ما كان لصعلوك العرب وسيد فتاكها، الشنفرى، أن يتحدى القيظ ويقهر عواتي الشِّعرى، مختالا مزهوا بقهره لوافح السموم، دون قناع أو لثام.
ويوم من الشعرى يذوب لعابه ... أفاعيه في رمضائه تتململ
نصبت له وجهي ولا كن دون... ولا ستر إلا الأتحمي المرعبل
لو أن مغالبة الحر أمر هين، أو بها من السهولة ما لا يصرع أولي العزم والقوة من شداد الرجال، وكيف لا وهي نفس من نار جهنم كما قال صلى الله عليه وسلم، أقعد القوم عن جهادهم، "وقالوا لا تنفروا في الحر، قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون".
وجاء في "صبح الأعشى" للقلقشندي، وصف في غاية الدقة، لن نجانب الصواب إذا زعمنا أنه قصد يومنا هذا، إذ يقول:
"أوقدت الظهيرة نارها، وأذكت أوارها، فأذابت دماغ الضب، وألهبت قلب الصب، هاجرة كأنها من قلوب العشاق، إذا اشتعلت بنيران الفراق، حر تهرب له الحرباء من الشمس، وتستجير بمتراكب الرمس، لا يطيب معه عيش، ولا ينفع معه ثلج ولا خيش، فهو كقلب المهجور، أو كالتنور المسجور".
إذ الحقيقة التي لا مراء فيها، أن يوم الناس هذا لفرط حره وشده نفثه "لا يطيب معه عيش، ولا ينفع معه ثلج ولا خيش"
وقديما غالب الشعراء قيظ أيامهم وحر لياليهم، فانثال قريضهم، في أواصف وصور بلاغية لا تخلوا من صدق أحيانا، ومن مبالغات ومجازات أحيانا أخرى.
حيث يقول أحدهم:
في زمان يشوي الوجوه بحر ... ويذيب الجسوم لو كن صخرا
لا تطير النسور فيه إذا ما ... وقفت شمسه وقارب ظهرا
ويود الغصن النضير به لو ... أنه من لحائه يتعرى
ويقول كعب بن زهير المازني، واصفا ناقته في يوم عصيب ذي حر شديد:
كأن أوب ذراعيها إذا عرقت.. وقد تلفع بالكور العساقيل
يوما يظل به الحرباء مصطخدا... كأن ضاحيه بالشمس مملول
وربطت العرب قديما بين همة الرجل، وتحديه حر الصيف وقائظة الهجير، فقالوا:
"من لم يغلُ دماغه صائفا، لم تغل قدوره شاتيا".
ويقول بن أبي الثياب:
وهاجرة تشوي الوجوه كأنها ... إذا لفحت خدي نار توهج
ويقول الثعالبي:
رب يوم هواؤه يتلظى ... فيحاكي فؤاد صب متيم
قلت إذ صك حره حر وجهي ... "ربنا اصرف عنا عذاب جهنم".
غير أن المرء سرعان ما يتذمر إذا تنفست جهنم نفسها الثانية في زمهرير الشتاء، متمنيا لوافح الثريا، متلهفا إلى هجير الدبران.
يتمنى المرء في الصيف الشتاء فإذا جاء الشتاء أنكره
فهو لا يرضى بحال واحد قتل الإنسان ما أكفره.
تصنيف: