ثلاث سنوات و عشرة أيام!

صبيحة اليوم العاشر بعد إطفائك شمعة أعوامٍ ثلاث تسألكِ ماما قبيل ان يجيئها المخاض عما في خاطركِ تحضره لك حين عودتها .. تُجيبينَ و كأنما عُلّمتِ الغيب، 
"جيبي لي طفيلة نلعب بيها " .. كان ذلك اليوم الذي سأخرج فيه من ظلام الرحم البهيم الى نور الارض الوضيء.. لا علم لي عما كنت تشعرين به قبل ان يتم تدشين جهاز الذاكرة لدي الا اني اذكر جيدا كيف كنت أحب تقليدك في كل شيء منذ نعومة أظافري، فماما و بابا بالنسبة لي "عمالقة" لديهم قدرات خارقة و عليه فأنتِ على عكسهم يمكن لي ان أكون صورةً مصغرةً منكِ ..

و فيما يبدو كان هذا التقليد الأعمى هو الدافع الرئيسي لإندلاع "حرب البَسوس" كما كانت تسميها ماما .. 
كمٌّ هائل من المتعة هو ما كنت تجدينه في التفنن فيما من شأنه ان يستفزني حتى افقد صوابي و أتعدى عَلَيْكِ إما بقضم احد أطرافك بأسناني او بزرع أظافري -الحادة شيئا ما- في جسدك حتى تترك َ بصمة تفرحينَ بها ايما فرح و بريق الانتصار في عينيكِ فهي دليك القاطع الذي ستقدمينه ليدعم شكايتك مني الى بابا ليرشقني بنظرات مخلبية حادة كابسط نوع من أنواع العقاب ..

لا أنسى كيف استشطتِ غضباً يوم حفل عقيقة الرضا -والذي أكبره بما لا يتجاوز الخمس سنوات- حين اشترت ماما لكِلتَينا فستانين من الجينز متطابقين الا في المقاس .. اعلنتِ إضرابكِ عن لبسه لمجرد انني سأبدو للعامة أشبهك مما جعلني أحزن على نفسي حزناً شديدا و انا اسألها عما يعيبُها لهذه الدرجة التي تجعلكِ تنفرينَ منها ..

و مع هذا لطالما شعرت بسعادة طاغية حين تطلب ماما من محمد ولي الله خادمنا البنغالي آنذاك ان يحضر لنا نفس الطبق بنفس الكمية او تُشرِكنا ام أكرم جارتنا الفلسطينية في المهمة ذاتها كأن نساعدها سوياً في فرد عجينة معمول التمر .. لا اكاد اترك فرصة تمضي لاحتذي حذوك لتضيقي ذرعاً بي في كثير من الأحيان و تصرخينَ في وجهي فوراً : "انا اكبر منك بثلت سنوات و عشرة ايام" و لكَأنكِ تقولين ما بالكِ لا تدركين َ الفارق الزماني الذي يفصلنا ! تكبُرين و فيما يبدو تكبُرُ فيكِ الأنا المترفعة عمن يصغرونها سناً ليُطلَقَ عليهم لقب يجمعهم "من عند كا على التحت" .. و لطالما ايضا اسعدتني أذواقنا المتشابهة لكل ما يصدر من ذلك المذياع من اناشيد كلاً من اسامة الصافي و احمد بو خاطر و من المسلسلات ابو حامد الغزالي و محمد بن ادريس الشافعي و لكأنما امتطينا راحلة عابرة للزمان ..اسعد ايام الاسبوع هو ذلك اليوم الذي تصدر فيه مجلة ماجد "صباح كل أربعاء" لنقرأها سويا من الغلاف الى الغلاف في انتظار العدد القادم ..

مركز ابو بكر الصديق و الذي عشنا على حلقاته طفولتنا حيث ابلة عايشة البنجلادشية و التي ادركت فيما بعد كيف تجلت فيها معجزة القرآن و هي التي لا تجيد من اللغة الفصحى سوى السلام عليكم و هذا الكتاب عليها سهل من فاتحته الى الناس .. قانون التفاضل بين العرب و العُجم .. البرهان المستمر على ان محمدا بلغ الرسالة و أدى الأمانة .. لا أنسى كيف كانت تقبّلُكِ من الإعجاب عيناها و انت ترتلينَ آيات الذكر الحكيم وقعها عجيب في النفس بتجويد هو حليةُ التلاوة .. شعور بالغيرة الشديدة انتابني يوم ختمتِ القرآن و فرحة والدينا بكِ لا يعدلها شيء كيف و انت بالكاد تبلغين العاشرة .. أواسي نفسي بأن ربما بعد " ثلت سنوات و عشرة ايام" سأتمكن من تحقيق هذا الإنجاز و انا التي لم أتمِم الى الآن سوى عشرة اجزاء ..

تُدبِر الطفولة و أيامها لتكوني لي قدوة من نوع آخر تحديدا ايام حدائق البفرلي .. المراهقة الروحانية التي تطيل الركوع و السجود في طمأنينة و خشوع و غالبا ما تجهش في البكاء تعبيراً عن لذة المناجاة .. تشغل ساعات فراغها و كلها آذان صاغية في برامج عمرو خالد، مُعِز مسعود و مصطفى حسني . و تارةً اخرى في شبابيك مع سلمى هبة مها عمرو و إياد و خلي الدنيا شباب بيك ..

شيئا فشيئا وجدتني أتعلق بك و اجد شعورا اتجاهك بعيدٌ قليلا مما عهدته في طفولتنا كيف لا و قد تكوّنَ كلانا في جدار نفس الرحم و احتضننا دفء الام ذاتها و غمرنا عطف و حنان الاب نفسه .. لا عدِمناهما عمرا ً طويلاً ..حتى سخريتك مني ما عادت كما كانت فقد تغيرت لتصبح سخرية مُفعَمة بالحب .. تقومينَ بدور الأخصائية الاجتماعية و المستشارة النفسية في كثير من الاحيان بقولك "ستَرينَ ذلك بعد ثلت سنوات و عشرة ايام" .. تمر الأيام لأكتشف ان ارواحنا روحا توأمين سياميين و ان كان الفرق الزماني بين ولادتيهما "ثلت سنوات و عشرة ايام" بل و إن كان الفرق في تكوين شخصيهما كالفرق بين قطبي القارة! و لعل ذلك الاختلاف هو اكبر دليلٍ و اقواه على ان " كذبَ المنجمون و ان صدقوا" .. في كل تقلبات الحياة و تنوع مواقفها أوقن تماماً بصدق جبران خليل جبران :

"الأخت شيء مُختلف، تشعُر وكأن الله أعطاك روح أخرى في الدُنيا، لا شيء يُشبه أن تكون لك أخت، لا شيء أبدًا"

تكبُرين و تأبى الطفلةُ التي بداخلك ان تكبر، فتمضين سيرًا في الحياة بجسد شابةٍ يحمل في حناياه قلب طفلة لم تتجاوز السابعة.. طفلة لا مفر لها "من باب الصدق " تنعم بما يفتقده أناسٌ كُثُر من هدوء النفس ، نقاء السريرة و قرارة الضمير. يشعر كل من يعرفها بصدق الحديث " ان الله اذا حب عبدا وضع له القبول في الارض " فهو يحب من اتصف بصفاته - " ومن اصدقُ من الله حديثاً"- فالصدق مع النفس صدقٌ معه و كيف لا يكون و هو العليم بخائنة الاعين و مطلعٌ على ما تخفيه الصدور !

تميز أكاديمي باجماع تام منذ بداية مشوارك الأكاديمي و ها هو يتوج بدخول مرحلة جديدة لتصبحين فاطمة سيدي محمد طالبة كلية الطب البشري .. من وايل كورنيل الامريكية في دوحة قطر الى تشرين السورية في اللاذقية الى جامعة نواكشوط .. ظروف قاهِرة لا مفر منها فصلت بين المحطات الثلاث، عرفنا من خلالهم أصدقاء نشعر و لكأنهم "أخٍ لك لم تلده امك" .. رنا إمام و عايشة الصومالية مرورا بعايدة و فاطمة العراقية و سجى و ظبية وقوفاً عند مراد و فاتيس و نورة و غيرهم في المحطة الاخيرة .. ثلاث محطات تغير خلالهم الكثير و تغيرت خلالهم "نجيبة متولي الخولي" لتجد من ما يخفف عنها لدى جدتها الحكيمة تغمدها الله برحمته:

الفكر في المسائل الصعاب ِ
يرثُ في القلبِ داءاً رابي
دواؤه سماع ُ صوتٍ حسنِ
و ذاك قي المواقي مِمَّا يُعتَنِ

و لا بأس في ان ينتشلنا حلمي او هنيدي من ذلك الفكر كما يمكن لدوائهِ ان تصِفَهُ "لهفة" او ان يكون في يد "نيللي و شريهان " إلا ان مما لا شك فيه ان العيش في "اللالالاند " له اثر كأثر الدواء و لا غنى لنا عنه ..
و كما كان الخيميائي يرى العلامات و الإشارات الكونية في رحلة البحث عن كنزه لا أرى لتعلقكِ بصاحبة السعادة سوى بداية حقبة جديدة من حياة ملئية بالسعادة و البهجة و لذة الإنجاز .

رحلة لم تكن بالسهلة على الإطلاق من ألفها الى يائها حتى و لما أشرفت على الانتهاء لم تخلو من العقبات .. الأيام الاخيرة تحديدا و الضيق في قلبك يتسع حيث طفح الكيل كان حقاً تخرجا ً اشبه بالخروج من عُنُقِ زجاجة.. ايام طوال من القلق و الانتظار يتخللها مواقف تذلل تجعل منك Victor Hugo عصرك فلا يمكن للابداع الا ان يولدَ من رحم المعاناة :

‏Je dois soutenir 
‏Mon papa doit venir 
‏ Ma sœur doit partir 
‏Je dois soutenir

هرمنا حقا من اجل هذه اللحظة التاريخية لتُعلَني رسميا الدكتورة فاطمة .. هذا اللقب الفاتن الذي يشعر كل من يناديك به بالفخر .. فرحتي بإنجازك هذا لا يمكن ان تضاهييها اي فرحة سوى ان اراك ِ - و عساه ان يكون قريباً - اجمل عروس لمن يستحق حقاً ان يخفِق له قلبك، و أُماً لاطفال اسعفتهم الاقدار حين اختارتكِ لتكوني بوابتهم التي سيعبرونها نحو معترك الحياة ..

 

تصنيف: 

دخول المستخدم