الوعي المدني / د. اسلكو أحمد ازيد بيه

كانت وجبة الغداء في منزل "جيرار" و"آرلت" في ضواحي مدينة "مونتارجي" نوعية بامتياز، حيث أصرت ربة البيت على أن تطهي عينة من ما اقتنصه زوجها منذ افتتاح موسم الصيد البري، أسبوعا أو أسبوعين قبل ذلك. كان "جيرار" يملك أراض مخصصة لإيواء الحيوانات والطيور البرية، الشيء الذي خوله الحصول على رخصة رسمية لصيد عدد محدد منها سنويا. على الطاولة، لحم غزال مشوي، أرانب مغلية ودرّاجان أو ثلاثة وحجلان أو ثلاثة بالفرن، بالإضافة إلى مجموعة من الأطباق التي تتميز بها منطقة "لبيري" الفلاحية. وقع اختياري على الدرّاج لتشابه شكله ولحمه مع شكل ولحم الحبارى المعروف لدينا في موريتانيا، كما راقت لي فطيرة "تاتين"، هذه الفطيرة الأسطورية التي اكتشفتها، في القرن التاسع عشر، الأخوات "تاتين" في مطعمهن ب-"لاموت-بفرون" المجاورة، إثر محاولة فاشلة لتحضير فطيرة تفاح! كانت هذه الفطيرة الأقرب، في تصوري، شكلا على الأقل إلى طبق "عيش سوناري" في "كوش"...

 انتهى حفل الغداء متأخرا بالقهوة أو الشاي أو شاي أعشاب (“تيزان") أو مجرد كوب ماء لجميع المدعوين، حوالي الخامسة ؛ بعدها طلب "جيرار" من ضيوفه، كما هو معهود في بلده، مرافقته في "جولة المالك"، استغرقت حوالي نصف الساعة.

بعد طقوس الوداع، توجه كل مدعو نحو سيارته ؛ كنت أستقل سيارتي الأولى (حولي الطفله الاول) من نوع "اديان" ("دي شفو") الذائعة الصيت شعبيا في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، في فرنسا ؛ لقد اقتنيتها أقل من سنة قبل ذلك، بستة آلاف افرنك فرنسي، وفرها لي عقد العمل ك-"ملحق للتدريس والبحث" في جامعة "أورليانه" العتيقة. في المقعد الأيمن، جلست جامعية فرنسية جاز لي وقتها شرعا السفر معها.

انطلقت السيارة على طرق فرعية، وسط غطاء نباتي كثيف، في جو معتدل، وما لبثت أن التحقت بطريق رئيسي نحو مدينة "أورليانه". كيلومترات معدودة ولوحت الشمس بآخر أشعتها الخريفية، إيذانا بسدل الستار الليلي على حوض "لالوار"... تم عبور جسر "سيلي سير لوار" الشهير، بانسيابية تليق بالبيئة البورجوازية المتوسطة التي تحيط به من كل الجهات ؛ واجهات معمارية ملفتة وحدائق عمومية ومنشآت رياضية حديثة، تشي مجتمعة بطموح الخطط، بالنسبة لمدينة صغيرة نسبيا. كان آخر ما ودعتنا به "سيلي سير لوار"، محطتها الضخمة للوقود إلى اليسار من الطريق ؛ لم نلجأ إلى خدماتها، رغم انخفاض منسوب البنزين لدينا، وذلك بسبب طابور فيها ووجود محطات أخرى أمامنا.

كان الطريق نشطا، دون أن يكون مزدحما ؛ الشيء الذي فرض على مرتاديه تخفيض السرعة المعهودة ليلا على هذا النوع من الطرق ومراقبة المسافة الفاصلة مع السيارة الأمامية المباشرة. فجأة، اهتزت سيارتنا بقوة كما لو اصطدمت بسيارة أخرى أو بكتلة جامدة. بسرعة أدرت المقود إلى اليمين وركنت السيارة على جانب الطريق، وأنا في حيرة من سبب الصدمة، إذ كنت متأكدا من أن الحادث لا يتعلق بسيارة أخرى. نزلت لأتفقد الأضرار وأحاول معرفة ما جرى بالضبط ؛ كان أول ما لاحظته هو تعطل كل أضواء السيارة باستثناء "الساهرات" ("فييز") منها ؛ اقشعر جلدي خوفا وتسارعت دقات قلبي، عندما سمعت، فجأة وعلى الجانب الآخر من الطريق، صوت "لهث" متواصل! عبرت الطريق، بعد نظرة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار احترازا من السيارات المسرعة، وبحذر مضاعف بدأت أقترب من مصدر الصوت : "أه-أه-أه..."، دون انقطاع! فهمت أن الأمر يتعلق بحيوان، وكان أول ما فكرت فيه هو كلب أو ثعلب، نظرا إلى ما كنت أقرأه، من وقت لآخر، عن حوادث الطرق، في الصحف المحلية. لا، لم يكن كلبا ولا ثعلبا، بل غزالا لما يبلغ السنة ؛ وضعت يدي على رأسه بلطف، فشعرت بقرنيه الصغيرين اللذين بالكاد كانا قد خرجا من أعلى رأسه. فهمت أن الغزال الصغير كان يجري بسرعة كبيرة، وفي محاولته قطع الطريق أمامنا، اصطدم مؤخره بمقدمة السيارة، مما تسبب له في كسور خطيرة في الظهر والرجلين الخلفيتين، إلا أن "الطاقة الحركية" مكنته من قطع الطريق وزيادة!

لقد اقترحت : "لنترك الحيوان لحاله، فعلينا أن نداوم غدا...".

أجابت "الجامعية" : "هل تعي ما تقول؟ مثل هذا التصرف قد يدخلك السجن، تحت طائلة "سوء معاملة الحيوانات"، من ناحية، ولا يجوز أخلاقيا لأي كان ترك هذا الكائن الحي في هذه الظروف، خاصة بالنسبة لمن هو ضالع فيها، من ناحية أخرى". لم أجد ما أرد به، فقررت حمل الغزال الصغير في ذراعي ووضعه بحذر في الصندوق الخلفي للسيارة. عدنا أدراجنا صوب قرية "سيلي سير لوار" القريبة، التماسا لمخرج عملي وقانوني لما بدأت أفهم أنه حدث أكثر تعقيدا من ما كان الحال سيكون عليه لو تعلق الأمر بغزال صغير في بلدي، موريتانيا... طبعا لم يكن بوسعي التوجه بالجيوان إلى البيت، إذ فهمت أن شرطة المرور قد توقفني لأن أضواء السيارة متعطلة، وبعد تفتيش، ربما اكتشفت الغزال الصغير واتهمتني بالتستر على حادث سير والأخطر من ذلك كله، بالصيد غير المرخص!! كما أن شهود عيان قد يكونون أبلغوا شرطة المرور بالحادث، وقتا قليلا بعد وقوعه. زد على ذلك أنني لو نجحت في إيصاله البيت، فسيلاحظ الجيران الطيبون الغزال الجريح وسيتعاطفون معه ويطالبون بتوفير العلاج المناسب له وتأهيله!... وفي أحسن الأحوال، أي بافتراض -جدلا- أنني استعطعت إدخال الغزال الصغير في البيت دون إثارة انتباه أي كان، فهل سأجرؤ على ذبحه؟ وفي حال تحقق احتمال الذبح الضعيف أصلا، فأين سيكون ذلك بالضبط؟ ومن سيساعدني في العملية؟ ثم ماذا سأفعل به، علما بأنني لم أسلخ جلد دابة في حياتي؟!... فكرت في كل السيناريوهات الممكنة والفرضية، دون إيجاد أي مخرج آمن قانونيا أوعمليا من المأزق الثقافي والقانوني والأخلاقي غير المتعمد الذي وقعت فيه.

لقد قصدت محطة الوقود الصخمة في مدخل قرية "سيلي سير لوار"، لأتزود بالبنزين ولأسأل مسيرها عن مخفر الشرطة أو الدرك، لأروي تفاصيل الحادث وأعرف منهم ما علي أن أفعله من منظور النظم والقوانين.

بمجرد ركن السيارة أمام إحدى مضخات المحطة، لاحظت أن لمسير المحطة كلبا "راعيا ألمانيا" ضخما ؛ لعل الكلب استشعر الغزال الصغير، حيث بدأ يدور حول سيارتنا قبل أن يستقر به الأمر أمام الصندوق الخلفي حيث يرقد الغزال الصغير. بعد حملة شم مسعورة، طفق الكلب ينبح بصوت مرعب، أحرجنا كثيرا إذ بدأ رواد المحطة ينظرون إلينا بريب واستغراب. لم يستفسر المسير عن أي شيء، عندما حان وقت السداد ؛ وعلى سؤالي عن مخفر الشرطة أو الدرك، أجاب بأنه لا يوجد أي مخفر من هذا النوع في المدينة الصغيرة، لكن هناك جهاز اتصال ("أينتيرفون") يمكن، بالضغط على زر فيه، الحديث مع أقرب مخفر للدرك ؛ ثم دلنا على مكان الجهاز المذكور.

ضغطت على زر الاتصال، فرد علي صوت رجالي طلب مني التعريف بمبرر الاتصال. قصصت عليه تفاصيل الحادث، ثم طلبت منه كيفية التصرف وأضفت :"أود الاستفادة من التأمين لإصلاح السيارة، فأنا لم أرتكب أية مخالفة". أجابني الدركي باحترام ووضوح، فشرح لي أنه علي أن أقصد "دار المسنين" ("أوسبيس") في القرية وأن أشرح لأحد مسؤوليها ما حدث وأن أسلمه الغزال، وأنه في المقابل سيعطيني وثيقة تمكنني من طلب إصلاح السيارة على حساب شركة التأمين.

نزلت من السيارة أمام « دار المسنين » ثم توجهت صوب مدخلها الرئيسي، فوجدت نفسي أمام جمع من المسنين، بعضهم في ظروف بدنية صعبة ؛ أعتقد أنني أزعجتهم، نظرا للوقت المتأخر نسبيا ولبشرتي الداكنة... بدأ بعضهم يسألني عن ما جاء بي ؛ طلبت مقابلة المسؤول الأول في المؤسسة أو من ينوب عنه، فنزلت من الطابق العلوي سيدة، طلبت مني، بعد التحية، شرح مبرر زيارتي. أجبتها بما سمعت، عن بعد، من الدركي ؛ فرحبت بي وشرحت لي بتأن أن ما قاله الدركي هو "نص القانون وروحه"، إلا أن مرضا أصاب الغزلان البرية وقتها، من ما فرض على مؤسستها إرسال عينة من أحشاء هذا النوع من "الهدايا" إلى أحد المختبرات في باريس، للتأكد من سلامة الحيوان، الشيء الذي كان يكلف المؤسسة أكثر من ثمن لحم الغزال في الأسواق المختصة! ثم واصلت : "أنا آسفة، لا أستطيع تسلم الحيوان منكم". خرجت من البناية وأنا في حيرة من أمري، وفي الطريق إلى السيارة، مر قريبا مني رجل ضخم البنية البدنية، يحمل آنية جعلتني أفهم أنه طباخ المؤسسة. قلت في نفسي لعل الطباخ يكون أكثر تفهما لموضوع يتعلق بلحم الغزلان الصغيرة... توجهت نحوه وسلمت عليه ثم طلبت منه مرافقتي نحو السيارة لأريه شيئا يتعلق بالمؤسسة. فتحت الصندوق الخلفي وأريته الغزال الصغير وقلت له بالحرف الواحد : "أنا أجنبي، ولو حصل هذا الحادث في بلدي، لحسم الأمر شيا فأكلا!"، ثم اقترحت عليه ثلاث مائة فرنك فرنسي لتخليصي من الحيوان. ضحك (خجلا) قليلا، ثم خاطبني مباشرة : "لا أستطيع"!... سألته عن ماذا بوسعي أن أفعله لكي أتخلص من الغزال الصغير، فأجابني : "بإمكانك الاتصال بالطبيب البيطري للقرية، لتسميم الحيوان". لم تكن الهواتف الخلوية موحدة آنذاك، فاقترح علي (مشكورا) الاتصال من مكتبه. اتصلت بالطبيب البيطري وشرحت التطورات منذ الحادث، ثم طلبت منه مساعدتي طبقا لاقتراح الطباخ، علما بأنني مستعد لتسديد أية تكاليف محتملة. رد علي الطبيب البيطري :"لا أستطيع تسميم الحيوان، لأن بعض الطيور ستأكل لحمه، الشيء الذي قد يتسبب في دخول السم إلى الدورة العذايية البشرية"... لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

بعد تفكير، قررت العودة، في ذلك الوقت المتأخر من الليل، إلى الصياد "جيرار"، لعله يكون أكثر خبرة في التعامل مع الغزلان الجريحة، مع الأمل أن لا يشتبه، عند طرقي باب داره مجددا، في أنني لص ليلي، ويستعمل إحدى البندقيات التي كان يحتفظ بها بفخر وعناية، في الجانب الأيسر من مدخل منزله...

(يتواصل إن شاء الله)

 

تصنيف: 

دخول المستخدم