غراة وطننا يتناحرون خفية، ويشهدون على أنفسهم: الموريتاني عدو لنا ويرفض التعامل معنا !

الوقائع تعود إلى أكثر من قرن، إلى 114 سنة بالضبط؛ ابطالها هما المستعمر الفرنسي من جهة والمقاومة الموريتانية من جهة أخرى ممثَّلان في النقيب تيسو (Tissot) حاكم دائرة تكانت آنذاك وسيدٌ يدعى سيد احمد ولد السالك من قبيلة "تَرْكَزْ". لكنها قد تخفي أيضا بين طياتها صراعات داخلية وعداوات دفينة في صفوف الضباط الفرنسيين بعضهم لبعضٍ. 

  • القصة كما رواها الغازي...

النقيب الفرنسي هو من يروي القصة عبر تقرير موجه من طرفه إلى  آمره، والي موريتانيا في سين الويس (سنغال)، فيقول: 

يشرفني أن أطلعكم تبعا لتقريري رقم (انظر الصورة) على وضعية " تَرْكَزْ" وبصورة خاصة وضعية السيد سيد احمد ولد السالك الذي حاولتُ اكتتابه كحرسي في الجَمَّالة بعدما اقترحه علي فرير جان (Frère Jean[i])."

ثم يسهب في مدح المعني الذي أراد اكتتابه، ويذكر خصاله وحاجة فرير جان الماسة لرجل مثله ضمن كتيبته، مبررا اهتمامه به، ليخلص لما جرى بينهما، فيقول:

" هذه هي أسباب استدعائي له في مكتبي لأعرض عليه اقتراح فرير جان. فأجابني بأنه غير مستعد للانضمام إلى جنودنا وأنه لا يريد سوى السير على خطى والده حتى نهاية حياته أبي كان عدوا للفرنسيين وأنا سوف أظل مثله.

أجبته بأن محمد ولد الطالب أخبرني بأنه[ii] ترك أموالا كثيرة لدى قبيلته وعليه أن ينضم لها. فرد علي لا، و أنه لا يرغب في الانضمام إلى قبيلة لم تمتثل لنصيحة أبي؛ فلا أريدهم ولا أريد أموالي ولا أي شيء قد يقربني منهم.

اما حول اكتتابي فهذا شيء مستحيل صحيح أنني رام جيد، لكن ليس لكم بل ضدكم. فسوف أبقى ضد مبادئكم حتى آخر لحظة من عمري (...) ومن هذه اللحظة فإنني لا ارغب في أن تستدعوني إلى مكتبكم مرة ثانية.

قلت للسيد سيد احمد بأنه إذا انضم إلى قضيتنا، سيحصل على دعم الوالي العام لأفريقيا الغربية الفرنسية. اجابني بأنه لا يريد شيئا من الفرنسيين، فلن اقبل بكم حتى أموت.

وبعد نهايتي من سؤاله، قال لي بنبرة حزينة جدا وبوجه عبوس لا تبحثوا عني لأموركم."

  • روح مقاومة راسخة في الأنفس...

رفْض الاستعمار الفرنسي من طرف السكان المحليين هو ابرز صفة اتسم بها تقرير النقيب تيسو، كما جاء على لسان سيد احمد ولد السالك. وهذه السمة هي أيضا أكثر ما يتداوله الآن المدونون الموريتانيون الذين اطلعوا على تقريره. ومن اكثرهم فخرا وتحمسا لهذا الجانب الدكتور محمد إسحاق الكنتي. فقد كتب، تحت عنوان "ماني امكاتب" :

" وثيقة تاريخية تبرهن أن في هذا الوطن المعطاء عاش رجال لا يخافون إلا الله، ولا يقبلون الدنية في دينهم، يجابهون جبروت المستعمر بعقيدة راسخة ترفض الانحياز للباطل رغم الترغيب والترهيب، وتمسك بحبل الله المتين... بمثل هذا التركزي؛ سيد أحمد ولد السالك يفاخر الوطنيون.. تغمده بواسع رحمته، وألحقه بالصالحين... يستحق أبناؤه، وحفدته التكريم بأرقى الأوسمة الوطنية."[iii]

  • روحنا القبلية تغزو الغزاة...!

المستعمر كما يبدو لا يتعامل مع الناس كأفراد أو مواطنين، بل كمرائي عاكسة للمواقف والتوجهات السياسية للقبيلة التي ينتمون لها. فهكذا تعاطى النقيب تيسو  مع سيد احمد ولد السالك.  وهذا ما أشار إليه ضمنيا في مقدمة تقريره حين كتب:" يشرفني أن أطلعكم تبعا لتقريري  (...) على وضعية " تَرْكَْز" وبصورة خاصة وضعية السيد سيد احمد ولد السالك." وكأن وضعية سيد احمد ولد السالك هي وضعية تَرْكَزْ، أو على الأقل صورة مصغرة لحالة تلك القبيلة!

 وحسب هذا المنطق القبلي، وهذا هو بيت القصيد عند النقيب، فيُخشى من أن يكون عدم ولاء هذا الفرد للفرنسيين ينطبق على غيره من افراد قبيلته؛ وينبغي أن يحاسبوا تبعا لذلك، علما أن ممارسة العقوبة الجماعية أمر معمول به على نطاق واسع من طرف المستعمرين الغزاة. 

  • وشاية مبطنة...

لقد ركز النقيب تيسو على أن زميله فرير جان هو الذي اقترح عليه اكتتاب رجل تَبيَّن أنه معاد تماما وحاقد على الفرنسيين، ولا يُخفي شعوره ولا مواقفه العدائية لهم. ولم يذكر أنه اتخذ ضد هذا العدو اللدود أي اجراء عقابي، بل كرر فقط وألحَّ على أن فرير جان هو السبب في محاولة اكتتابه له. وكأنه يقول ضمنيا: كاد فرير جان أن يوقع بنا في كارثة عسكرية بمحاولته دفعي إلى اكتتاب عدو عنيد ودمجه في صفوف الجنود الفرنسيين!

 وأيا كانت صحة الخبر، فالأمر من الصعب تصديقه بهذه الصورة الساذجة، إذ أن القصة قد لا تخلو من مبالغات تحمل بين طياتها وشاية يريد النقيب تيسو من ورائهاالأضرار بزميله فرير جان. ويدفعنا إلى هذا التصور كون فوارق مهنية وتعليمية شديدة قد تتسبب في نوع من الحسد والغيرة بين الضابطين.  وهو سلوك تنافسي مشين نلمسه دائما في شهادات ومذكرات الغزاة المستعمرين. فالنقيب تيسو اعلى في الترتيب العسكري: له اقدمية على زميله في رتبة نقيب، تخوله صلاحية التَّأمر عليه. لكنه اقل منه كفاءة فيما يبدو. فقد ذكرت السيدة جينيفييف ديزيري-فويلمين[iv] في تقديمها لمذكرات فرير جان أن فصيلتين ارسلهما النقيب تيسو قد تم سحقهما نهائيا في انيملان من طرف محاربين تابعين للشيخ ماء العينين قدموا من آدرار تحت قيادة مولاي ادريس. وقد يُحسب هذا فشلا ذريعا للنقيب.  بينما يفتخر فرير جان بأنه قتل الأمير بكار ولد اسويد احمد، كما تمكن بسرعة من السيطرة على الوضع العسكري والأمني في تجكجة فور قتل كابولاني عام 1905.    

  • لغة ركيكة جدا...

ترددتُ كثيرا فورما قرأت التقرير متسائلا: هل حقا هذا النص كتبه ضابط؟ أسلوبه ركيك جدا. فالتقرير مليء بالأخطاء الاملائية والنحوية وتركيب الجمل ركيك، كما أن استخدام علامات الترقيم سيء تماما: إما ناقصة أو ليست في محلها.

لكن تحريات قمتُ بها تشير إلى صدقية الأمر. النقيب تيسو حكم فعلا تجكجة في الفترة المذكورة، وكذلك فإن فرير جان قد عمل معه في تلك الآونة. ولا شك أنه ترقى في الرتب العسكرية عن طريق صفات وخصال لا تقوم أساسا على المعرفة، بل على مؤهلات ومعايير أخرى، مثل: اللياقة البدنية، الانضباط، الشجاعة، الأقدمية... وكان هذا النوع من الضباط الذين يسمون " sac à dos " (حملة الححقائب على ظهورهم) منتشرا في الجيوش، وما زال يوجد لكن بنسب متدنية باستمرار. وعلى عكسه، فإن فرير جان له مستوى معرفي عال ويتقن فن الكتابة، كما تشهد على ذلك مذكراته التي سبقت الإشارة إليها. وقد يكون للفوارق المعرفية الكبيرة بين الإثنين دور، كما أسلفنا، في خلق نوع من التنافس الشديد بين الضابطين يبلغ مستوى الحسد والتباغض الدفين.

فالقصة تخفي إذن بين طياتها صراعات داخلية وعداوات دفينة في صفوف الضباط والعسكريين الفرنسيين بعضهم لبعضٍ. غير أن ما يطفو ويطغى على ذهن القارئ هو رفض السكان المحليين الشديد للغزاة الفرنسيين كما ورد مرارا على لسان سيد احمد ولد السالك، حين رفض محاولة اكتتابه ضمن الجنود الفرنسيين قائلا لحاكم دائرة تكانت ومكررا:  أنا عدوكم وارفض التعامل معكم مهما كلفني ذلك.

البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)    

   

 


[i]    هو الذي نفذ ما اعتبره هو  "حكما قضائيا بالأعدام" حكم به شخصيا على المرحوم والمجاهد سيد ولد مولاي الزين. الذي تم اعدامه وجراحه تنزف دما حسب ما ورد في مذكرات القاتل، فرير جان.

[ii]  نعتقد ان النقيب يعني والد سيد احمد ولد السالك.

[iii]  Mohammed Ishagh Alkounty (Face book)

[iv] Mauritanie 1903-1911 ; Mémoires de randonnées et de guerre au pays des Beidanes, présenté et annoté par Genevieve Désiré-Vuillemine. .

تصنيف: 

دخول المستخدم