مواقف لا تنسى أبدا
رحلة الصيف إلى الشام 1968
الآن أصبح النضال ضد الاستعمار الجديد والرجعية واقعا ملموسا في موريتانيا؛ وكان لا بد من عمل شيء يدعمه ويعرّف به على المدى الخارجي، ويخلق إطارا طلابيا وشبابيا يرفد ويدعم الحراك الوطني الداخلي. حاولنا مع مكتب فلسطين في انواكشوط أن يدعم بعض أنشطتنا الدعائية الوطنية فلم يكن على المستوى، رغم أننا كنا وراء اعتراف موريتانيا بمنظمة التحرير لما عرفنا المجتمع الموريتاني بالقضية الفلسطينية، وكنا ندعمها على الدوام. واتصلنا بسفارة الجمهورية العربية المتحدة (مصر) - مثلنا الأعلى- في داكار فتعجبوا من فصاحتنا وسألونا "أين درستم العربية؟" فقلنا لهم: "في موريتانيا يا عيني!" وتركناهم وشأنهم!
وحدها سوريا البعث كانت سباقة بين البلدان العربية لرعاية نشاط طلابي موريتاني بزعامة الطالب بفرنسا السيد محمد محمود ولد اماه (الدكتور اماه). وكانت يومها قد منحت في مدارسها مجموعة من الوافدين الموريتانيين، فتقرر تنظيم مؤتمر للطلاب الموريتانيين في دمشق تحملت الدولة السورية مشكورة تذاكر سفر المشاركين فيه. فقررنا - سيدي محمد سميدع رحمه الله وأنا- السفر إلى دمشق والمشاركة في المؤتمر كممثلين من الداخل؛ وذلك بغية إنجاحه وتوجيهه حتى ينهض بالدور المطلوب منه، وكان لنا ما أردنا بفضل الله تعالى وذكاء ووطنية المؤتمرين!
وقامت سفارة الأرز في داكار بترتيبات سفرنا وأمدتنا بالعناوين اللازمة التي تمكننا من الاتصال بحركة القوميين العرب في لبنان وبمجلة الحرية الغراء، فوصلت بذلك ما قطعه مؤتمر شتورة اللبنانية مما أمر الله به أن يوصل. وبذلك كفّرت عما اجترحته شتورة.
لقد كانت رحلة الشام علامة فارقة في بلورة فكر الحركة الوطنية الموريتانية؛ فهي أول لقاء مباشر بين القوميين العرب في موريتانيا وبين حركة القوميين العرب الأم ومجلتها الغراء الرائدة "الحرية" والمشرق الثائر! فشكلت بذلك أهم نافذة فكرية وتنظيمية تركت بصمتها على مسار الحركة الوطنية الموريتانية والنضال ضد الاستعمار الجديد والرجعية في موريتانيا وساهمت في إخراجها نهائيا من ظلمات التعصب القومي إلى فضاء الوطنية والتقدمية والعالمية! خاصة أننا زرنا بعض العواصم التي اجتاحتها عواصف الستينيات، وهي ما تزال تغلي كباريس وبيروت ودمشق، وجلبنا معنا كنزا ثمينا من المراجع الثورية الفكرية والسياسية وكان جيلنا قارئا ومؤمنا بدور الفكر نبراسا، وبأن السياسة علم وليست شعوذة. ولا ننسى طبعا في هذا المجال إسهامات فكر ذ. لطفي الخولي ومجلة الطليعة في مصر التي كانت تصلنا عن طريق طلابنا ومتدربينا هنالك، وكذلك تأثير اليسار الفرنسي في الحركة عن طريق جماعتي "تولوز" و"المشعل"!
لم تكن أقدامنا قد وطئت أرض الشام من قبل رغم حنيننا الأبدي الفطري إليها! وكان جل ما نعرفه عنها إما ما خلده النابغة الذبياني وحسان بن ثابت الأنصاري عن حضارة الغساسنة، أو ما سطره الواقدي وابن كثير عن فتوح الشام وشجاعة وإيمان الرعيل الأول من المسلمين، أو ما عجت به كتب التاريخ من أمجاد الدولة الأموية وظل شعراء نهضة الأمة وانبعاثها من أمثال شوقي والأخطل الصغير ونزار يستلهمونه ويستحضرونه:
بنو أميــــة للأنبــاء ما فتحــــوا وللأحاديث ما شادوا ومــا دانــوا
كانوا ملوكا سرير الشرق تحتهم فهل سألت سرير الغرب ما كانوا.
"يا شام أين هما عينا معاويـة وأين من زاحموا بالمنكب الشهبا
فلا خيول بني حمدان راقصة زهوا، ولا المتنبي مالئ حلبــــــــا".
... ثم ما تجسد في ملحمة التصدي للعدوان الثلاثي على مصر من تضامن الشام العفوي الراسخ مع الكنانة! ذلك التضامن الذي من آياته تضحية الضابط السوري البطل الشهيد جول جمال بروحه الطاهرة دفاعا عن مصر العروبة يوم انقض بزورقه الحربي على بارجة فرنسية معتدية فانفجر فيها وفجرها، وإعلان إذاعة دمشق "هنا القاهرة" حين تعرضت إذاعة القاهرة للقصف والتدمير وباشرت فورا بث أنباء وبرامج إذاعة القاهرة.. والوحدة الأسطورية التي أعقبت ذلك بين مصر وسورية!
هذا عن الشام عموما، وأما لبنان خصوصا فرغم مكانته المتميزة لكونه منارة للحضارة والحرية والحب والجمال في الوطن العربي، فقد أصبح كذلك قبلتنا نحن وقبلة شباب العرب الفكرية بصفته مهد وقلعة حركة القوميين العرب ومقر جريدتها الغراء "الحرية"! ثم أوليس لبنان "بيروت" و"طرابلس و"الجبل" و"الجنوب" (صيدا وصور) و"البقاع" (زحلة - جارة الوادي، وبعلبك)؟! ولله الأخطل الصغير فقد لخص جميع تلك المعاني في قطعته الرائعة التي نقتطف منها هذين البيتين البديعين:
فدت المنائر كلهن منارة هي في فم الدنيا هدى وتبسم
ما جئتها إلا هداك معلم فوق المنابر أو شجاك متــيم!
... وأخيرا، ها هي ذي أقدامنا تطأ أرض الشام الطاهرة حقيقة لا مجازا!
كان مسار رحلتنا يبدأ من داكار ويمر بباريس ثم افرانكفورت فبيروت.. ومن بيروت نسافر برا إلى الشام. وعندما أنخنا بباريس في بداية العشرية الثانية من شهر يوليو كانت ما تزال تغلي في أجواء ثورة مايو العظيمة فنزلنا بالحي اللاتيني المحرر وهو خاضع يومئذ للإدارة الذاتية لسلطة الطلاب، فمكثنا فيه أياما ونحن أحرار ما لأحد علينا إمارة، ثم توجهنا إلى بيروت عبر فرانكفورت على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية الألمانية. وحين وصلنا إلى بيروت عشية 17 يوليو وجدناها تلتهب نفيرا ومقاومة. وعندما خرجنا ضحى من غرفة حجزناها في فندق متواضع، كان أول ما فتحت عليه عيني صباح ذلك اليوم في بيروت صفوفا من الرجال الأشداء يحملون على أكتافهم حبالا وسلالا فارغة، بعضهم وقوف، وبعض يجلس في ظلال البنايات، يلفون السجائر وينتظرون الدور ليجدوا ما يحملونه، فتيقنت أن هذا البلد الذي يعج حي من أحيائه بهذا الكم من العاطلين الأشداء مقدم لا محالة على ثورة أو حرب أهلية، وظل هذا المشهد مرسوما في ذاكرتي لا يزول ولا يريم إلى يومنا هذا!
سرنا خطوات إلى مقهى شعبي مكتظ مجاور لفنيدقنا لنتناول فيه الفطور فإذا ببائع صحف يصيح "انقلاب عسكري في العراق" فرد بعض زبناء المقهى بلعناتهم على البائع والعرب والانقلابات التي كانت آنذاك ما تزال محبذة وموضة تقدمية منذ انقلابات مصر والعراق وسوريا والسودان.. الخ! إنه انقلاب 17 تموز البعثي في العراق على الرئيس عبد الرحمن عارف!
ثم توجهنا إلى إدارة "الحرية" فوجدناها خلية نحل تعج بالسياسيين والمثقفين والصحفيين.. فكان هنالك نايف حواتمة وليلى خالد وغيرهما. دخلنا من الباب نرتدي لبستي كاكي متشابهتين من النوع الذي كان يرتديه يومئذ تلاميذ الثانوي في بلادنا فقال أحد الذين عرفناهم في داكار؛ وهو شاب لا أذكر اسمه: بشرفي هؤلاء الشباب مخلصون، ظلوا يبحثون عن الحركة وجاؤوا من أقصى بقاع الأرض ليلتقوا بها!
وبعد أن أنهينا مباحثاتنا في "الحرية" وبيروت توجهنا برا إلى سوريا التي كان يحكمها الشباب في ذلك العهد: يوسف زعين وإبراهيم ماخوس ولؤي الأتاسي!
وفي سوريا انعقد المؤتمر في مباني اتحاد الطلاب السوريين، وتحت إشراف قادة العمل الطلابي في حزب البعث، ولكنهم لم يتدخلوا لنا في شيء، فانتخبنا قيادة الاتحاد بحرية وكانت أغلبيتها الساحقة من القوميين، وبرئاسة قيادي قومي هو المحجوب بن بيه (الدكتور المحجوب).
... وبدأ النضال الطلابي من دمشق يشق طريقه الواعد ليفضي في النهاية إلى وحدة طلابية موريتانية يشترك فيها جميع الطلاب والمتدربين الموريتانيين ويعقدون مؤتمرهم التالي الموحِّد سرا في انواكشوط فيرفدون وحدة ونضال أمتهم الذي تكلل بالنصر في سنتي ثلاث وسبعين وأربع وسبعين!
وكان من بين من شاركوا في مؤتمر دمشق ممن أتذكرهم السادة: محمد محمود ولد اماه، سيدي محمد سميدع، المصطفى ولد اعبيد الرحمن، عبد الله ولد إسماعيل، المحجوب بن بيّ، إسلمو ولد الهادي، السالك ولد اباه، العتيق حبيب، الشيخ ولد جبّ، محمد ولد محمد الحسن، إخليهنّ ولد الطلبه، سيدنا عالي ولد الصغير، الحسين ولد عبد الله... رحم الله الأموات وأطال في عمر الأحياء.
يتبع.
بقلم: الأستاذ محمدٌ ولد إشدو
تصنيف: