خوفي على بلدي هو خوفي على بلدانكم...

الأمسية مريحة تماما من جميع النواحي، فبفضل كرم مضيفها ومنظمها، محمد ولد اباته ولد الشيخ محمد المامي، وخبرته المتميزة وحرصه عادة على أن يتقن ما يفعله، كان الجو لطيفا والعلاقات حارة وودية حتى في الملبس. لقد أهدى لكل واحد وواحدة من ضيوفه الغربيين الزي الموريتاني؛ ولم يتردد هؤلاء في اكتسائه بسرعة والبقاء فيه طيلة الأمسية، حتى أصبح من العسير على أي أحد أن يفرق بينهم مع الموريتانيين. مما ساهم كثيرا في خلق ظروف ممتعة من الأريحية ومن الانسيابية والحرارة في النقاشات والتبادلات بين الضيوف الأجانب والمدعوين الآخرين.

  وخلال تجاذبنا لأطراف الحديث، سألني أحدهم، وهو من بريطانيا على ما اعتقد، بعدما اطلع، هو وآخرون يجلسون على مقربة مني على تجربتي العسكرية. من ضمنهم سيدة صينية من جزيرة تايوان وأستاذ جامعي فرنسي كان يقوم بدور المترجم بيننا، من الإنكليزية إلى الفرنسية ومن الفرنسية إلى الإنكليزية. سألني الضيف البريطاني بعدما أخبرني أن أباه كان جنرالا في الجيش وشارك في الحرب العالمية الثانية:

 "هل تخاف على بلدك من الناحية الأمنية؟"

 وساندتْه بسرعة رفيقته الصينية، مضيفة:

"وماذا تخشاه بالضبط؟"

أجبتهما، ضاحكا:

 "لست أدري كيف أجيب".

ضحك الجميع بهدوء، قبل أن أواصل كلامي:

 "كأي أحد، خوفي على بلدي من الثوابت الملازمة لي دائما، دون انقطاع. وروافدها متعددة ومتنوعة، ولا أظنني قادرا حلى حصرها بدقة في وقت وجيز، ليس لكونها كثيرة ومتشعبة فحسب، بل لأن ادراكي لها أيضا ، متعثر ومتغير.

وفي هذه اللحظات تنتابني بعض المشاعر سوف أحاول بيان ما استطعت الإفصاح عنه منها:

 

العيش على الماضي.

كثيرا ما اشعر بأننأ، في موريتانيا وفي انحاء كثيرة من العالم، ميالون إلى تقديس ماضينا السحيق بشكل مفرط واستدعائه ليكون بوصلة فكرنا وتصرفاتنا. بينما يجب أن ننظر إلى الأمام. وهذه النظرة المألوفة لدينا إلى الوراء يتغذى عليها الفكر الرجعي المتطرف. وهي مع الأسف تنتشر كثيرا اليوم، ولا يسلم منها بلد ولا أمة. عندنا قد تتخذ لبوسا دينيا، أو قبليا، أو طائفيا... في أروبا والغرب تكتسي صبغات أخرى: اليمين المتطرف، الشعوبية، الإسلاموفوبيا، كراهية الأجانب... وأظن أن الانتصارات الانتخابية المتكررة لأحزاب وحركات اليمين المتطرف ونموها المتزايد في الغرب تعزز كثيرا مخاوفي من حركة العودة الفكرية إلى الوراء التي يعيشها عالمنا. وهي نفس المخاوف التي تنتابني بسبب نمو الفكر الأصولي الراديكالي الذي يتغذى على الخطابات والشعارات الدينية أو الطائفية في العالم الإسلامي والمناطق الأخرى بما في ذلك بلدي وغيره. وطبعا هذه المخاطر عابرة للحدود وتتجلى اليوم في أزمات وصراعات عسكرية كما نرى في منطقة الساحل وفي الشرق الأوسط... إلخ. واعتقد ان حرب أوكرانيا ليست في منأى تماما عنها: أين استراتيجية بوتين والكرملين في منطقة أوروبا الشرقية من الحلم بالعودة إلى عهد "الإمبراطورية السوفيتية" العظيمة؟ وفي المقابل، ألا تطمح الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى إعادة بناء وتعزيز نفوذهم وقدرتهم بدون منازع التي كسبوها بعد "الحرب الباردة" وانهيار المعسكر الشرقي؟

 

 الأقرب ثم الأقرب...!

هذه التوترات وغيرها من التغيرات والأزمات الجيوسياسية، التي تتغذى على ماض ولَّى، تشكل مخاطر على بلدي وعلى بلدانكم. لا شك أنكم تلاحظون أن جل اهتمام الغرب ينصب اليوم حول أوكرانيا والصراع مع روسيا ومع الصين وغيرهما من البلدان الصاعدة التي يرى فيها تهديدا مباشرا له وقريبا منه. ولا أحد يدري ماذا ستؤول إليه هذه الأوضاع الخطيرة التي يتصرف فاعلوها الرئيسيون بأنانية كبيرة حسب منطق القاعدة القائلة ": الأقرب، ثم الأقرب". قاعدة كلفتْ، وتكلف العالم كثيرا. ونحن، في موريتانيا وفي البلدان النامية مثلنا، ندفع ثمنها غاليا. ليس بسبب التداعيات الاقتصادية والمالية المباشرة، فحسب، بل إن دعم شركائنا وحلفائنا الغربيين تراجع كثيرا في مجال محاربة الإرهاب في منطقتنا. فعلى سبيل المثال، أهمية منطقة الساحل تقهقرت من "المرتبة1 " إلى "المرتبة 6" على مقياس الأولويات الجيوستراتيجية لدى البنتاكون.

 

التحدي المناخي.. والأمل المبتعِد.

لا تقتصر المخاطر على الأمور الاستراتيجية  التقليدية، العسكرية أو الاقتصادية. فهي تشمل أهم تحد تواجهه البشرية اليوم، أعني: التغير المناخي وتدهور الوسط البيئي. وموريتانيا من أكبر المتضررين منه رغم كوننا من أقل الدول مساهمة في انبعاث الغازات الدفيئة. ولا أرى حلا للمشكلة في القريب العاجل ولا في أجل متوسط. صحيح أن مؤتمر المناخ "كوب 27" سينعقد بعد أسابيع في شرم الشيخ بمصر. لكن لا تلوح في الأفق مؤشرات جلية تجعلني شخصيا أعلق عليه آمالا كبيرة. بل على العكس: كل الدلائل تشير إلى أن التلوث البيئي سوف يتواصل، في حين يشهد الانحباس الحراري دفعا جديدا بسبب أزمة الطاقة العالمية الناجمة عن حرب أوكرانيا والإقبال من جديد على مصادر الطاقة الأحفورية. مما يشير إلى تراجع في السياسات المناخية التي تم رسمها بموجب اتفاق باريس عام 2015، وتراجع النتائج الإيجابية الناجمة عن الحظر الصحي العالمي  في انحاء المعمورة المترتب عن جائحة كوفيد 19.

والمتضررون من العوامل الجديدة لتدهور المناخ سوف يعانون أكثر؛ والقارة الافريقية على رأسهم.

البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)

تصنيف: 

دخول المستخدم