وفي مرحلة ما قبل الدولة في بلادنا، كان "شعراء البلاط" من أمثال اعلي انبيط ولد حيبلله وسدوم ولد انجرتو وسيد أحمد ولد آوليل في الحوض وتغانت والعصابة والبراكنه، وأهل مانو (اعلي والخو والمختار) في الترارزة، وغرظو في البراكنة، وزراء ثقافة وإعلام ومؤرخين وحراس قيم وصناع رأي يتمتعون بأعلى مكانة في بلاطات أولاد امبارك وإدوعيش والترارزة والبراكنة وآدرار، وفي المجتمع أجمع. وكذلك كان الشاعر العبقري محمد عبد الرحمن ولد المبارك ولد يمين في إمارة أهل لفظيل ولد شنان في آدرار، وأبناء هدار. ولعل نفس المكانة - أو أكثر- كان يتمتع بها أمثالهم في بلاط إماميي فوتا.
ثم أشرقت شمس الدولة الوطنية الحديثة في بلادنا على الرقعة التي كانت خاضعة لاستعمار فرنسا، فجمعت شمل الإمارات المتصارعة، واحتضنت جميع مكونات وأطياف الشعب الموريتاني. لكن مخاضها كان عسيرا اكتنفته أخطار وتحديات داخلية وخارجية كبرى. فكان الشاعر والمؤرخ والعالم الجليل المختار بن حامد عراب دولة الاستقلال ومن تولى مهمة الذب عنها والتمكين الثقافي لها. وبذلك يمكننا اعتباره "شاعر بلاط" الاستقلال والدولة الوطنية في مواجهة دعاة التثبيط والدعوة إلى البقاء في كنف الاستعمار، أو الاحتماء بظل الشمال أو الجنوب أو الشرق، أو التقوقع والخمول والاستسلام بحجة عدم موالاة النصارى الذي حمل إبان الاستقلال شحنة من التخلف والجمود؛ خاصة لدى جل الزوايا.
وفي هذا المقام نكتفي بالبيتين التاليين من إحدى قصائد المختار في المختار:
يا حبذا عملاء الاستعمار ** إن كانت العملاء كالمختار
ما بال بائهمُ تجر وبـــاؤه **- والكل باء- ليس بالجرار!
فهل أزرى ذلك الموقف الوطني في تلك الظروف المظلمة بذلك الطود الأشم؟ كلا طبعا؛ بل على العكس من ذلك. لقد خلد التاريخ هذا الجانب الوطني المضيء من شخصية المختار بن حامد كما خلد جوانبها المتعددة الأخرى، وأبقى فكره وذكره فوق الذين أنكروا عليه لدرجة السب والهجاء والتكفير، ولم يبق من "فكرهم" وذكرهم سوى ما بقي من "قرآن" مسيلمة:
"ألا قبح الرحمن ذا الوفد من وفد ** لقد جاء للإسلام بالحادث الإد".
وفي ضحى عهد الدولة الوطنية - على علاتها الكثيرة يومئذ- كان الشاعر أحمدو ولد عبد القادر، وهو أحد رواد الوطنية والقومية التقدمية والتحرر، يناهض هو وصحبه كل ما هو سلبي في الكيان الوطني الوليد، ويدعون إلى تطويره والنهوض به، ويجسدون دعوتهم في برنامج طموح هو برنامج الحركة الوطنية الديمقراطية الذي شرح الشاعر الموهوب بعض نقاطه في رائعته "فرحة العيد" فقال مثمنا ما تم إنجازه ومنوها به، ومطالبا بتحقيق ما بقي مما هو ضروري ومؤكد:
.. واستقلت بـلادنا وانتــــصرنا ** باتحاد الصفوف والجبـــــهات
فاتحاد الصفوف أمــضى سلاح ** ضد كيد المستعمرين العــــتاة
واعتمدنا على الشـــباب فأحـــيا ** دورنا في تجاوز العقـــــــبات
وفهمنا أن النـــضال ســـــــــواه ** كطعان بالرمح دون شــــــباة
أيها العيد إن ذكــــراك رمــــــز ** لنهوض الشعوب بعد السبات
قد ملأت الصـــــدور أمنا وبشرا ** وأنرت الوجوه بالبســـــمات
فاتسم بالخـــــلود والبس حــــلاه ** سوف تأتي قهرا وتأتي وتاتي
سوف نحميك بالنفوس فتـــــرقى ** لامعا في مواكب النــــيرات
سوف نعطيك - لا محالة- معـنى ** جئت من أجله ربوع البـــداة
سوف ندني إليك كل المــــــعاني ** ونوازي موصوفها بالصفات
سوف نعطي الجياع خبزا ونسقي ** ظمأ الأرض بالمعين الفرات
سوف نعطي الجهال علما وديــنا ** ورثوه عن الجدود الأبـــــــاة
أنت عيدي إن كان هــــــــذا وإلا ** لست عيدي ولست عيد لداتي
أنت عيدي إن كان هــــــــذا وإلا ** لست عيدي فأنت عيد الغزاة
وانعتاق الوجود ألهم نفـــــــــسي ** حكمة قلتها بذاتي لــــــــذاتي:
ليس في عالم العذاب عـــــــذاب **مثل خنق الحياة في ذي الحياة.
وهنا يجب التنويه بأن مواقف "شاعر بلاط المعارضة الوطنية" ولد عبد القادر لم تنل من مكانته الوطنية والشعرية لدى الخاصة والعامة، أو لدى الحكومة التي عينته عضوا في المجلس الوطني للشباب رغم معارضته لها، لأن معارضته لم تكن فوضوية هدامة ولا رجعية ولا نفعية، بخلاف كثيرين غيره؛ بل كانت وطنية محضة.كما لم يجعله جموحه الثوري في حالة تناقض عدائي مع المختارين المؤسسين؛ بل - على العكس- التقى التياران في خندق واحد كرافدين يصبان في مجرى واحد جرف سيله الاتفاقيات الاستعمارية المجحفة والمنظومة النقدية الاستعمارية و"ميفرما"و"بياو" وصنع الأوقية وسنيم، ورسم اللغة العربية وأعلن الميثاق الوطني المناوئ للاستعمار واستغلال الإنسان للإنسان، لأنهما تياران وطنيان: محافظ، وتحرري. تماما كما كان السيدان أحمد ولد محمد صالح ومحمد ولد الشيخ، حسب وصف الرئيس المختار لهما في كتابه موريتانيا على درب التحديات.
ومن ثمرات هذا اللقاء التاريخي كانت نهضة الوطن في بداية السبعينيات. وكانت "ريشة الفن" التعبير الأدبي الصادق عن تلك النهضة:
هــــللي موريــــتان ما ذاك إلا ** ومضة من سراجك المتـــلالي
هللي موريتان مـــا نحــــن إلا ** قطرة من معينك السلـــــــسال
وابشري صفقي لوثــبة نـــــبع ** ظل يسقي مواكب الأجـــــيال
حاول الغرب حبسه ذات يــوم ** عن مجاريه عبر هذي الرمال
فانبرى يمضغ السدود ويجري ** لا يبالي بشأنــــــــها لا يبالي
وعندما انقلب الأعداء على السلطة الوطنية وعلى الوحدة الوطنية، وارتهن البلاط الموريتاني في أيد عدوة، لم يسجل التاريخ أو يحفظ أي ذكر للقصائد الفصيحة والملحونة الرنانة الطنانة التي تمجد ذلك المسخ الهجين على كثرتها؛ بل كانت قصائد الخليل النحوي البومديدية، وقصائد فاضل أمين في الغربة، وقصائدي التيشيتية والتلمسية، ومواويل الحسن ولد الطالب، هي التي قارعت الطغيان والردة والاستعباد للغير، وألهبت حماس الشعب والجيش، وحرضت على التمرد والثورة؛ فكان 16 مارس ومن بعده 12/12... وهي التي مثلت المستقبل ومكثت في الأرض، وذهب الزبد جفاء.
وكان الشيخ محمد سالم ولد عدود والشاعر أحمدو ولد عبد القادر في طليعة المتغنين بأمجاد الفعل الوطني في 12/12، وما زادهما ذلك إلا فضلا وعزا ومجدا، لأنهما شهدا بما علما:
ولنأخذ الأبيات التالية للشاعر أحمدو ولد عبد القادر من قصيدته في 12/12 مثلا:
خلقنا بهذي الأرض قوما أعـــــزة ** وأرواحنا بالخير تبنى وتعـــمر
إذا غاب عنا الماء والخبز لم تغب ** كرامتنا فيـــــما نقول ونبــــصر
وترضعنا الصحراء روح انعتاقها ** نســيما عليلا في العوالم يعــــبر
فكيف تربينا الســـــــــــلاسل أمةً** سوى ما خلقنا؟ كيف نسبى ونقهر؟
إذا ملك الإنسان حق احتــــــرامه ** فكل اعتبار بعد ذلك يـــــــــصغر
ولست بمداح لقوم وإن عـــــــلوا ** ولكن فضل الأرض للأرض يذكر.
... ولما وقف حمار 12/12 في العقبة تحفظ الشيخ محمد سالم واعتكف، وهام الشاعراحمدو ولد عبد القادر على وجهه في البيداء يبحث عن "حجر لقمان":
"طرقت مدائن الشرق
والغرب
ركبت صحون الرياح
أبحث عن حجر
ضاع آخر أيام لقمان... لؤلؤة عصبت
بحرير السماء
دخلت القلاع
ولم يبق قبو ولا منفذ
في الطلول القديمة
إلا نثرت إليه الضياء
ولو قل..
تراميت بين ظلالي زمانا
ورصعت (تغريبتي)
وشبابتي بحروف عسى ولعل...
فما كنت سوى ذرة من
هبا ترنح صوب النوافذ
باحثة
عن أي خيوط من النور
تسحبها
إلى الأفق الأرحب
وتهنا طويلا.. طويلا، فزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر!"
وفجأة حمل إلينا فجر 3 أغسطس البشائر بردا وسلاما وأمنا وإصلاحا. لكن لم تحتف به دنيا الشعر والشعراء! وإن كان يحكى أن من دواعي بزوغه قصيدة لاذعة للشاعر الفقيه الداعية محمد الأمين الشاه! ويمكن إرجاع موقف الأدباء والشعراء من حركة 3 أغسطس إلى أسباب كثيرة من بينها انحطاط أغراض الشعر وركود الأدب في حقبة التيه، وارتباط ذلك العالم بالنظام البائد، ثم عدم اكتراث السلطة الوطنية الجديدة بتفعيل واستغلال تلك الأغراض، ولعلها حسنا فعلت.
وفي تلك الأثناء حرك برنامج "أمير الشعراء" الإماراتي ساحة الأدب الراكدة، فانبرت كوكبة من شبابنا تخوض عباب الإبداع الشعري؛ فكان "سارق النار" ابن بجدته، والفارس المشهور الذي رفع رايتنا وذِكْرَنا وأعلى هاماتنا بعد أن أذلنا التيه، وأعاد إلينا ما ضيع التطبيع من مجدنا يوم وقف عملاقا عربيا بدويا عفويا من مغرب العرب على حلبة الشعر في المشرق، وانتزع بجدارة إمارة الشعر وما يزال يتربع على عرشها الجليل. فهل من اللائق أو المقبول إذن أن نجازي هذا الفارس العبقري الشجاع بنعوت مزرية لا تلائم قدره الكبير، وذلك لمجرد أنه موظف في بلاط عزة وكبرياء ونهضة وبناء موريتانيا الجديدة، مهما كانت مآخذنا عليه كشاعر، وعلى ذلك البلاط البشري؟اللهم إلا إذا كنا نيهيليين (عدميين) أو نعمل بوعي على تحطيم رموز هذا الوطن بغية تدميره، كما تحاول بعض الأوساط العنصرية والإرهابية الظلامية؟
إن مكان محمد ولد الطالب الطبيعي هو أن يكون جوهرة في بلاط موريتانيا؛ وإنهليذكر ويشكر للسلطة الوطنية الموريتانية اقتناءجوهرهالنفيس إسهاما في محو ظلال القبح الذي عشش طويلا في حياتنا الرسمية. ومن واجبه هو وغيره من الشعراء والأدباء الوطنيين الحقيقيين نبذ الحياد في الصراع الدائر بين الحق والباطل في وطنهم، والوقوفإلى جانب الاستقلال والديمقراطية والتقدم والبناء، إسوة بسلفهم الصالح، واقتداء بقول الشيخ محمد عبده:
مجدي بمجد بلادي كنت أطلبه** وشيمة الحر تأبى خفض أهليه.
⃰ العنوان الأصلي الذي وضعه المؤلف هو : " في شعراء البلاط ح 5/5 "
تصنيف: