحاب منهج التكفير والقتل. صحيح أن شباب المسلمين يتعرض لغزو ثقافي شديد في عصر العولمة، لكن دور دعاة الإسلام هو كشف عوار الشبهات لا قتل الملحدين، هو استئصال الداء لا الإجهاز على المرضى، ونشر العلم لا إبادة الجهلة. ثم إن معالجة أسباب التشدد تسهم في معالجة ظاهرة الانحلال، والعكس صحيح. فالتطرف يتسبب في ردات فعل قد تصل إلى الانحلال والإلحاد، كما أن موجات الإلحاد تغذي التشدد والتطرف. فالتطرف الديني والإلحاد نقيضان نظريا، لكنهما حليفان عمليا.
ونظرا لضعف أدلة رأي قتل المرتد رغم اشتهاره في الفقه، فقد سعيت إلى عرض الرأي الآخر بشكل تربوي. وخلاصة هذا الرأي الآخر أن القرآن يقر حريات الاعتقاد والتدين والتعبير في عامة نصوصه، وأن السنة النبوية العملية تأيدها، وأن أدلة "حد الردة" ليست قوية، بل هي واهية، وأنه لم ينعقد إجماع على رأي قتل المرتد، وأن قتال الصديق أبي بكر، رضي الله عنه وأرضاه، المرتدين المحاربين، ربما توسع في فهمه بعض الفقهاء بعده، فأدخل فيه المرتد المسالم، ثم اشتهر هذا التعميم في الفقه. وسيأتي تفصيل هذه الخلاصة.
ويهدف هذا البحث أولا إلى تبشير من لم يقتنع بعدالة قتل المرتد المسالم أن هذه القناعة لا تخرجه من الملة وأنه لم يمرق من الدين، فهذا "الحد" ليس من أركان الإسلام الخمسة ولا من أركان الإيمان الستة ولا من أحكام الله المعلومة من الدين بالضرورة. بل إنه ينسجم بهذه القناعة مع نص القرآن وروح الإسلام. ويهدف هذا البحث أيضا إلى تحذير الشباب المتهور من التعاطف مع أنشطة الجماعات المتطرفة التي تستغل هذا "الحد"، فتتساهل وتتوسع في التكفير، وصولا إلى سفك الدماء وإزهاق الأنفس، وانتهاء بالتوحش المروع في ذبح الإنسان في بشاعة نهى عنها رسول الله في ذكاة الشاة. ويمثل هذا البحث أيضا دعوة إلى مراجعة وتمحيص بعض مسائل تراثنا الفقهي في اتجاه تحريره من شوائب التجارب التاريخية وتأثير البيئات الاجتماعية الخاصة وإكراهات الظروف السياسية القاهرة. وهذا الذي يجعله أقرب إلى تجسيد نصوص الشريعة وأكثر انسجاما مع روح الإسلام وأنسب لدفع الشبهات التي تلصق بهذا الدين العظيم فتفتن طائفة من أبنائه وتصد عنه أفواجا ممن تحول هذه الشوائب بينهم وبين رؤيته على حقيقته. والمراجعة الفقهية المؤسسة على الكتاب والسنة أقدر على تحصين المنظومة القيمية العامة من الجهات التي تتربص بالمرجعية الإسلامية وتسعى إلى التشكيك فيها وتدعو إلى تجاوزها.
القرآن يقر حريات الاعتقاد والتدين والتعبير...
لقد أعطت كثير من الآيات في كتاب الله لكل إنسان حرية الاعتقاد. ومن أجمل ذلك أن الله تبارك وتعالى قرن حرية الاعتقاد بأعظم آية في كتابه، وهي آية الكرسي، فقال بعدها مباشرة ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ (البقرة: 256). لقد عرضت آية الكرسي عقيدة التوحيد في سياق يبين بعض أسماء الله الحسنى وصفاته العظيمة، ثم تلتها مباشرة آية تنفي الإكراه على قبول هذ التوحيد. وقال تعالى في نفس الآية ﴿ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾، فالإنسان حر مخير وهو يتحمل كامل المسؤولية عن اختياره، فمن اختار "الرشد" وآمن بالله ﴿ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ﴾ (نفس الآية) ومن اختار "الغي" فقد أساء الاختيار وحسابه على الله، وقد قال تعالى ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ (آل عمران: 85).
وقد توعد الله من ارتد بعد إسلامه فقال سبحانه ﴿ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ (البقرة: 217). وقال تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ﴾ (آل عمران: 90). وقال تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ﴾ (النساء: 137). ولم تذكر هذه الآيات المتعلقة بالردة ولا مثيلاتها في القرآن أية عقوبة دنيوية صريحة على المسلمين تنفيذها على المرتد.
وقد أكد تعالى أن الحساب على الاعتقاد أخروي بين العبد وربه وليس على الرسول ومن اتبعه إلا البلاغ الذي لا إكراه فيه ولا حساب. فقد نصت كثير من آيات القرآن بشكل صريح وبأساليب متنوعة على حرية الاعتقاد ومن أمثلة ذلك قوله تعالى ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴾ (الرعد: 40) وقوله تعالى ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ (الشورى: 48) وقوله تعالى ﴿ فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين ﴾ (التغابن: 12) وقوله تعالى ﴿ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ﴾ (الغاشية: 22). فمهمة الرسول هي البلاغ وقد جاءت عدة مرات بأسلوب الحصر في ما سبق وفي قوله تعالى ﴿ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ (المائدة: 99) وقوله تعالى ﴿ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ (النحل: 35) وقوله تعالى ﴿ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ (النور: 54) وقوله تعالى ﴿ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴾ (النمل: 92) وقوله تعالى ﴿ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ (العنكبوت: 18). وليس للمسلمين ولا عليهم إكراه الناس على الدين وقد قال تعالى لرسوله، صلى الله عليه وسلم، في استفهام استنكاري ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ (يونس: 99) وأمر تعالى رسوله، صلى الله عليه وسلم، أن يعلن حرية الاختيار ويتوعد بالحساب عليها يوم القيامة في قوله ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾ (الكهف: 30) وأمر رسوله، صلى الله عليه وسلم، أن يقول للكافرين ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ (الكافرون: 6).
ثم إن أول إذن بالقتال نزل به القرآن كان حماية لحرية الاعتقاد وحرية التدين في قوله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾. (الحج: 39-40). والعجيب أن الآية قدمت حماية دور عبادة اليهود والنصارى على المساجد. وفي ذلك تنبيه وتعليم للمسلمين حتى لا يظن جاهل أنهم مادموا على خطأ فيجوز أن تهدم دور عبادتهم.
كما أن القرآن يقر بشكل واضح حرية التعبير على كل المستويات ومن ذلك التعبير عن عدم الإيمان. بل إن القرآن خلد شبهات الكفار والملحدين كما خلد الحجج التي تكشفها وترد عليها في كل أدب واحترام. بل إنه ينهى عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن فقد قال تعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ﴾. (العنكبوت: 46). أما المسيئون الجاهلون الذين لا يقبلون موعظة ولا تصلح معهم مجادلة فإن الله يعلمنا تجاهلهم في قوله تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾. (الفرقان: 63). ويا ليت المسلمين يهتدون اليوم بهذا الهدي القرآني الذي تغلب فيه الحكمة التهور العاطفي، فلا يقع صاحبه في فخ الاستفزاز، فيضر الإسلام أكثر مما ينفعه، ويسيئ إليه أكثر مما يرد عنه الإساءة. وفي ترفع الحكماء عن إساءة الجاهلين وتجاهلها إماتة لها، بينما تكسب ردات الأفعال الغبية، التي يتورط فيها السفهاء، الباطل رواجا.
وليس في القرآن الكريم عقوبة دنيوية شرعية صريحة خاصة بالمرتد، فالقرآن يقر بشكل واضح حرية الاعتقاد وأخروية الحساب عليه يوم القيامة. وهذه حقيقة تطرح تساؤلا منطقيا حول الأدلة التي اعتمدها الفقهاء في وضع عقوبة للردة وقتل المرتد. فهذا لا ينسجم مع الآيات السابقة والأولى أن يكون لهذه العقوبة أصل في القرآن، لا أن يكون في القرآن ضدها تماما، وهو إقرار حرية الاعتقاد. ثم، كيف لا ينص القرآن على عقوبة تتعلق بإزهاق الأنفس وهو ينص على ما دون القتل من الأحكام.
والحقيقة أن القرآن يكفي للبرهان على أنه لايوجد حد للردة في الإسلام، فلن تنشئ السنة النبوية حكما لا أصل له في القرآن، فضلا عن أن تعارض ما أقره. وقد قال تعالى: ﴿ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ﴾ ( المائدة: 49). وقال تعالى: ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ (الأنعام: 38). وقال تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ ( النحل: 44). وقال تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾ ( النحل: 89). وقد كتب العلامة القرضاوي، حفظه الله ورعاه، في العلاقة بين القرآن والسنة: " السنة إذن مبينة للقرآن، أو مؤكدة له، أو شارعة لأحكام مستقلة في إطار مقاصده وكلياته، وليست معارضة له، ولا توجد سنة صحيحة صريحة تعارض القرآن. وما وجد من ذلك فلا بد أنه صحيح غير صريح، أو صريح غير صحيح. وغير الصحيح لا اعتبار له، وغير الصريح يجب تأويله بما يتفق مع القرآن، لأن القرآن هو الأصل، والفرع لا يخالف أصله. (...) فالقرآن هو الأصل والسنة شارحته وموضحته، وكل ما في السنة يرجع إلى الكتاب، بوجه من الوجوه، وقد أوضح ذلك الإمام الشاطبي في الموافقات، وأقام عليه الأدلة، وضرب له الأمثلة. (...) وقال ابن برجان: ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من شيء فهو في القرآن، وفيه أصله، قرب أو بعد، فهمه من فهمه، وعمه عنه من عمه، قال تعالى: ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾. فليس من السنة في شيء خارج عن القرآن، فضلا عن شيء يخالفه ويعارضه. وإنما فيها ما يبين إجماله، أو يخصص عمومه، أو يقيد إطلاقه".
السنة النبوية العملية تؤيد حريات الاعتقاد والتدين والتعبير
وقد كانت السنة النبوية، كعادتها، وفية لمبادئ القرآن، مبينة لأحكامه. وكان القرآن، بحق، خلق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كما قالت أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما. فأعطى، صلى الله عليه وسلم، خير مثال لاحترام حريات الاعتقاد والتدين والتعبير التي أقرها القرآن. ولا نعلم أحدا يدعي أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قتل، ولو مرة واحدة، مرتدا واحدا مسالما أو كافرا واحدا مسالما. هذا مع أن الردة وقعت في عهده، صلى الله عليه وسلم، في قوله تعالى ﴿ وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ﴾ (التوبة: 74). ومن الواضح أن رسول الله كان يحترم حرية الاعتقاد فقد خططت طائفة من أهل الكتاب لاستغلال هذه الحرية في فتنة المسلمين كما في قوله تعالى ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءَامِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُوا وَجْهَ النـهارِ وَاكْفُرُوا ءَاخِرَهُ لَعَلـهمْ يَرْجِعُونَ ﴾ (آل عمران: 72) ولم ينص القرآن على تهديد هؤلاء بعقوبة قتل المرتد، بل رد عليهم بالحجة والموعظة. ولو كانت للردة عقوبة في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، لما تجرأ هؤلاء على التلاعب بالدخول في الإسلام والخروج منه. وفي الصحيحين أن أعرابيا بايع ثم أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا محمد أقلني بيعتي". وشرحه بعض أهل العلم بأنه كان بايع على الإسلام ثم جاء يريد الارتداد عن الإسلام، ولم يقتله رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وقد كان إقرار حرية التدين واضحا من البداية فقد نص الدستور الذي كتبه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مباشرة بعد وصوله إلى المدينة على "أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم". وهذا البند وغيره يجعل من صحيفة المدينة وثيقة سلام في مجتمع متنوع الثقافات والأديان. وكان من احترامه، صلى الله عليه وسلم، لتعدد الأديان أنه يعلم أصحابه تقدير المشترك الإنساني. ومن ذلك في الصحيحين أنه قام، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه لجنازة يهودي حتى توارت، فقيل: (إنه يهودي)، فقال: (أليست نفسا ؟).
وقد تعرض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للإساءة والشتم والسب والأذى في حياته – بأبي هو وأمي - ممن ينتسب إلى الإسلام ويدعيه، ولم يعاقب أيا من المسيئين إليه. ومن ذلك قول بعض المنافقين ﴿ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ﴾ (المنافقون: 8). ومن أمثلة الإساءة إليه اتهامه، صلى الله عليه وسلم، بعدم العدل من طرف عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي، فلم يرد عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأكثر من (ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل)، ثم منع الفاروق عمر، رضي الله عنه، من قتله. رواه البخاري ومسلم. ومن ذلك اتهامه، صلى الله عليه وسلم، في نيته وإخلاصه في حديث ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال: "قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة فقال رجل من الأنصار والله ما أراد محمد بهذا وجه الله فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فتمعر وجهه وقال: (رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر). رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ البخاري. ومن ذلك اتهامه بالقبلية ونصرة الأقارب على حساب الحق والعدل حين حكم للزبير، رضي الله عنه، على رجل من الأنصار، فقال الأنصاري: "أن كان ابن عمتك". رواه البخاري ومسلم. ولم يزد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أن استوفى للزبير، رضي الله عنه، حقه. ومن ذلك اتهامه بعدم الصدق وعدم تطابق القول والفعل حين سبه أحدهم مباشرة قائلا "إن ناسا ليقولون إنك تنهى عن الشر وتستخلي به". فلم يزد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو الصفي التقي النقي، على أن رد بتواضع منقطع النظير: (والله لو فعلت لكان علي وما كان عليهم)، رواه أحمد في مسنده.
وقد تعرض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للإساءة أيضا من أهل الكتاب في المدينة ولم يعاقبهم. ومن أمثلة ذلك حديث أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، في الصحيحين، الذي أتى فيه بعض اليهود النبي، صلى الله عليه وسلم، ودعوا عليه بالموت قائلين "السام عليك"، فلم يرد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأكثر من "وعليكم". بل إنه أمر عائشة بالرفق ونهاها عن العنف والفحش حين انتصرت له وشتمتهم.
ويستدل بعض العلماء بقتل كعب بن الأشرف على حكم قتل الذمي إذا أساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الاستدلال ليس قويا فكعب لم يكن مسيئا فقط، بل كان محاربا مع ذلك كما يتضح من شرح الحافظ ابن حجر لحديث قتله في فتح الباري. فنحن حين نجمع قوله صلى الله عليه وسلم عنه في البخاري ومسلم: (آذى الله ورسوله) مع قوله عند الحاكم في الإكليل: (فقد آذانا بشعره وقوى المشركين)، وما نقله الحافظ ابن حجر عن عروة أنه كان يهجو النبي والمسلمين ويحرض قريشا عليهم، وأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (من لنا بابن الأشرف فإنه قد استعلن بعداوتنا)، ونضيف إلى ذلك ما رواه أبو داود والترمذي أنه (كان يهجو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويحرض عليه كفار قريش) وما أخرجه ابن عائذ أنه (قدم على مشركي قريش فحالفهم عند أستار الكعبة على قتال المسلمين)، نجد في الخلاصة أن كعب بن الأشرف قد آذى وهجا وقوى المشركين وحرضهم على القتال واستعلن بالعداوة وحالف قريشا على قتال المسلمين. فهذه أوصاف محارب تجاوز التشبيب والهجاء إلى الخيانة والمحاربة. ويبدو أن البخاري ومسلما يصنفانه محاربا أيضا حيث جعل البخاري حديثه في كتاب المغازي وجعله مسلم في كتاب الجهاد والسير. ويحسن التذكير هنا بأن قتل كعب بن الأشرف لم يكن فوضويا، فقد صدر فيه حكم شرعي نبوي. وهذا لا يمكن القياس عليه من أجل تبرير الإجرام الأحمق الذي يعطي لكل سفيه متهور سلطة سفك دم من شاء متى شاء وأين شاء بذريعة الانتقام لرسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وخلاصة القول في السنة العملية أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يقتل قط مرتدا مسالما، وإنما قتل مرتدين محاربين. وهذا يعني بوضوح أن سبب قتلهم كان محاربتهم وليس عقيدتهم. كما أن رسول الله لم يقتل مسيئا مسلما أو غير مسلم لمجرد الإساءة اللفظية إليه. وقد كانت حرية التعبير من المبادئ الأساسية في السنة، ولم تكن تقتصر على التعبير عن المعتقد، بل كانت تشمل التعبير عن الآراء السياسية، حتى أن أفضل الجهاد هو "كلمة حق عند سلطان جائر".
وقد نقل العلامة القرضاوي، حفظه الله ورعاه، عن شيخ الإسلام ابن تيمية: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قبل توبة جماعة من المرتدين, وأمر بقتل جماعة آخرين, ضموا إلى الردة أموراً أخرى تتضمن الأذى والضرر للإسلام والمسلمين. مثل أمره بقتل مقيس بن حبابة يوم الفتح, لما ضم إلى ردته قتل المسلم وأخذ المال، ولم يتب قبل القدرة عليه، وأمر بقتل العرنيين لما ضموا إلى ردتهم نحواً من ذلك. وكذلك أمر بقتل ابن خطل لما ضم إلى ردته السب وقتل المسلم. وأمر بقتل ابن أبى سرح, لما ضم إلى ردته الطعن عليه والافتراء. وفرق ابن تيمية بين النوعين: أن الردة المجردة تقبل معها التوبة، والردة التي فيها محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد لا تقبل فيها التوبة بعد القدرة.
ومحل الشاهد في كلام ابن تيمية أن المرتدين الذين قتلهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان ذلك بسبب جريمة إضافية أخرى اقترفوها، ولم يكن بسبب ارتدادهم فقط، وإلا لما فرق بين مرتد مسالم ومرتد محارب ولكان قتل الجميع. وقد عفا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن ابن أبي سرح وقبل توبته، رغم أنه كان قد ضم إلى ردته الطعن عليه والافتراء، لكنه لم يكن قد قتل أحدا كباقي المرتدين الذين ذكرهم ابن تيمية. والظاهر أن ابن القيم أيضا يميز بين المرتد المحارب والمرتد المسالم، فقد قال في إعلام الموقعين عن رب العالمين بقتل المرتد لكنه عقب عليه بما يعني عدم قتل المرتد المسالم قائلا "فإذا حبس شره وأمسك لسانه وكف أذاه والتزم الذل والصغار وجريان أحكام الله ورسوله عليه وأداء الجزية لم يكن في بقائه بين أظهر المسلمين ضرر عليهم، والدنيا بلاغ ومتاع إلى حين".
ولو كان المرتد يقتل حدا لرد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، شفاعة ذي النورين عثمان، رضي الله عنه، في ابن أبي سرح يوم فتح مكة بعدما كان قد أهدر دمه، وقد صححها الألباني في " صحيح النسائي"، فقد رد، صلى الله عليه وسلم، شفاعة الحب بن الحب أسامة بن زيد، رضي الله عنهما، في السارقة منكرا عليه: (أتشفع في حد من حدود الله) كما روه البخاري ومسلم. وفي رواية مسلم (فتلون وجه رسول الله) صلى الله عليه وسلم حتى قال له أسامة رضي الله عنه: "استغفر لي يا رسول الله". والجمع الواضح بين الحديثين أنه رد شفاعة أسامة، رضي الله عنه، لأنها في حد من حدود الله، بينما قبل شفاعة عثمان، رضي الله عنه، لأنها لم تكن في حد، وإنما كانت في أمر متعلق بالسياسة الشرعية تقبل فيه الشفاعة. ولو كان المرتد يقتل حدا لأشكل تنازل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن حد من حدود الله في صلح الحديبية الذي ينص على حق المسلمين في الردة وحقهم باللحوق بقريش.
أدلة رأي قتل المرتد ليست قوية
أما الأحاديث النبوية التي تستخدم في الاستدلال على "حد الردة"، فهي تحتمل قراءة مختلفة، تتفق مع احترام حرية الاعتقاد التي نص عليها القرآن وبينتها السنة العملية في النصوص السابقة. والاستدلال على "حد الردة" يرتكز في الأساس على حديثين أحدهما في الصحيحين والآخر في صحيح البخاري.
الحديث الأول حديث ابن مسعود، رضي الله عنه، في الصحيحين، قال قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق لجماعته). وقد علق عليه النووي، رحمه الله، في شرحه لصحيح مسلم، بقوله: "هو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت، فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام". ولكن الاستدلال بهذا الحديث على "حد الردة" يرده بعض العلماء بحجة قوية. وهي أن المقصود بالتارك لدينه المفارق للجماعة هو المحارب، ومن أدلتهم على ذلك أن هذا الحديث نفسه قد رواه النسائي عن عائشة، رضي الله عنها، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال في الثالث: (ورجل يخرج من الإسلام حارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض). ورواه أبو داود عن عائشة، رضي الله عنها، بلفظ آخر، قال فيه: (ورجل خرج محاربا لله ورسوله، فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض). ولذلك رأى بعض العلماء أن المعني بالحديث هو من جمع بين الردة والمحاربة، وقد قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ (المائدة: 33)
ويرى بعض العلماء أن هذه الأحاديث لا علاقة لها بالمرتد أصلا، فهي تتعلق بالحالات التي يقتل فيها المسلم حدا، وبهذا يكون التارك لدينه المفارق للجماعة في الحديث هو المسلم المحارب، لا المرتد. واستدلوا على ذلك بقول النبي، صلى الله عليه وسلم، في بداية الحديث (دم امرئ مسلم). وهذا قول العلامة محمد الحسن بن الددو، حفظه الله ورعاه، رغم أنه يرى قتل المرتد.
ويتضح مما سبق أن الأرجح في حديث ابن مسعود، رضي الله عنه، أنه في الخروج على المسلمين وليس في الخروح عن الإسلام. فهو في المحارب المعتدي، أيا كانت عقيدته، مسلما كان أو مرتدا.
أما الحديث الثاني الذي يستدل به بعض العلماء على "حد الردة" فهو حديث (من بدل دينه فاقتلوه) الذي رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس، رضي الله عنهما. وليس في البخاري ذكر للسياق الذي قاله فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فنحن لا نعلم متى قاله وأين قاله وفي أي شيء قاله. بل نحن لا نعلم حتى من الذي سمع هذا الحديث من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فالحديث مرسل لأن ابن عباس، رضي الله عنهما، لم يصرح بالسماع من رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وإسقاط الصحابي للصحابي لا يضر صحة الحديث عند المحدثين، لكنه يمنع استثمار السياق هنا في فهم المقصود. وهذا السياق مهم، فقد يكون فيه ما يدل على أن التبديل المقصود هو تبديل مقترن بالمحاربة، كما هو الحال في الحديث السابق. وهذا ما يتسق مع الآيات والأحاديث السابقة التي ينبغي الرجوع إليها في فهم هذا الحديث. وهذا أولى من ضرب الحائط بكثير من آيات القرآن بسبب حديث مجهول السياق، يمكن جمعه معها بشرح يجعل المقصود هو المرتد المحارب. وهذا ما يتفق مع الجمع بين النصوص بدلا من ضرب بعضها ببعض.
وقوله (من بدل دينه فقتلوه) فيه إشكال من حيث المعنى كذلك، فهل نقتل اليهودي والنصراني إذا دخلا الإسلام؟! لأن هذا هو الظاهر من دلالة اللفظ، فهي أديان وإن كانت محرفة غير مقبولة عند الله، إلا أن الشرع اعتبرها أديانا في التعامل الدنيوي ورتب على ذلك أحكاما معلومة كالذبائح والنكاح.
ثم إن الاستدلال بهذا الحديث في حالة ارتداد من ولد من أبوين مسلمين، وهو الحال اليوم، ليس قويا، لسببين: السبب الأول أن هذه الحالة لم تكن موجودة في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى يكون الحديث فيها. وذلك أن أول من ولد في المدينة للمسلمين هو عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما، وتوفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو صغير. والسبب الثاني أن من يولد من أبوين مسلمين لا تدري متى صار إسلامه اختيارا عن علم ووعي بعدما كان عن فطرة وتربية.
ثم إن هذا الحديث مطلق ويمكن جمعه مع الأحاديث السابقة المقيدة بالمحاربة، فيكون الحكم متعلقا بالمرتد المحارب. وحمل المطلق على المقيد أولى من ضرب النصوص بعضها ببعض.
هذا مع أن في حديث (من بدل دينه فاقتلوه) إشكالات أخرى، فالحديث عن عكرمة قال "أتي علي، رضي الله عنه، بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعذبوا بعذاب الله ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه". فهذا الحديث يحتوي على اتهام خطير للخليفة الراشد بجهل سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو مخالفتها، كما يحتوي على اتهامه بالبدعة في حرق الناس. وقد روى البخاري عن إبي هريرة حديث (إن النار لا يعذب بها إلا الله). وعلي، رضي الله عنه، بحر العلوم، ومنزلته من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكيف يفوته حديث خطير مثل هذا، يعلمه ابن عباس وأبو هريرة، رضي الله عنهما. وليس في الحديث تصريح باسم الذي رأى عليا وهو يحرق الزنادقة ولا بالذي بلغ ذلك لابن عباس، رضي الله عنهما.
بل إن الحديث قد لا يصح عن ابن عباس أصلا فعكرمة مطعون في عقيدته وصدقه. ففي تهذيب التهذيب لابن حجر رحمه الله وفي سير أعلام النبلاء للذهبي رحمه الله أن سيد التابعين سعيد بن المسيب كان يقول لغلامه برد "يا برد لا تكذب علي كما يكذب عكرمة على ابن عباس". وفي تهذيب التهذيب أيضا: "كان مالك لا يرى عكرمة ثقة ويأمر أن لا يؤخذ عنه. وقال الدوري عن ابن معين كان مالك يكره عكرمة قلت فقد روى عن رجل عنه قال نعم شئ يسير". وفي سير أعلام النبلاء أن الإمام مالكا والإمام أحمد، رحمة الله عليهما، يطعنان في عقيدة عكرمه, فهو من الخوارجي ونجد في سيرته تكفير المسلمين وتمني قتلهم. ولا عجب بعد ذلك إذا وجدنا أن عكرمة انفرد عن ابن عباس أيضا بالخرافة التي نسبوا فيها إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هدر دم أم ولد الأعمى الذي ادعوا أنه قتلها لأنها كانت تشتم رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
ويا ليت الإمام البخاري تجنب الرواية عن عكرمة كما تجنبها الإمام مسلم، رحمة الله عليهما. وقد تجنب الشافعي، رحمة الله عليه، في كتاب الأم، الاستدلال بحديث (من بدل دينه فاقتلوه) على قتل المرتد.
وليس في هذا طعنا في صحيح البخاري الذي يعتبر أصح الكتب المصنفة في الحديث، لكنه تذكير بأن الصحيحين، على مكانتهما الجليلة وفائدتهما العظيمة، ليسا معصومين من الخطأ. وأول من يقر بذلك إماما المحدثين البخاري ومسلم، رحمة الله عليهما، فإن بعض أحاديث البخاري لا يقبلها مسلم وبعض أحاديث مسلم لا يقبلها البخاري. وقد تتبع الدارقطني، رحمه الله، حوالي 200 حديث من الصحيحين. وضعف الألباني، رحمه الله، بعض أحاديثيهما وسلك سبيلا وسطا بين المتعصبين للصحيحين والمتاحملين عليهما، فانتقد في سلسلة الأحاديث الصحيحة الذين "يتعصبون لصحيح البخاري وكذا لصحيح مسلم تعصبا أعمى، ويقطعون بأن كل ما فيهما صحيح ! ويقابل هؤلاء بعض الكتاب الذين لا يقيمون للصحيحين وزنا".
وهذا لا يتناقض مع صحة أغلب الصحيحين، فقد انتقى البخاري، رحمة الله عليه، الحديث في صحيحه انتقاء دقيقا حتى لم يثبت فيه، من حوالي 300 ألف حديث يحفظها، إلا حوالي 7 آلاف حديث. وهذه نسبة تقارب 2%، وهذا يعني أنه استبعد من صحيحه 98% مما يحفظـ، أي أنه جمع وحفظ وحلل ثم استبعد مئات الآلاف من الأحاديث. ويا لها من تصفية. ثم لم يجد بعد ذلك من يتتبع صحيحه إلا في حوالي 200 حديث فقط من أصل حوالي 7 آلاف. وهذه نسبة لا تتجاوز 3% ولا يزال البحث فيها سار. وهذا مثال لقول الشافعي، رحمه الله: "أبى الله العصمة لكتاب غير كتابه".
ولكن بعض المتعصبين يتسرع في الحكم على من لم يقتنع بصحة حديث في الصحيحين أو بصحة العمل به ويتهمه بأنه يرد حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم. ومن المعروف أن أهل الحديث يصنفون الحديث المقبول، أي الصحيح والحسن، إلى معمول به وغير معمول به. ولم يقبل الإمام مالك، رحمه الله، العمل بحديث (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) الذي أثبته البخاري بعد ذلك في صحيحه، فقال مالك في المدونة "لا خيار لهما وإن لم يفترقا" ورد الحديث قائلا "ليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه". والظاهر أن مالكا رد الحديث الصحيح لتعارضه مع عمل أهل المدينة، وهو عنده أقوى من أخبار الآحاد. وهذا يسير في البيوع، فكيف بعظيم في إراقة الدماء وإزهاق الأنفس، لا ينسجم ظاهره مع ظاهر القرآن ولا ينسجم مع عمل رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
والعجيب أن بعض الفقهاء يستخدم حديث (من بدل دينه فاقتلوه) من أجل تخصيص كل آيات القرآن وجعلها كلها في الكفر الأصلي فقط، لا الردة. وهذا تخصيص عجيب، لأن الآيات، إن لم تكن في الردة، فليس فيها، على الأقل، أصل لقتل المرتد، وإنما فيها حرية اعتقاد. فلا ندري كيف يقلب التخصيص الرحمة بالكافر نقمة على المرتد، ولا كيف يقلب الحرية إكراها. وهذا الطرح يصطدم أيضا بمنهج الأحناف الذين يشترطون في المخصص النقلي أن يكون متصلا وهو ما لا يمكن بين الكتاب والسنة. وليس في القرآن أصل صريح لقتل المرتد حتى يكون في الحديث تبيين له. فعلى من يصر على الاستدلال بهذا الحديث على قتل المرتد أن يعترف أن استدلاله يعني إنشاء حكم شرعي لا أصل صريح له في القرآن وأن الحكم الذي أنشأه ناسخ لحوالي مائتي آية من كتاب الله. وهذا يعني إكراه الكافر مع المرتد. هذا طبعا لمن يقبل بنظرية النسخ في القرآن، ولمن من أهل هذه النظرية يرى نسخ القرآن بالسنة، ولمن من هؤلاء يرى نسخ القرآن بسنة الآحاد، ولمن من هؤلاء يرى هذا النسخ بمثل هذا الحديث الذي فيه كل هذه الإشكالات. وفي هذا الرأي الأخير من ازدراء كتاب الله منكر عظيم. ثم إن آية ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ كاشفة عن خبر والخبر ليس قابلا للنسخ.
وقد كتب العالم الأصولي أحمد الريسوني: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ هي قضية كلية محكمة، عامة تامة، سارية على أول الزمان وآخره، سارية على المشرك والكتابي، سارية على الرجال والنساء، سارية قبل الدخول في الإسلام، وبعده، أي سارية في الابتداء وفي الإبقاء، فالدين لا يكون بالإكراه ابتداء، كما لا يكون بالإكراه إبقاء". وخلص الريسوني إلى أن الآية "غير منسوخة وغير قابلة للنسخ" كما أنها "غير مخصصة وغير قابلة للتخصيص". ثم أضاف: "وأقل ما يقال في هذا المقام، هو أن الآية جاءت بصيغة صريحة من صيغ العموم، فلا يمكن تخصيصها إلا بدليل مكافئ ثبوتا ودلالة". واستدل بقول العلامة ابن عاشور: "وجيء بنفي الجنس [لا إكراه]، لقصد العموم نصا، وهي دليل واضح على إبطال الإكراه على الدين بسائر أنواعه".
وخلاصة القول في الحديثين الذين يستدل بهما من يرى قتل المرتد أنهما ليسا قطعيي الورود ولا قطعيي الدلالة في قتل المرتد المسالم، ويحتملان معنى المرتد المحارب. وهذا هو الذي يتسق مع القرآن والسنة النبوية العملية.
أما أحاديث الخليفة الفاروق عمر، رضي الله عنه، وقوله (دعني أضرب عنقه) التى تكررت، إنما تدل على غيرة الفاروق، رضي الله عنه، وجاهزيته للدفاع عن الدين وتوقفه عند الأوامر. والاستدلال الأصولي فيها إنما يجب أن يكون بما انتهى إليه الموقف من نهي النبي، صلى الله عليه وسلم، وفعله ولا نعلم دليلا على أنه أقر الفاروق عمر، رضي الله عنه، ولا غيره على شيء من ذلك.
ليس هناك إجماع على حد الردة
ويستدل البعض بالإجماع على حد الردة رغم أن الإجماع لم ينعق عليه، فقد روي عن الفاروق عمر، رضي الله عنه، ما يخالف قتل المرتد. روى البيهقي، رحمه الله، في كتاب المرتد من السنن الكبرى عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: "لما نزلنا على تستر. فذكر الحديث في الفتح ، وفي قدومه على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال عمر: يا أنس، ما فعل الرهط الستة من بكر بن وائل الذين ارتدوا عن الإسلام فلحقوا بالمشركين؟ قال: فأخذت به في حديث آخر ليشغله عنهم. قال: ما فعل الرهط الستة الذين ارتدوا عن الإسلام فلحقوا بالمشركين من بكر بن وائل. قال: يا أمير المؤمنين، قتلوا في المعركة. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. قلت: يا أمير المؤمنين، وهل كان سبيلهم إلا القتل؟ قال: نعم. كنت أعرض عليهم أن يدخلوا الإسلام، فإن أبوا استودعتهم السجن". وأضاف البيهقي: "رواه أيضا سفيان الثوري". وقد رواه أيضا عبد الرزاق وابن حزم.
هذا مع أن المرتدين في هذا الأثر لحقوا بالمشركين وقتلوا بالمعركة، فكان الخليفة الفاروق، رضي الله عنه، وهو العالم المحدث، يفضل سجنهم على قتلهم، وهم مرتدون محاربون! وقد علق العلامة القرضاوي، حفظه الله ورعاه، على هذا الأثر بقوله "وهذا هو قول إبراهيم النخعي, وكذلك قال الثوري: هذا الذي نأخذ به. وفى لفظ له: يؤجل ما رجيت توبته". وإبراهيم النخعي تابعي وهو شيخ شيخ الإمام أبي حنيفه. وسفيان الثوري تابعي أيضا وقد كتب عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: "هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه".
ولعل موقف الخليفة الفاروق والتابعيين المعروف والمشهور في المرتد المسالم هو الذي جعل ابن حجر، رحمة الله عليه، يقول في فتح الباري في شرحه لحديث ابن مسعود رضي الله عنه (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) أنه يأول "بأن المراد بقتله حبسه ومنعه من الخروج، وأثر عمر من هذا القبيل". فلعله سعى إلى تأويل القتل بالحبس احتراما لهذا الرأي، ولكن لا حاجة إلى هذا التأويل لأن هذا الحديث يحمل على المقيد بالمحاربة كما بينا سابقا. وإنما أوردنا كلام ابن حجر هنا لنبين سعة الخلاف في المسألة.
ومن العلماء من قال لا تقتل المرأة إذا ارتدت وهذا قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه، ولو كانت علة الحد في الردة لقتلت المرتدة كالمرتد ولكن الواضح في هذا الرأي أنه يأخذ في الحسبان أن علة الحد متعلقة بالمحاربة، والمرتدة لا تحارب غالبا. وقد قال الثوري: " تحبس ولا تقتل وأسنده عن ابن عباس قال وهو قول عطاء". وقال ابن عباس" لا تقتل النساء إذا هن ارتددن". رواه أبو حنيفة عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس. أخرجه ابن أبي شيبة والدارقطني. وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: "وأما المرأة ففيها خلاف".
والحقيقة كما رأينا أن في الرجل خلافا قويا أيضا، رغم أن المشهور في المذاهب الأربعة قتل المرتد. فهل يحق لنا أن نتساءل متى انعقد الإجماع إذا؟
ولله در الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، فقد نقل عنه ابن القيم، رحمه الله، في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" في "أصول فتاوى أحمد بن حنبل" قوله: "ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، ما يدريه، ولم ينته إليه ؟ فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا". ونقل ابن القيم أيضا في الباب قول الشافعي: "ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا". وفي كلام الإمامين، رحمة الله عليهما، زجر شديد عن ادعاء الإجماع. بل إن ظاهر كلام الإمام أحمد الطعن في كل دعوى إجماع، وإن كان ابن القيم أوّله بمعنى كلام الشافعي، رحمة الله على الجميع.
قتال الصديق المرتدين أسهم في اشتهار حد الردة في الفقه
ولعل من أسباب انتشار رأي قتل المرتد في الفقه ما حصل من حروب أهل الردة في عهد الصديق أبي بكر، رضي الله عنه وأرضاه. ولعل الردة ارتبطت منذ ذلك العهد في أذهان المسلمين بالعدوان والحرب. لقدت تمردت الجزيرة العربية عن بكرة أبيها على الصديق حتى لم يثبت من المدن في أول الأمر إلا أربعة: المدينة ومكة والطائف والبحرين، وكاد المتمردون يمزقون كيان الخلافة ويجتاحون المدينة المنورة، ولكن الله سلم. ولكن التحليل الموضوعي لهذه الأحداث التاريخية يؤكد أن المتمردين لم يكونوا كلهم مرتدين، فقد كان بعضهم مانعا فقط للزكاة، وكان لبعضهم الآخر أطماع سياسية ومالية. لقد كانوا أخلاطا من الناس يجمعهم التمرد ومحاربة الخلافة. فهم بالأساس محاربون هاجموا بعض المدن واعتدوا على ممثلي الخلافة، فلم تكن علة قتالهم الردة بقدر ما كانت حماية الخلافة من التمزق ورد عدوان المحاربين. وقتل فرسان الصديق في ساحة المعركة المحارب، مرتدا كان أو غير مرتد. ولم يثبت أن الصديق قتل أحدا من المرتدين بعد انتصاره عليهم ورجوعهم إلى سلطة الخلافة. ولم يأمن الصديق نفاق التائبين ولذلك لم يقدم رؤوسهم في المراكز القيادة لسابقتهم السيئة، فقلل من شأنهم رغم توبتهم بسبب ذلك الماضي الخطير. وهذا حل وسط حكيم لو اهتدى به المسلمون لكان رادعا قويا ووسيلة مهمة في حماية الدين والمقدسات.
وقد جعل الملوك والأمراء والحكام، فيما بعد عصر النوبة والرشاد، الردة سيفا مصلتا على مخالفيهم السياسيين ولبسوا بواسطة علماء السلاطين الحق بالباطل. ومن أوضح ذلك ما في الصحيحين من تهديد الحجاج لصحابة أجلاء بحد الردة، كما فعل مع سلمة بن الأكوع، رضي الله عنه، وهو من أبطال الصحابة ومن أهل بيعة الرضوان. وقد ذبح الحجاج التابعي الإمام الحافظ المقرئ المفسر الشهيد سعيد بن جبير لأنه لم يبايع عبد الملك بن مروان! وكان ذلك طبعا بعد أن أكمل بنو أمية عملية هدم الخلافة الراشدة وتوطيد الاستبداد بقتل عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما. ولعل التابعي إبراهيم النخعي، الذي لا يرى قتل المرتد حدا، قد تعززت قناعته بهذا الرأي لمعاصرته لفظائع الحجاج، ففي سير أعلام النبلاء يروي الإمام أبو حنيفة عن شيخه حماد، قال: "بشرت إبراهيم بموت الحجاج، فسجد، ورأيته يبكي من الفرح".
ويا ليت كثيرا من العلماء والفقهاء والمثقفين يقلل من زهده في القرآن ويزيد من زهده في السلطان، فيزيدهم الكتاب قوة في الحجة ويزيدهم الاستقلال قوة في الحق، ويكونوا أقرب إلى قلوب الأمة وأقدر على قيادة المراجعات والإصلاح.
والحمد لله رب العالمين.
محمد عالي لولي
تصنيف: