لم يُعرف رئيس الجمهورية- السيد محمد ولد الشيخ الغزواني- خلال مساره المهني بكثرة الكلام؛ وكانت خرجاته الإعلامية تكاد تعد على أصابع اليد في السنوات الخمسة عشرة الماضية- أي طيلة فترة توليه وظائف سامية في الدولة، أمنية وعسكرية وسياسية : إدارة الأمن- قيادة الأركان العامة للجيوش- وزارة الدفاع. وقد امتاز أسلوبه في مزاولة مهامه وممارسة صلاحياته بكثير من الهدوء والمرونة والحزم.. نبراسه في هذا المنهج: توظيف فعال لطاقات وكفاءات المصادر البشرية التي بحوزته.
وتقوم طريقته على مراعاة مبادئ القيادة التشاركية والتقيد بها بشكل يوفر مساحة عريضة من حرية التصرف لأعوانه ومرؤوسيه تمكنهم من القيام بهامهم وهم مطمئنون على أن القائد من ورائهم : يثق فيهم ويعول عليهم كثيرا بدرجة تجعلهم حصنا يقيه هو - اللهم في حالة الضرورة - من الزج بنفسه في "الخطوط الأمامية".. وتمكنهم- هم- من تحمل المسؤولية كاملة عن وعي، غير مكرهين.
وفضلا عن كونه موهبة من الله يتفاوت العباد في كسبها، فإن فن القيادة التشاركية يُدرَّس في المدارس والمعاهد العسكرية العليا التي تخرج منها ولد الغزواني كغيره من اكثرية الضباط السامين. لكن هذا الفن معمول به أيضا تقليديا في بلادنا بوصفه منهجا فكريا وسلوكيا يخلق ويعزز الثقة المتبادلة، العميقة والقوية، بين الزعيم الروحي ومن ينتمون لمذهبه الديني والفكري. ومن أهم تجلياته وامثلته؛ وإن كان غير معروف بهذا الإسم –"القيادة التشاركية"- كونه يشكل إحدى الدعائم الأساسية التي تؤسس للعلاقات بين "الشيخ" و"تلامذه" في منظومات الطرق الصوفية في موريتانيا.. وخاصة "الطريقة الغظفية"[i] التي ينحدر الرئيس الحالي من قمتها، حيث نعتقد أنها شكلت أهم وسط تربوي نشأ وترعرع في أحضانه. ولا شك أن تلك التربية التوافقية، الداعية إلى احترام ومشاركة الغير والأعوان، كونت أحد الروافد الثقافية المؤسِّسة فيما بعد لنهجه كقائد وزعيم.
ونلاحظ اليوم أن الكرسي الرئاسي لم يغير شيئا كثيرا في سلوك المرْء: الرئيس غزواني مقتصد في كلامه.. مصر في أفعاله.. واثق في أعوانه.
وقد أفادت مصادر إعلامية أنه رفض التعليق على ما صدر عن الرئيس السابق السيد محمد ولد عبد العزيز خلال الندوة الصحفية التي اجراها هذا الأخير منذ يومين في منزله. بينما ذكر مدونون أن الرئيس غزواني رد ضمنيا على سلفه من خلال زيارته أمس لمستشفى الشيخ زايد.
مما يعني أن جوابه جاء على شكل نشاط عملي قام به.. تشكل خلفيته رسالة "مشفرة" نوعا ما. ونحن نرى في هذا التأويل نسبة كبيرة من الصواب؛ بل نعتقد أن هذه الرسالة "المشفرة" موجهة إلى جميع الطيف السياسي والناس اجمعين أيا كانت توجهاتهم: موالاة.. معارضة.. رأي عام... وفك شفرتها ليس بالأمر العسير.
فمما لا ريب فيه أن ولد الغزواني يركز جهوده على تنفيذ برنامجه الانتخابي وتعهداته التي قال في خطابه بمناسبة الذكرى 59 لعيد الاستقلال الوطني أنه بدأ في تحقيقها وفق خطة عمل متسارعة لا ينبغي أن تتوقف.. بل يجب أن تتسارع أكثر فأكثر حسب قوله. لذلك نراه يتجنب ما لا يسير في نفس الاتجاه أو قد يعرقله أو يشوش عليه.
وفي هذا السياق، يندرج الرد الذي أجاب به منذ ثلاثة أسابيع تقريبا على سؤال طرحه عليه مراسل جريدة لو موند (Le monde) الفرنسية حول "الحوار الوطني الشامل" الذي تطالب به أطياف من المعارضة، قائلا أنه لا يرى داعيا له.. مبررا كلامه بكون المؤسسات والأطر الديمقراطية المتوفرة كفيلة بالمهمة.. لأنها تضمن التواصل بين جميع عناصر الطيف السياسي حسب رأيه، هذا بالإضافة لقنوات الاتصال والتشاور التي فتح هو مع جميع الفاعلين السياسيين. كما اعترف في نفس المقابلة ب"خلاف في الرؤية"- وقلل من شأنه- مع "صديقه وأخيه" على حد وصفه للرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز دون أن يذكر موضوع الخلاف بينهما.
لكن ما يثار ويقال في هذا الشأن ينبئ بأن الأمر يتعلق بولاء النواب التابعين لحزب الاتحاد من اجل الجمهورية. لأن هؤلاء بادروا بإعلان الرئيس الحالي "مرجعية" وحيدة لهم. وهو فعلا بحاجة للتأكد من ولائهم الثابت والدائم.. لأنه بدونه قد تشكل السلطة التشريعية عرقلة في وجه الرئيس وتنفيذ برنامجه الانتخابي، علما أن حل البرلمان وإجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها عملية مكلفة ماليا وتنظيميا وقد لا تخلو من مخاطر سياسية. فضمان ولاء الحزب الذي له أكثرية مطلقة من النواب يشكل خيارا يسيرا نسبيا لا يكلف النظام نفقات جديدة ولا يتضمن مغامرات سياسية.. خاصة ان الحزب المعني كان وما زال مساندا لولد الغزواني منذ اعلان ترشحه للرئاسة.
ويرى مراقبون كثيرون أن قضية من ينبغي أن يكون له ولاء نواب هذا الحزب هي لب الخلاف بين الرئيسين: السابق والحالي.. وأنها هي محور الجدل القائم داخل حزب الاتحاد من اجل الجمهورية.. إلا أن الأمر يبدو محسوما لصالح الرئيس الحالي.
(انظر : " نواب حزب الUPR : نثمن التناوب السلمي على السلطة والرئيس غزواني مرجعية حزبنا (بيان))
وعلى هامش هذا الجدل وتزامنا مع بلوغه ذروته، كان الرئيس غزواني قد قام بجرد شامل لحصيلة عمله هو وفريقه منذ توليه زمام الأمور. حصيلة قدمها مساء 28 نوفمبر الماضي خلال خطابه بمناسبة الذكرى 59 لعيد الاستقلال الوطني. ولوحظ حينها أنه لم يتطرق لقطاع الصحة.. مما أثار تساؤلات لدى البعض حول مشاعر الرئيس وموقفه تجاه القرارات الجريئة التي أقدم وزير الصحة - الدكتور نذير ولد حامد -على اتخاذها وتطبيقها رغم ما أثارته من ردود فعل متباينة، بلغت حد الاستياء البَيِّن والمعلَن في الأوساط الخصوصية العاملة في مجال الصيدلة وتسويق الأدوية.
وإزاء هذا الملف الحساس، الذي يتعلق بصحة المواطن، فإن ولد الغزواني أعلن يوم أمس بشكل لا يترك مجالا للشك دعمه التام لوزير الصحة ولما يقوم به هذا الأخير من إصلاحات.. وللعمل الذي تؤديه حكومته ووزراؤه بشكل عام. وهذا هو الوجه الثاني لرسالته "المشفرة" التي أرسلها من خلال الزيارة التي قام بها ل"طب الشيخ زايد".
فعبر تلك الزيارة وما صدر عنه خلالها، فنحن نخاله يقول ضمنيا للجميع- وزراءه.. أنصاره.. معارضيه.. وغيرهم:
"أنا ماض في تحقيق تعهداتي.. واطلب منكم -أيا كانت وضعيتكم أو نهجكم السياسي- أن تواكبوا وترافقوا جهود الإصلاح والبناء التي نقوم بها.. وذلك عبر العمل البناء والملموس على ارض الواقع. وأن لا تنشغلوا بالإشاعات.. والتسميم الإعلامي.. والأخبار الكاذبة... "
فهل وكيف سيتقبل المتلقون رسالته؟ وإلى أي حد سوف تُحوِّل انظارهم عن القيل والقال وتحصنهم ضد الأنباء المغلوطة وتشويه الحقائق؟
البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)
[i] الدكتور يحيا ولد البراء: "الطريقة الغظفية.. مسارها ومسلكياتها". (محاضرة ألقاها المؤلف في المعهد الثقافي المغربي بانواكشوط في 30 أكتوبر 2019.)
تصنيف: