تقدمت مجموعة من الشباب في أواسط تسعينيات القرن الرابع عشر الهجري (سبعينيات القرن العشرين الغريغوري) بطلب ترخيص رابطة للأدباء الشباب. وبمقتضى القانون، كانت وزارة الداخلية الجهة التي تملك صلاحية الترخيص لهذا النوع من هيئات المجتمع المدني، وذلك إرث "استعماري" لم نتحرر منه بعد.
طلبت يومئذ مقابلة معالي السيد أحمد بن محمد صالح، حفظه اللـه، وكان وزير الداخلية يومها، فشرحت له الفكرة ورحب بها، وعلمت أن الوزارة تحتاج إلى استشارة القطاع الفني المختص. وكان من حسن الحظ أيضا أن عُهِد بحقيبة الثقافة إلى الأستاذ الشيخ أحمدُ ابن الطلبه، تغمده اللـه بواسع رحمته، وقد جئته واثقا بالظفر بطلبي، فالرجل من ذلك الطراز الذي يحمل هم إشعاع البلد ولا يتوقع منه إلا أن يقدر هذا النوع من المبادرات حق قدره، هذا إلى علائق خاصة بيننا، توقعت بمقتضاها أن يكون طلبي "شرعا وافق هوى".
بيد أن وزير الثقافة آنذاك أبدى تحفظا كان واردا جدا في تلك الأيام؛ بل لعله من خير ما فيها، فقد أخبرني أنه تلقى طلبا مزامنا من مجموعة أخرى من مثقفي البلد، وقال إنه لا يريد أن يرخص لإحدى المجموعتين ويترك الأخرى، ولا يريد أن يرخص لهما معا وهما تعملان من أجل هدف واحد أو أهداف متقاربة، واقترح علي السعي لإدماج المشروعين، متعهدا - إن نجحنا في ذلك - بدعم طلب الترخيص لدى وزارة الداخلية. كانت تلك رؤية حصيفة بكل تأكيد، وكان على مجموعة "أقلام الصحراء للأدباء الشباب" ومجموعة "الرابطة الموريتانية للثقافة" أن تجتمعا على مدى أسبوعين لتقريب وجهات النظر وصياغة النصوص والاندماج في مشروع واحد، ولد في شهر يناير 1976، وحمل اسم "الرابطة الموريتانية للآداب والفنون". كان عميدنا الأديب تن يوسف غي، أكرم اللـه نزله، نائبا للرئيس، وكان شاعرنا وعميدنا أيضا الأستاذ أحمد عبد القادر – حفظه اللـه - أمينا عاما. وكان المكتب صورة تعكس المتاح يومئذ من تمثيل ألوان الطيف الاجتماعي والثقافي في البلد، وبالمقدار الذي يقتضيه اندماج مبادرتين ثقافيتين.
حين تأسست الرابطة، أهداها الأستاذ أحمدُ عبد ولد القادر واحدة من روائعه الشعرية، قصيدة "ريشة الفن" وفيها يقول:
... والأغاني المجنحات سكارى ** سابحات في مركب "الآمال"
نهض الوتر والـــــــيراع وقالا ** كلمات بيض الحروف صقال:
هل لهذا الوجود معـــنى إذا لم ** يتفــــهم هــــــــــويتي ومجالي
وأناشـــــيد مزمــري تتــــغذى ** من صدى أنتي وفـــرحة بالي
كنت حلـــــما معللا بالأمــاني ** همسات تجـــــوب درب الكلال
تارة أبصر الحــــياة وأخــرى ** ألبس الصمت في ضمير الليالي
وأنا اليوم فتية صاحــبوا الفـــ ** ـن ــن ونالوا من وحيه كل غال
هـــللي موريـــــتان ما ذاك إلا ** ومضة من سراجك المتـــلالي
هللي يا بـــلاد ما نـــــــحن إلا ** قطرة من معيـــــــنك السلسال
أبشري، صفقي لوثـــبة نـــبع ** ظل يسقي مـــــواكب الأجيال..
لم تكن "الآمال" التي وردت في البيت الرابع من القصيدة (الأول من هذا المقتطف) إلا الأحرف الأولى من الاسم الفرنسي للرابطة (l’AMAL) التقطه الشاعر بحسه المرهف وثقافته العربية الخالصة، فقدمه في قصيدته كلمة عربية خالصة أيضا. ولم يكن الوتر واليراع في القصيدة إلا رمزا للفن والأدب اللذين انصهرا في تلك المبادرة. لكن الأستاذ احمدُ – متع اللـه به – كان رمزا لليراع، وكذلك تقريبا كان كل المؤسسين، فأين الوتر؟
كان ذلك سؤالا واردا سرعان ما أجاب عنه الفنان الكبير سداتي ابن آبه – تغمده اللـه بواسع رحمته - حين حيا على طريقته ميلاد الرابطة فنظم دعوة حاشدة في منزله، وكان يومئذ في الحي الواقع جنوبي دار الثقافة، ودعا جمهورا من الفنانين للحضور معنا، معلنا الترحيب بالرابطة والانضواء تحت لوائها. وكان الوحيد الذي عبر، وبسخاء كبير، عن فرحته بميلاد الرابطة على هذا النحو، وكان ذلك حدثا مهما في ذهن شاب مثلي كان يستمع إلى الفنان الكبير عن بعد في هينماته بالهيللة وبأشعار الوجد والذوق والمحبة، وفي شدوه بالأنشودة الخالدة "كن للإله ناصرا" كل ذلك بنغمة تلامس القلوب، وتحرك السواكن، وبحرص نادر على توخي السلامة اللغوية. وكان مجرد اللقاء بتلك الشخصية الكبيرة (سيداتي ابن آبه) حلما كبيرا من أحلام فتى يافع حديث العهد بالبادية، فإذا باللقاء يتحقق على نحو كبير كالحلم ذاته، وإذا باللقاء يكشف عن قسمات أخرى من وجه ذلك الفنان الكبير، الذي اكتشفناه عن كثب رجلا وطنيا مثقفا، سامي الفكر، دمث الخلق، متواضعا وسخيا.
وحدثت أحداث وعرضت عوارض دخلت بها الرابطة في مرحلة بيات غير شتوي. وكان لا بد من أن تتأسس رابطة خالصة للفنانين، وكان من الطبيعي جدا أن يكون على رأسها الفنان الكبير سيداتي بن آبه، وأن يبقى اسمه محفورا بقلم المحبة والتقدير في أذهان الفتية الذين سعوا في مرحلة لاحقة إلى أن يؤسسوا رابطة خالصة لهم هي "رابطة الأدباء الموريتانيين" لكن عناق اليراع والوتر لم ينفصم، بل تأيد وتجدد حين قررت الراحلة ديمي (لوله) ابنة الراحل سيداتي أن تغني من تلحين زوجها المثقف سيمالي همد فال - أكرم اللـه نزل الجميع - قصيدة الشاعر أحمد عبد القادر، حفظه اللـه، "ريشة الفن" فحصدت بها الجائزة الأولى في مسابقة فنية على المستوى العربي. وكانت تلك مكرمة أخرى من مكرمات بيت أهل ألفه، رحم اللـه سلفه وبارك في خلفه.
وعلى ذكر عناق الوتر واليراع – والشيء بالشيء يذكر – أتذكر أنني شرفت بصحبة العلامة المرابط محمد سالم ابن عدود، تغمده اللـه بواسع رحمته، والوزير المثقف سيدي أحمد بن الدي – حفظه اللـه - في رحلة جوية تعانق فيها الوتر واليراع، ضمن وفد كبير نظم أول أسبوع ثقافي موريتاني في المغرب، وكان من حظي أن كنت إلى جانب المرابط محمد سالم في الطائرة. وفي حديث ذي شجون، أنشدني المرابط بيتين قالهما للتو:
إن المرابط لم يكن بالـــــصاحب ** إذ كان يسلك في طريق لاحب
واليوم أصبح للســــياسة تابعا ** يقــــفو مسيرتها بوجه شاحب.
حين نزلنا من الطائرة وحططنا الرحال جلست معه ومع الوزير سيدي أحمد بن الدي على المائدة فقلت للوزير أن المرابط أنشدني بيتين وأسمعته إياهما، فضحك سيدي أحمد وقال على البديهة مصوبا:
يقفو مسيرتها بصدر راحب
وضحك المرابط محمد سالم.
وحين تسلم المرابط محمد سالم، بعد ذلك، حقيبة الثقافة حدثني حديثا موسوعيا عن الفن، وعن السماع، وخصوصا ما يعرف عندنا بـ"أزوان" ولكنه علق قائلا إن معلوماته كلها رواية لا دراية لأنه أدرك "الطلبة" يقولون بكراهة النظر في آلات الموسيقى، ثم ذكر لي أسماء طائفة من علماء السلف، من أهل البلاد، كانت تحبذ السماع ولا ترى فيه حرجا. يومها، تلقى المرابط قطعة شعرية غير موقعة، يستشكل منشئها جمع الشيخ بين قطاعي الثقافة والشؤون الإسلامية وختمها بتضمين بيت ابن السالم المشهور:
ما حضرة الشيخ ملهي عاشق كلف ** ولا الكلى والعجى يجمعن في شدق.
وبطرافته المعهودة وسعة عطنه، قرأ المرابط القطعة الناقدة بصوته على أمواج الإذاعة.
تلك ظلال من سجال، حسمه بعضهم بقولهم إن السماع يهيج ما في النفوس فمن هيج في نفسه خيرا رأوه في حقه خيرا، وأعطوه من هذا الوجه حكم الوسيلة. وحسمه ابن أحمد يوره على طريقة خاصة حين قال:
تكون لك الــدنيا مواعظ كلها ** إذا أنت لم تحــــــــكم لها بالظواهر
ومن كان ذا لب فسيان عنده ** صفوف البواكي واصطفاف المزامر!
تصنيف: