دور المدرسة الجمهورية في القضاء على الفروق في مجال التعليم / بقلم : د.البكاي عبد المالك

فيما يلي نص محاضرة كتبها وألقاها الدكتور البكاي ولد عبد المالك تحت عنوان: "دور المدرسة الجمهورية في القضاء على الفروق في مجال التعليم". وكان ذلك في إطار ندوة نظمتها اليوم لجنة التعليم بهيئة الساحل..

الخطة

1- مفهوم المدرسة الجمهورية
2- الفروق في التعليم أسبابها ونتائجها
3- الحلول المقترحة
أولا- مفهوم المدرسة الجمهورية :
تقوم المدرسة الجمهورية في مفهومها العام على مجانية التعليم وإجباريته وتسمى أيضا بـ "مدرسة الشعب" لأنها هي الوحيدة التي تجمع جميع الطلاب من كافة الأوساط الاجتماعية جنبا إلى جنب الأكثر حظا في المجتمع إلى جانب الأقل حظا: نفس التعليم في نفس الظروف :
Les mêmes enseignements dans les mêmes conditions
والمدرسة الجمهورية (l’école républicaine) التي ظهرت في الغرب كمصطلح في نهاية القرن التاسع عشر ليست مجرد مشروع تربوي بسيط بل هي مشروع سياسي وحضاري يحمل دلالات أيديولوجية كبيرة تجسد قيم الحداثة والروح الأنوارية في الغرب بما في ذلك محاربة التقاليد وترسيخ الأخلاق المدنية العلمانية.
وقد نشأت المدرسة الجمهورية في فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر مع بدايات الجمهورية الفرنسية الثالثة مع قانون بول برت (Paul Bert) سنة 1879 وقوانين فري Ferry سنة 1881وقانون غوبليه Goblet سنة 1886
مبادئ المدرسة الجمهورية: 
تقوم المدرسة الجمهورية بحسب أوليفييه كوزين Olivier Cousin على أربعة مبادئ أساسية هي :
□نقل الثقافة الكونية والعقلانية القائمة على القيم الأساسية لفلسفة الأنوار 
□تأكيد الحياد الاجتماعي للمؤسسة التربوية l’affirmation de la neutralité sociale de l’institution pédagogique 
□تأسيس تراتبية اجتماعية قائمة على الأهلية الفردية
□تكوين الفرد المستقل استقلالا ذاتيا. 
وعلى الرغم من إيجابية معظم هذه المبادئ إلا أن الطابع الأيديولوجي يبدو واضحا فيها وخصوصا في المبدأ الأول فلا يصح الحديث عن مدرسة جمهورية غير علمانية إلا بتحيين المصطلح وإعادة تأهيله بتحديد المحتوى الذي يتعين أن نعطيه له ليتوافق مع الجوانب الإيجابية في واقعنا ويساعدنا في التخلص من الجوانب السلبية. نحن بالفعل بالنظر إلى واقعنا الاجتماعي المعقد أحوج ما نكون إلى جل المبادئ المشار إليها آنفا باستثناء المبدأ الأول الذي يتعين علينا تحيينه ومراعاة عدم انسجامه مع سياقنا الحضاري ومع الروح الإسلامية التي تستمد منها معظم القيم السائدة في مجتمعنا.
وإذا كان الإسلام الصحيح لا يمكن أن يكون ضد العقلانية في حد ذاتها ولا ضد نقل الثقافة الكونية لأن حضارته قامت في الأصل على ذلك الأساس إلا أن القيم الدينية لها وجود واقعي وملموس في مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية للشعوب المسلمة لا يمكن تجاهله أو التنكر له وهي جزء من هويتها وخصوصيتها الثقافية لكن هذا الأمر لا ينبغي مع ذلك أن يكون مبررا لاستمرار الكثير من التقاليد الخرافية الصادرة عن أنماط معينة من التدين الشعبي والتي أصبحت للأسف سمة مميزة للخطاب الديني عموما في هذا البلد!. 
أما المبدأ الثاني من مبادئ المدرسة الجمهورية وهو مبدأ "الحياد الاجتماعي للمدرسة" فهو مبدأ في غاية الأهمية بالنسبة إلى واقعنا الذي يطبعه الانقسام و التعدد على أكثر من صعيد. والمقصود بالحياد الاجتماعي للمدرسة هو ألا تقتصر التعاليم والخدمات التي تقدمها على خدمة مكون معين دون المكونات الأخرى لأي سبب مهما كان أو تؤدي إلى نمو غير طبيعي لأجزاء معينة من الجسم الاجتماعي وضمور أجزاء أخرى وهذا يعني أن تكون المدرسة والتعليمات التي تقدمها على مسافة واحدة من الجميع وأن تقدم نفس الخدمة وفي نفس الظروف وبنفس مواصفات الجودة لجميع مكونات المجتمع (les mêmes enseignements dans les mêmes conditions ) وفقا لفلسفة تأخذ في الاعتبار النظام الكلي للمجتمع أو ما يسمى بالهوية الجامعة (l’identité inclusive) ما يحدث لدينا نحن الآن هو أن المدرسة على العكس تعيد إنتاج الفوارق الاجتماعية لأنها لا تمنح فرصا متساوية للجميع وخصوصا وبشكل أكبر لأبناء ضحايا الاسترقاق وللكثيرين غيرهم لأسباب موضوعية.
المبدأ الثالث هو مبدأ تأسيس تراتبية اجتماعية قائمة على الأهلية الفردية (La méritocratie) وهو ما يقطع الطريق على كل المزايا المكتسبة من المكانة الموروثة أو التي ساهمت فيها عرضية الظروف الاجتماعية والتاريخية. ويتم التعبير عن هذا المبدأ من خلال مساواة جميع التلاميذ ومن كل الأوساط أمام الفرص والسماح لهم بإظهار مهاراتهم وكفاءاتهم التي قد تؤهلهم في المستقبل إلى لعب أدوار إيجابية في النهوض بمجتمعهم وإلى التفكير في القضايا الجامعة. ويؤدي الإخلال بهذا المبدأ إما إلى ضياع النبوغ والعبقرية لدى البعض لعدم وجود الحد الأدنى من الظروف المناسبة التي تساعدهم على الظهور والانبجاس أو إلى استفادة البعض الآخر من غير وجه حق بفعل عوامل خارجية عرضية أو وراثية لا تمت إلى الكفاءة أو إلى المدرسة وتعاليمها بصلة. 
المبدأ الأخير من مبادئ المدرسة الجمهورية هو مبدأ تكوين الفرد المستقل استقلالا ذاتيا. ويعني ذلك أن المدرسة الجمهورية تعمل على خلق نوع من الوعي الحر لدى الأفراد إزاء الموروث الاجتماعي السلبي ومقاومة كل النزعات المناهضة للكيان الجمهوري أو التي تنازع الدولة في وجودها وهي في الحالة الموريتانية مختلف النزعات القبلية والجهوية والفئوية والعرقية والطائفية إلخ. وإذا ما تأملنا في هذا المبدأ وجدنا أنه من أكثر المبادئ أهمية في حل الكثير من مشكلات المدرسة الموريتانية التي يبدو أن لديها عجزا في أهم وظائفها وهي وظيفة الاندماج الاجتماعي وتكوين أفراد يؤمنون بالدولة ككيان جامع يتجاوز جميع الكيانات الموازية لها أو السابقة على وجودها. 
بناء على ذلك وعلى الرغم من طغيان الطابع الأيديولوجي على النموذجين التعليميين (المحاظر النموذجية والمدرسة الجمهورية إلا أن النموذج الثاني بفعل حداثته وبفعل المزايا الكثيرة التي يوفرها يبدو هو الأقرب والأكثر ملاءمة إلى معالجة الاختلالات في منظومتنا التعليمية لكن ذلك الأمر يقتضي منا تحيينه وتكييفه مع طبيعة الأهداف المرسومة والتي تأخذ في الاعتبار طبيعة الكائن الاجتماعي أو الإنسان النموذجي الذي نريد صناعته.
وبالفعل فإن تقوية وجود الدولة وفرض الروح الجمهورية في مقابل العقلية القبلية أو الجهوية أو العرقية أو الشرائحية وغيرها من عوامل التخلف والانقسام سواء الموجودة منها في العقليات أم في الواقع تبدو اليوم أهدافا عليا يجب أن يسعى أي نموذج تعليمي إلى تحقيقها وإلا فلن تكون له أي فائدة على التنمية أو التماسك المجتمعي. ومن هنا ضرورة نشر الأفكار الجمهورية لتقف سدا منيعا أمام سلبيات الماضي كلها (سواء تعلق الأمر منها بالتقاليد الاجتماعية السلبية المرتبطة بالعقلية القبلية والرق ومخلفاته أو تعلق الأمر بالنزعات العرقية أو الخصوصانية) التي لا تزال كلها حاضرة بقوة في الواقع الاجتماعي وهو ما يجعل المدرسة فضاء يتردد من خلاله صدى صوت الجمهورية والبناء الكلي للمجتمع والحصن الحصين ضد إعادة إنتاج تلك الأنماط السلبية من العلاقات الاجتماعية التي لم تعد مقبولة في الوقت الحاضر وعلينا أن نفهم ذلك.
ثانيا- الفروق في التعليم أسبابها ونتائجها
1- الفروق :- تعريفها :
الفروق مصطلح عام يستخدم في مجالات متعددة فردية واجتماعية واقتصادية وثقافية وتربوية ويدل بصفة عامة على حالة معينة من عدم المساواة الجوهرية أو العرضية.
ووفقا لمبدأ الحتمية فإن نفس الشروط تؤدي إلى نفس النتائج : كلما وجدت عبودية بدرجة كبيرة ولفترة طويلة من الزمن، نجمت عنها نفس النتائج : سوء في توزيع الثروة وبدرجة كبيرة ينعكس في التفاوت في الحظوظ بين مكونات المجتمع في مجال التعليم.
والحقيقة هي أن الظروف المادية والثقافية ليست وحدها هي التي منعت ضحايا العبودية وغيرهم من الفقراء (سواء أكان فقرهم تكوينيا ومتوارثا كما هو الشأن في العبودية أو عرضيا طارئا كما هو الشأن في الحالات الأخرى) من الاستفادة من مزايا التعليم الملائم بل الحالة الثقافية للأبوين المنتميين إلى الأوساط الدنيا في المجتمع وقد عرفنا من نظريات سوسويولوجيا التربية وخصوصا نظريات العائق السوسيوثقافي عند بورديو (P. Bourdieu) وبيرنشتاين (B. Bernstein) وغيرهما العلاقة الضرورية بين الحالة الاجتماعية والثقافية للأبوين المنتميين إلى الفئات الدنيا وبين الفشل الدراسي المحتوم للأبناء. 
لذلك فإننا نرى أن معالجة المشكلات التي تطرحها الفروق التربوية والاجتماعية والاقتصادية هي الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه كل سياسة تعليمية تهدف إلى مجتمع صالح متوازن.في الحالة الموريتانية سنركز على الفروق التربوية لأنها في اعتقادنا هي الأساس الذي تقوم عليه الفروق الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
2- أنواع الفروق :
للفقر والتفاوت بصفة عامة أسباب كثيرة في مجتمعنا بعضها جوهري تكويني يتعلق بوقائع اجتماعية تاريخية معروفة تنجم عنها بالضرورة في كل زمان ومكان أوضاع مادية ملازمة لها كالفقر ومعنوية مثل النظرة الدونية ، وبعضها عرضي ناجم عن عرضية الظروف الاجتماعية والتاريخية (كالجفاف ، وسوء التدبير ، والعقليات والكفاءات والمهارات الخاصة... إلخ). 
لذلك فإن الفروق قسمان : فروق جوهرية تكوينية تتعلق بالملكة والعدم كما يقول المناطقة : من شأنها أن توجد ولا يمكن أن لا توجد ، وفروق عرضية قد توجد وقد لا توجد بحسب الظروف.
الفروق الجوهرية أو التكوينية هي التي من شأنها أن توجد وليس في الإمكان ألا توجد بالنظر إلى الحتمية التاريخية التي تحكم العلاقة بينها وبين النتائج المترتبة عليها في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية..أما الفروق العرضية فلا توجد فيها علاقة ضرورية بين الأسباب والنتائج لأنها قد توجد وقد لا توجد لظروف عرضية محضة.
ومن أمثلة الفروق التكوينية في المجتمع الموريتاني تلك الناجمة عن ظاهرة الرق وهي توجد بالضرورة في كل المجتمعات البشرية التي عرفت تلك الظاهرة وبالتالي ليس ثمة اختلاف بينها إلا في حجم تلك الظاهرة ووطأتها. ولعل من أبرز الآثار المترتبة على تـلك الظاهرة انعدام الملكية والنتائج المترتبة عليها مثل :
- المشكلة الاقتصادية : الفقر والتهميش والجريمة وجنوح الأحداث ...
- المشكلة التربوية : الجهل والتسرب المدرسي وما ينجر عنه من انعدام الكفاءات الضرورية للحصول على الوظائف في الدولة: (العلاقة المنطقية الضرورية بين الكفاءات والحيازات)
- الآثار النفسية والاجتماعية : التراتبية الاجتماعية والنظرة الدونية
أما الفروق العرضية فهي ناجمة عن أسباب عرضية يتساوى فيها الجميع وهذه هي حال بعض الشرائح الأخرى في المجتمع الموريتاني.
لكن ضحايا هذين النوعين من الفروق (الفروق التكوينية أو الجوهرية والفروق العرضية) قد يوجدان من الناحية الموضوعية في ظروف متشابهة لكن الاختلاف بينهما يكمن في تأثير غياب الملكية للأسباب التي ذكرنا.
بناء على ذلك فإن العمل بمبدأ المساواة أمام القانون والمساواة أمام الفرص وهي الدعوى التي يتذرع بها الكثيرون يقتضي وجود حالة من المساواة الأصلية في المجتمع بين مواطنين أحرارا ومتساوين لكن بما أن المساواة الأصلية لم توجد يوما نظرا إلى انتشار العبودية في المجتمع إلى عهد قريب جدا فإن المساواة الصورية أمام الفرص التي نتحدث عنها هنا هي مجرد مساواة صورية تتنافى في الواقع مع العدالة: قد توجد مساواة ولا توجد عدالة لأن العدالة ليست هي المساواة.
إن وجود العبودية معناه انتفاء الملكية وانتفاء الملكية معناه الافتقار إلى الأسس الضرورية لبناء الشخصية في كل النواحي : التربوية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية ..بل الافتقار إلى الإنسانية ذاتها ! فهل هناك مكون آخر من مكونات مجتمعنا يشارك الحراطين في هذا الوضع ؟ هذا الأمر لا يعني الاستهانة بمعاناة المكونات الأخرى من الفئات التابعة تقليديا لكن وجود الملكية الدائم لدى هؤلاء جعل الفروق التي يعانون منها تندرج في نطاق الفروق العرضية التي يمكن أن توجد ويمكن ألا توجد والتي تتعلق أساسا بالنواحي النفسية والاجتماعية.
بناء على ذلك لن يكون في الإمكان العمل بالمساواة أمام القانون في ظل وجود هذه الاختلالات :
مثال:
هناك مسابقة في مجال معين
هناك شروط محددة سلفا للمشاركة وكفاءات مطلوبة منصوص عليها
القاعدة : الأشخاص الذين يتمتعون بكفاءات متساوية لا بد أن يحصلوا وفقا لمبدأ المساواة أمام القانون على حقوق متساوية.
السؤال الذي يطرح نفسه هو :
أنا الذي لأسباب تاريخية موضوعية لا تتوفر لدي الكفاءات المطلوبة المنصوص عليها بحكم القانون كيف يمكنني أن أستفيد من المساواة أمام القانون في هذه الحالة ؟!
هذا هو ما دعاني في الكثير من المحاضرات من منطلق علمي أكاديمي إلى الحديث عن فروق جوهرية هي الأصل في معاناة الحراطين.
وعليه فإن العمل بمبدأ المساواة أمام القانون في هذه الحالة يتعارض مع العدالة وهذا يعني أن الفجوة ستظل قائمة بينهم وبين إخوتهم وستتسع مع مرور الزمن وستكون لا محالة بؤرة لتوترات اجتماعية لا تنتهي .
حتى ولو وجدت مساواة نظرية على المستوى القانوني والدستوري وعلى المستوى الشكلي في الحياة السياسية فإن المساواة الفعلية تظل موضوعيا مطلبا بعيد المنال نحتاج في تحقيقه إلى تغيير الواقع المادي العنيد وهو أمر لا يمكن أن يتم بين عشية أو ضحاها ، وتغير العقليات والصور النمطية الراسخة في الذهنية الاجتماعية وفي نسق التمثلات المرجعية للفرد في مجتمع لا يزال تقليديا في بنيته وتصوراته. 
المدرسة الموريتانية الحالية (وخصوصا المدرسة العمومية للأسف) تمثل نموذجا للمساواة الصورية أمام القانون بين مواطنين أحرار لكن غير متساوين في الأصل وعليه فإن المدرسة في شكلها الحالي تعيد إنتاج الفوارق الاجتماعية لأنها أصبحت في جزء أساسي منها مأوى لفئات اجتماعية بعينها نظرا لوضعها الاقتصادي المتردي للأسباب التي ذكرنا.
ولمواجهة هذا النمط من المشكلات قرر فلاسفة السياسة وعلماؤها أن الحل الأنجع يكمن في العمل بمبدأ التمييز الإيجابي ولا شيء غيره باعتباره الوسيلة الوحيدة لتحقيق العدالة التوزيعية علاوة على أن تطبيقه قد يساعد مجتمعنا مع مرور الزمن في خلق حالة المساواة الأصلية الشرط الضروري للعمل بمبدأ المساواة أمام القانون.
2- مبدأ الفرق :- تعريفه :
ويعرف جون رولز في كتابه "نظرية العدالة" مبدأ الفرق المؤسس للتمييز الإيجابي بقوله : يجب أن تكون الفروق الاجتماعية والاقتصادية في ذات الوقت في مصلحة الجميع وخاصة الذين هم أقل حظا في المجتمع وهذا يعني أن التفاوت الاقتصادي يجب أن يكون :
أ- في مصلحة الجميع وخاصة الأقل حظا في المجتمع (مبدأ التمييز الإيجابي)
ب- أن يكون متعلقا بوظائف أو مواقع متاحة للجميع طبقا لمبدأ المساواة في الفرص
3- مبدأ الفرق وتطبيقاته على الحالة الموريتانية : مبدأ الفرق وحل مشكلة الفروق في مجال التعليم
أ- إعادة توزيع الثروة :
لا بد أن يأخذ التمييز الإيجابي إزاء ضحايا الاسترقاق بعين الاعتبار التركيز على مقاربتين يتعلق بهما الحل الأنجع لهذه المشكلة : هما المقاربة التربوية من جهة لمعالجة مشكلة التسرب المدرسي في "آدوابه" وهوامش المدن الكبيرة وبؤر الفقر المنتشرة في كل مكان والمقاربة الاقتصادية التي تكمن في التركيز على دعم النشاط الذي تزاوله الشرائح التي تعاني من آثار الاسترقاق ويتعلق الأمر بالزراعة المطرية ودعم المشاريع الصغيرة والبحث عن وسيلة لوضع حد للتقري الفوضوي ودعم التجمعات الكبيرة بشتى الوسائل .
وبالفعل صادقت الحكومة في الأشهر الماضية على خارطة الطريق لحل هذه المشكلة وهي تتضمن من جملة ما تتضمنه إنشاء المناطق الأولى بالرعاية التربوية .
وفي تقديرنا أن الإسراع بتطبيق بنود الخارطة على نحو فعال وإشراك الشركاء الدوليين والفاعلين المحليين خصوصا البند المتعلق بالمناطق ذات الأولوية التربوية خطوة استراتيجية على الطريق الصحيح لحل المشكلة.
ب- مبدأ التمييز الإيجابي وتطبيقاته في مجال التعليم:
ما المقصود بمبدأ التمييز الإيجابي ؟ كيف نطبق مبدأ التمييز الإيجابي؟ ولماذا مبدأ التمييز الإيجابي؟ ما أهميته في مجال التعليم؟
مبدأ التمييز الإيجابي يتجاوز البعد السياسي إلى الممارسة اليومية والسلوك الاجتماعي الذي نمارسه كل يوم في حياتنا : داخل الأسرة بين أبنائنا وفي مواشينا بين أفراد القطيع ...
ومبدأ التمييز الإيجابي باعتباره شكلا معينا من ممارسة العدالة هو الآلية التي تسمح للأقل حظا في المجتمع من الاستفادة أيضا من التفاوت طالما أنه لا مناص منه إذن هو المبدأ الذي يمنع التفاوت من أن يكون على حساب الأقل حظا في المجتمع.
وبناء على ذلك يكون مبدأ التمييز الإيجابي هو الآلية التي تمكن من خلق الظروف المناسبة للعمل بمبدإ المساواة أمام القانون : إذن هو المبدأ الذي يتم العمل به في حالات استثنائية يتعذر فيها العمل بمبدأ المساواة أمام القانون.
والواقع أن العقيدة الليبرالية للدولة الديمقراطية المعاصرة تقوم على تقنين الاختلاف و تشريع التفاوت بين البشر وهو أمر طبيعي نظرا للتفاوت في القدرات الطبيعية من جهة وحرية المبادرة التي هي ركن من أركانها من جهة أخرى. وهذا يعنى محاولة القضاء على الهوة الشاسعة التي تفصل بين الأغنياء والفقراء أو على الأقل بقاء المسافة ثابتة بين الأكثر ثراء والأقل حظا في المجتمع .
ومع أن التمييز الإيجابي هو الحل الوحيد لهذه القضية إلا أن المشكلة تكمن في أن الكثيرين يرفضون التمييز الإيجابي وهم لا يعرفون ما هو التمييز الإيجابي ويختزلونه في مظهر بسيط من مظاهره المتعددة التي قد لا تكون مناسبة في سياق معين ومناسبة في سياق آخر. كما أن الكثيرين يتحدثون عن ضرورة إعادة توزيع الثروة ولكنهم لا يعرفون ما هي إعادة توزيع الثروة فما هو التمييز الإيجابي ؟ ولماذا التمييز الإيجابي ؟
مبدأ التمييز الإيجابي يتجاوز البعد السياسي إلى الممارسة اليومية والسلوك الاجتماعي الذي نمارسه كل يوم في حياتنا : داخل الأسرة بين أبنائنا وفي مواشينا بين أفراد القطيع ...
ومبدأ التمييز الإيجابي باعتباره شكلا معينا من ممارسة العدالة هو الآلية التي تسمح للأقل حظا في المجتمع من الاستفادة أيضا من التفاوت طالما أنه لا مناص منه في الدولة الليبرالية ونعني هنا التفاوت الناجم بفعل التراكمات انطلاقا من حالة المساواة الأصلية لأن كل اتفاق منصف وكل عقد اجتماعي مهما كان عادلا يؤدي مع مرور الزمن إلى حصول تفاوتات يتعين على النظام السياسي تقديم حلول مناسبة لها أما التفاوت الناجم عن عدم وجود المساواة الأصلية فلا يمكن تجاوزه إلا بالتمييز الإيجابي الذي يعيد للمجتمع توازنه لكي يستمر.
ثالثا- نموذج من الحلول المقترحة لمشكلة الفروق في التعليم في موريتانيا:
3 - المناطق ذات الأولوية التربوية :
تعريفها والهدف من إنشائها:
المناطق ذات الأولوية التربوية (Les zones d'éducation prioritaires) المعروفة اختصارا بـ (ZEP) هي مجموع من المؤسسات التعليمية يتم إنشاؤه من أجل دعم العمل التربوي الوطني في مناطق يضعف فيها التحصيل الدراسي والاندماج الاجتماعي لأسباب اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية.
وتهدف سياسة المناطق ذات الأولوية التربوية إلى تصحيح وطأة أشكال التفاوت الاجتماعي والاقتصادي على التحصيل الدراسي أي تضييق الهوة بين نسب التحصيل الدراسي بين الفئات الاجتماعية من خلال دعم العمل البيداغوجي والتربوي في المدارس والمؤسسات التعليمية في المناطق التي تعاني من أكبر المشكلات الاجتماعية : ويمكن اختزال المبادئ التي تقوم عليها فكرة المناطق ذات الأولوية التربوية في مبدأين اثنين هما :
- تكريس مبدأ التمييز الإيجابي فيما يتعلق بتوزيع وسائل الخدمة العمومية في مجال التربية والتكوين.
- التكفل بالتلاميذ المنحدرين من الفئات المهمشة مثل آدوابه والتجمعات الفقيرة الأخرى في الأرياف وفي الأحياء الفقيرة من المدن الكبيرة التي تلاحظ فيها نسب كبيرة من التسرب المدرسي.
وقد لجأ الكثير من دول العالم إلى هذه التجربة بما في ذلك الدول المتقدمة كفرنسا وانجلترا والولايات المتحدة والدول السائرة في طريق النمو مثل تونس وغيرها.
في فرنسا على سبيل المثال أطلق مشروع المناطق ذات الأولوية التربوية في عهد وزير التربية آلان سافاري Alain Savary لأول مرة سنة 1981 تحت شعار :
"منح نصيب أكبر للذين لهم حظ أقل" : Donner plus à ceux qui ont moins 
وكان الهدف منه في البداية هو تضييق الهوة التي تفصل بين الفئات الاجتماعية والقضاء على أشكال التفاوت الاجتماعي في التحصيل الدراسي .
أما المعايير المتبعة في إنشائها فتختلف من بلد لآخر نظرا لاختلاف أسباب التفاوت الاجتماعي والتأخر الدراسي .
معايير تحديدها:
ويمكننا تحديد المعايير التالية للمناطق ذات الأولوية التربوية في موريتانيا فيما يلي :
- التأخر الملحوظ على مستوى المنطقة في مجالات متعددة : كضعف الولوج للخدمة العمومية
- البنية الاجتماعية – الاقتصادية للأحياء
- نوعية المساكن
- نسبة التسرب المدرسي في المراحل الأولى
- الفئة الوظيفية للآباء ومستوى الدخل
- النسبة المئوية للوصول إلى التعليم العالي
- بعض المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية والثقافية مثل الوضع المادي للأسرة، نسبة البطالة ، المستوى المعيشي للسكان ، مستوى توفر الخدمات العامة ... إلخ
ويتبين من خلال المعايير السابقة () أن المناطق ذات الأولوية التربوية ستتركز أساسا في المناطق الفقيرة في الأرياف وخاصة آدوابه وغيرها من المناطق الضعيفة وفي ضواحي المدن الكبيرة وأحيائها الفقيرة.
البنية الإدارية والتنظيمية:
من الناحية التنظيمية تتكون الهيكلة الإدارية للمناطق ذات الأولوية التربوية من بعض المجالس والهيئات نذكر منها :
- مجلس المنطقة ذات الأولوية التربوية الذي هو مطالب بالتنسيق مع المجالس البلدية والجماعات المحلية ويضم مدراء المدارس الأساسية والثانوية ومؤسسات التعليم ما قبل المدرسي والشركاء الذين يسهرون جميعا كل فما يعنيه على تطبيق المشروع وضمان المتابعة .
- لجان الإشراف و المساعدة الاجتماعية ( الوقاية ، الصحة ، المخدرات والمؤثرات العقلية ، العنف المدرسي) والمؤسسات الأخرى ( رابطة آباء التلاميذ ، منظمات المجتمع المدني ذات الصلة ).
أما من ناحية إنشائها فلا توجد مشاكل كبيرة أمام إنشاء المناطق ذات الأولوية التربوية في الوسط الحضري وخاصة في المدن الكبرى طالما أن التجمعات الفقيرة توجد عادة في الضواحي وفي الأحياء الفقيرة ومن السهل التعرف عليها وضبطها. أما في الوسط الريفي فهناك مشكلة تتعلق بتحديد الجمهور المستهدف (la population ciblée) نظرا لسوء التوزع في المجال الريفي وانتشار ظاهرة التقري الفوضوي الذي هو من أكبر التحديات التي تواجه التنمية المحلية وهو ما يجعل من الصعب توفير الخدمة العمومية الملائمة لجميع المواطنين في أماكنهم الأصلية . وقد قدمنا في المحور السابق المتعلق بالخريطة المدرسية في الوسط الريفي بعض المقترحات التي قد تساعد في حل تلك المشكلة.
الوسائل البشرية والمادية :
تحتاج المناطق ذات الأولوية التربوية إلى مزايا إضافية لا توجد في التعليم العام نظرا لخصوصيتها والغرض من إنشائها فهناك مزايا تتعلق بالطاقم التربوي من محفزات وعلاوات وغيرها وأخرى ممنوحة للتلاميذ من منح وكفالات مدرسية ورياض أطفال وغيرها.
- يتمتع المدرسون بالمناطق ذات الأولوية وكذا العاملون بها بعلاوات إكراه خاصة indemnités de sujétions spéciales ويستفيدون من علاوات التحويل وأفضلية خاصة فيما يتعلق بالأقدمية.
طاقم تربوي متكامل لضمان التأطير الجيد بشكل يتماشى مع خصوصية الجمهور المستهدف مع تخفيض أعداد التلاميذ داخل الفصل الواحد.
إنشاء مراكز للأمن داخل المناطق للحد من العنف المدرسي داخل المناطق وخارجها وهو عنف ناجم في بعض الأحيان عن التسرب المدرسي . كما تعنى هذه المراكز أيضا بالوقاية ضد العنف بالتنسيق مع الهيئات المعنية بالموضوع مثل آباء التلاميذ. 
إنشاء مراكز صحية لضمان التغطية الصحية الملائمة.
إنشاء محاظر نموذجية في كل منطقة ذات أولوية تربوية يشرف عليها القطاع المكلف بالتعليم الأصلي تقوم بالتكوين الإضافي للتلاميذ في أوقات الفراغ وبمحو الأمية عن الكبار. 
مراحل تطبيق المشروع :
نظرا إلى أن هذا المشروع هو عبارة عن تجربة جديدة لم تترسخ بعد لحداثتها في الكثير من الدول فإننا نوصي بتطبيقه على مراحل على أن يتضمن في البداية مرحلة تجريبية تقتصر على خلق مناطق ذات أولوية تربوية في نموذجين مختلفين يتم اختيارهما في الوقت ذاته من الوسط الريفي ومن الوسط الحضري (مثل المدن الكبرى نواكشوط ونواذيبو وكيهيدي وبعض التجمعات القروية الفقيرة مثل برات) لمدة سنة وتقييم التجربة ومعرفة مدى نجاحها وجوانب القصور فيها وإمكانية تعميمها على كافة أنحاء البلد بالتدريج كذلك إذا لزم الأمر ضمانا لنجاحها وتفادى الصعوبات الملازمة عادة لتطبيقها للمرة الأولى كما حدث في فرنسا.

تصنيف: 

دخول المستخدم