تراجع بسرعة بصيص الأمل الذي لاح في الأفق لما أفادت مهمة الوساطة التي قام بها وفد من برلمان مجموعة دول غرب إفريقيا (إيكواس) بأن "المجلس العسكري لحماية الوطن" مستعد للتفاوض والحلول الدبلوماسية. ففور مغادرة البرلمانيين انيامي، أعلن الانقلابيون أنهم جمعوا من الأدلة ما يكفي لمتابعة محمد بازوم قضائيا، بتهمة "الخيانة العظمى والمساس بالأمن الداخلي والخارجي للنيجر"، معلنين بذلك ضمنيا أنه لا مجال لإطلاق سراحه.
تشدد الانقلابيين.. وفتور " إيكواس"...
يؤشر بيان المجلس العسكري لحماية الوطن لمن يقرأ بين السطور بأن الانقلابيين سائرون على طريق "التأزيم". وتماديهم في النهج التصعيدي قد لا يقتصر على هذا الحد من عقاب الرئيس المخلوع وتحدي حلفائه. فشعورهم المتزايد بالقوة قد يحدو بهم، إن لم يلق عثرات، إلى توجيه تهم إضافية لبازوم، من المرجح أن يكون الفساد والرشوة من ضمنها، علما أن هذا النوع من المآخذ يأتي تقليديا على رأس حجج الانقلابيين، التي يبررون بها تمردهم على السلطة التي أزاحوها أو حاولوا الإطاحة بها.
والتصعيد ليس واضحا من خلال محتوى خطابهم، فحسب، بل في شكله أيضا. فبياناتهم الرسمية تأتي دائما على لسان أحد أعضاء المجلس العسكري المقربين من الجنرال عبد الرحمان تشياني، مرتديا بذلة الميدان العسكرية، ولا يتقيدون بالتوقيت العادي لبثها. فكثيرا ما تأتي في وقت متأخر، بعد أوقات الدوام الرسمية كما كان الحال بالسبة للبيان الأخير حول تهمة" الخيانة العظمى" السابقة الذكر. مما يضفي طابعا "استثنائيا"على فحوى الرسالة التي يريدون تمريرها إلى الرأي العام الوطني. ومن ثَم يوظفون المظهر العسكري والطابع الاستعجالي الخاص للرسالة كأداة تحريضٍ وتأجيجٍ لمشاعر أنصارهم ومشاعر المستائين من النظام في البلد وفي المنطقة.
ويستشف من تشددهم المتزايد تباينٌ في المنحنى الذي يتخذه موقفهم "الصلب"، مقارنة مع المسار المتذبذب الذي تتبعه الإيكواس. فإن كانت هذه الأخيرة لم تراعِ نهج التدرج في تصرفها لما وعدت، في ردة فعلها الأولى ضد الانقلاب، بالحرب في مهلة أسبوع، فإنها الآن تقول وتردد أنها تفضل الحلول الدبلوماسية ولو أنها لم تنْءَ بنفسها عن التلَويح بالخيار العسكري بصورة خجولة. بينما يبدي الانقلابيون، على عكسها أقصى درجة من التشدد كما أسلفنا.
قوة الانقلابيين الشديدة، أم ضعف خصومهم؟
لا يعود حقيقة مرد الشعور بالقوة لدى المجلس العسكري لحماية الوطن إلى قوة ذاتية يمتلكها، بل إلى ضعف خصومه المتمثل في كون تهديدات ووعيد الإيكواس تواجه مصاعب لا يستهان بها على أرض الواقع: فلا القوة العسكرية جاهزة، ولا دولها على اتفاق حول الموضوع، وكذلك، فإن حلفاء بازوم الغربيين ليسوا تماما على نفس الخط فيما بينهم... ناهيك عن معارضة الروس والصين لأي تدخل أجنبي في النيجر وهما دولتان عند كل واحدة منهما حق النقض (الفيتو)، مما يمنع مجلس الأمن من اتخاذ أي قرار ضد الانقلابيين.
وهذا في الوقت الذي تتعالى فيه أصوات معارضة هي الأخرى للحل العسكري وأحيانا داعمة للانقلاب؛ أصوات عريضة من السكان في النيجر ومن دول غرب إفريقيا، خاصة في البلدان التي يعوَل كثيرا على مشاركتها في العملية العسكرية الموعود بها: نيجيريا، كوت ديفوار، السنغال، بينين...
وعلى الصعيد الخارجي غير الأفريقي، فإن فرنسا هي الدولة الأجنبية الوحيدة التي تساند تماما التدخل العسكري وتدعو إليه من أجل إعادة محمد بازوم إلى السلطة. غير أن حلفاء بازوم في الدول الغربية ليسوا تماما على نفس الخط فيما بينهم. صحيح بأنهم جميعا أدانوا الانقلاب العسكري، إلا أن أساليب الخطاب لديهم تتباين فيما يعني طرق مواجهة الموقف. في أوروبا، أعلنت إيطاليا بوضوح عدم موافقتها منذ البداية على التدخل العسكري، كما أن ألمانيا دعت إلى المفاوضات والحلول الدبلوماسية. مما قد يشكل عائقا أمام موقف موحد للاتحاد الأوروبي، علما أن قراراته تؤخذ بالإجماع.
الصراع الخفي بين باريس وواشنطن.. وضعف فرنسا...
يبدو لنا الموقف الأمريكي والموقف الفرنسي مثيرين للاهتمام لما ينطويان عليه من عناصر تؤشر على التغيرات الجيوسياسية الجديدة. فقد بادرت الولايات المتحدة بسرعة وبصورة واضحة إلى التنديد بالانقلاب قبل أن يكتمل ويعلن القائمون به الإطاحة بنظام محمد بازوم. بينما بدت فرنسا مرتبكة ومتريثة خلال الساعات الأولى من الأحداث، حيث عبرت وزارة الخارجية الفرنسية حينها عن مخاوفها من "عدم استقرار البلد"، مكتفية بالقول بأنها "تراقب تطورات الأوضاع". ثم اتخذ بعد ذلك موقفها نبرة مغايرة تماما تتسم بعدائها القوي للانقلابيين فور إعلان هؤلاء الإطاحة بالنظام. ولم تخف كمْ هي تعلق آمالا كبيرة على التدخل العسكري الذي وعدت به إيكواس، ربما لأنها لا تعلم آنذاك بأن الإدارة الأمريكية ليست معها على نفس الدرجة من التشدد في الموقف لصالح الرئيس المخلوع.
وردا على تشددها، شهدت نيامي مظاهرات شعبية مناوئة لفرنسا تخللتها أعمال شغب استهدفت أحيانا السفارة الفرنسية في العاصمة النيجيرية. وقد دفعت خطورة الموقف بالرئيس مانويل ماكرون إلى القول بان فرنسا سوف تتصرف بقوة إن "تعرض رعاياها أو مصالحها للخطر". وسوف يظهر لاحقا أن تهديده يقتصر على حماية رعايا بلده لما بادرت حكومته بإجلائهم فورا مع رعايا غربيين آخرين إلى فرنسا. أما التحذير والتخويف من تعريض المصالح الفرنسية للخطر، فيبدو أن الأمر لا يعدو كونه كلاما فارغا- أو زلة لسان في أحسن الحالات صدرت من طرف صاحب الكرسي في الأليزيه: فلا هو اتبعها بفعل ولا بقول. في حين أعلن الحكام الجدد في النيجر، من جانب واحد، تخليهم عن جميع المعاهدات العسكرية التي تربط بلدهم مع فرنسا. وطالبوا بخروج القوات الفرنسية من بلادهم في أقرب الآجال.
ويبقى السؤال عالقا حول أهم مصالح فرنسا في النيجر : ما هو مصير التعاون بين البلدين في مجال مناجم اليورانيوم النيجيرية الذي تستخرجه شركات فرنسية وتصدره إلى وطنها ليساهم في توفير 15 إلى 20% من حاجيات مولدات الطاقة النووية من اليورانيم الطبيعي في فرنسا ؟
الولايات المتحدة.. وقانون الغاب الجيوسياسي...
لم تعلن الولايات المتحدة دعمها للحل العسكري، ولم يكن خطابها شديد اللهجة ضد الانقلابيين، خلافا لفرنسا. بل أظهرت نائبة وزير الخارجية بالوكالة، فيكتوريا نولاند المبعوثة إلى نيامي، نوعا من الاحترام لأعضاء المجلس العسكري الذين تحدثوا معها، رغم أنها لم تلتق بزعيمهم ولم يسمحوا لها بلقاء بازوم. ومع ذلك، فلم تتصف تصريحاتها وبيانات الخارجية الأمريكية بالعدائية ولا بالتشدد فيما يعني نتائج تلك الزيارة مكتفية بالقول بأن المحادثات كانت "صريحة وعويصة جدا".
وبدورهم لم يصدر عن الانقلابيين ولا عن تحركات الشارع المؤيدة لهم أي تصرف معاد لأمريكا: لا ضد سفارتها في نيامي، ولا ضد قاعدتها الجوية التي كلفتها أكثر من 100 مليون دولار، ولا ضد جنودها البالغ عددهم أكثر من 1000 فرد موجودين داخل الأراضي النيجرية. ولا شك أن هذا هو الهدف الحقيقي الذي جاءت من أجله فيكتوريا نولاند للقاء الانقلابيين: الحفاظ على المصالح الأمريكية. ونعتقد أنها حصلت منهم على ضمانات معتبرة تحقق لها الكثير مما أرادت، ضمانات لا تخلو أيضا من سد الأبواب أمام روسيا وذراعها العسكري في إفريقيا شركة فاغنير. ومن جهة أخرى، فلا مانع عند "العم سام" من إن يضايق الفرنسيين في مناطق نفوذهم التقليدية عندما يتبادر له عجزهم عن الحفاظ عليها. مما يجعل كفة ميزان المنافسة بين الدولتين تميل لأيهما أقوى طبقا لقانون الغاب. لذا، فحيث ما تبدو ملامح الضعف والوهن على الدول الغربية، يسارع الأمريكيون لملء الفراغ قبل أن يحتله الصينيون أو الروس أو منافسون من بلدان صاعدة أخرى: الهند، البرازيل، تركيا...
وبما أنها تعي أن عهد الأحادية القطبية الذي كانت تقودها بدون منازع منذ تفكك الاتحاد السوفييتي، قد ولى اليوم، فإن الولايات المتحدة تعمل جاهدة على إنقاذ ما تبقى من النفوذ الغربي وهيمنته المتدهورين. فنراها تبذل قصارى جهدها لسد الفراغات الحاصلة بموجب إعادة تشكل خريطة التوازنات ( أو على الأصح عدم التوازنات) الجيوسياسية. وحتى تحفظ لنفسها مكانة عويصة المنال، فهي تدرك أنها في موقف دفاعي صعب يفرض عليها التعاطي مع تحديات كثيرة ومتغيرات متنوعة: التمدد الصيني المتعدد الأوجه (التجاري، التكنولوجي، الاقتصادي...)، التغير المناخي، تزايد اقطاب النفوذ والمنافسة المتعددة الأطراف (مثل: بريكس، أوبيك...).
خلاصة...
في هذه الظروف المعقدة والمتغيرة، المحلية والجهوية والدولية، فمن المستبعد أن يتم حل الأزمة النيجيرية بسهولة وبسرعة، ولا حل الأزمات السياسية في بلدان متفرقة أخرى من منطقة الساحل. فعلى العكس: الخيارات المتسرعة والراديكالية كثيرا ما لا تحمد عقباها. والخوف له ما يبرره تماما فيما يخص أزمة النيجر في ظل تعنت الانقلابيين وشعورهم ربما المفرط بالقوة، وفي ظل سباق النفوذ الجيوسياسي في المنطقة بين الأطراف الخارجية.
عقيد (متقاعد) البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)
تصنيف: