المواطنة: ثقافة سلوك تُبنى / محمد المختار ولد سيدينا*

بعد عصور البداوة والانعزال وما سادها من تقوقع وتمركز حول الذات ممثلة في الأسرة والعشيرة، تحولت المجتمعات إلى كيانات أكثر فاعلية، هي الدول، بما توفره من مجالات للبرمجة والتخطيط الجمعي وتحقيق المردودية الناجعة. 

وكان لزاما على المسلكيات والقيم أن تتبدل حتى تنسجم مع معطى الدولة الجديد، بوصفه تجليا لمنظومة علاقات ومصالح تتجاوز الإطار الضيق كما وكيفا.  

وكانت مفاهيم الوطن والمواطنة مما ارتبط بالدولة وما أفرزته من قيم ومسلكيات جديدة تمثل في العديد من حالات قطيعة مع الماضي، وضربا من إدارة التشكل في علاقة الأفراد والمجموعات بعضهم ببعض.

وأصبح الأمر أكثر إلحاحا مع ظهور الطرح الفئوي الذي يستغل التنوع داخل المجتمع والتحديات المتعلقة بتوفير الخدمات وتسيير الموارد لركوب التنوع والتعدد داخل المجتمع مطية لتحطيم السلم والوئام والانسجام داخل النسيج الاجتماعي الواحد وضرب مكوناته وشرائحه وقواه بعضها ببعض.

  ونتيجة لعامل الوقت، لن يقف هذا العرض الموجز عند الأبعاد التاريخية والاصطلاحية لمكونات الموضوع والتعلق بالموطن والوطن إلخ، وإنما سيركز على لمسات إجرائية حول المواطنة والسلم الاجتماعي تكون بمثابة مدخل للنقاش.

إنارات إجرائية

في الثقافات الإنسانية والعربية على وجه الخصوص، حصل تدرج في بناء وترسيخ مفهوم المواطنة، من الموطن إلى المدينة فالوطن:

  • اليونان والمدينة الدولة
  • فرنسا والانتقال من البرجوازي إلى المواطن...
  •  وبعد مسار طويل متعثر، كان ميلاد الدولة الحديثة و"المواطنة" من أجل:
    • تجاوز الأطر التقليدية الفئوية بما فيها من إقصاء وتهميش وظلم تحمل بذور البغض والكراهية والعنف؛
    • إرساء نظام قابل للاستمرار والتطور بما يتضمنه من اعتراف بالجميع ومشاركة شاملة ومساواة؛
    • قطع الطريق أمام من يصطادون في المياه الآسنة المنتنة من خلال إرساء "عقد اجتماعي" يضبط وينظم ويحكم باعتبار ذلك أحد الشروط الأساسية لإرساء السلم المجتمعي (البدء في مجتمع المدينة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وتوقيع صحيفة المدينة أول دستور للمواطنة في الإسلام[i]... بالمقابل انهيار الدولة العباسية[ii] في أوج ازدهارها الاقتصادي  نتيجة تلاشي العقد الاجتماعي و...).

فعندما تختلّ منظومة السلم الاجتماعي فإن التنمية تتعثر أو تتأجل، وقد تتوقف بصورة كاملة، فيتداعى بناء المجتمع وينهار كيان الوطن، وتضيع مصالح الدين والأمة. وهذا ما يبرز بجلاء دور المواطنة في تعزيز واستمرار اللُّحمة الداخلية والسلم المجتمعي، لجني مردود السلم الاجتماعي وآثاره الإيجابية، ففي ظله يمكن تحقيق التنمية والرخاء والازدهار، حيث يتّجه الناس صوب البذل والبناء والإنتاج والعطاء، و تتركز الاهتمامات على المصالح المشتركة، وتتعاضد الجهود والقدرات والمهارات في خدمة المجتمع.

لكن كل ذلك رهين ببناء المواطنة واكتمال عناصرها والسعي الحثيث لتوطيد مقوماتها.

المواطنةعناصر متكاملة

لقد ترسخ لدى الدارسين تناول ثلاثة جوانب للمواطنة ذات ارتباط وثيق بالوضع القانوني:

  • المواطنة المدنية المتمثلة في الحريات الأساسية (حرية التعبير، المساواة أمام القضاء، حق التملك...)؛
  • المواطنة السياسية القائمة على المشاركة السياسية (حق التصويت والانتخاب، وحق الوصول إلى بعض الوظائف العمومية، وحق الحماية من لدن الدولة)؛
  • المواطنة الاجتماعية المترتبة على إقامة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (الحق في الصحة، الحق في الحماية من البطالة، الحقوق النقابية...).

لكن، علاوة على الوضعية القانونية والأدوار الاجتماعية، تتحدد المواطنة أيضا عبر مجموعة من القيم، ثلاث منها رئيسية:

  • التمدن أخلاقا وسلوكا Civilité (الأدب أو التهذيب أو اللطف)، ممثلا في احترام الآخرين، واحترام المرافق العامة والمباني العمومية ومواقع المجال العام (النقل العمومي على سبيل المثال).
  • التمدن في مجال التعامل مع القانون Civisme، ويتمثل من قبل الفرد في احترام القوانين والنظم المعمول بها، والوعي بواجبات الفرد تجاه المجتمع، مما يدفعه إلى التصرف بإيثار يسود الصالح العام على المصالح الفردية الضيقة.
  • التضامن Solidarité: فالمواطنون لا يمثلون مجموعة أفراد يضم بعضهم إلى بعض، وإنما مجموعة من الرجال والنساء المرتبطين بمشروع مشترك، يستدعي منهم التضامن من أجل تحقيقه. وهذا التضامن يمثل موقف انفتاح تجاه الآخر، تترجمه على مستوى شعار الدولة مكونتا "الشرف والإخاء". وهو يكتسي صبغة مباشرة من خلال مد العون إلى من هم أكثر احتياجا، وصبغة غير مباشرة عبر السياسات العمومية (مثل الضرائب التي تساعد من بين أمور أخرى في إعادة توزيع الثروة).

المواطنة: مقومات تُبنى

لكي تكتمل شروط المواطنة وتؤدي دورها المنشود بشكل فاعل ناجع، يتم النظر إلى خمس مقومات جوهرية في بعدها الديناميكي المتدرج:

  • المقوم الأول اكتمال دولة القانون المدنية، التي تؤكد على المشاركة والمساواة أمام القانون.
  • وفي موريتانيا- رغم ما يطمح إليه الجميع من تحسينات وتركيز على التطبيق- هناك ضمانات دستورية هامة في هذا الشأن، إذ أن الدستور الموريتاني يصرح بتعلقه بمبادئ الديمقراطية على نحو ما حددها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر 1948 والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب بتاريخ 28 يونيو 1981. والدستور ينص على أن "الجمهورية تضمن مساواة جميع المواطنين أمام القانون دونما تمييز في المنشأ أو العرق أو الجنس أو الظروف الاجتماعية". كما يضمن الدستور صراحة الحريات العمومية والفردية للمواطن، ويصرح بأن جميع المواطنين يمكنهم النفاذ إلى الوظائف والمهام العمومية دونما شروط غير تلك التي تحددها القوانين.
  • المقوم الثاني. ارتباط المواطنة بالديمقراطية، وذلك بوصف الديمقراطية الحاضنة الأولى لمبدأ المواطنة التأكيد على لا مركزية القرار، في مقابل اختزال مركزية الجماعة، الشعب هو مصدر السلطات، مبدأ المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين، توافر قدر من الوعي المستند إلى إمكانية الحصول على المعلومات من مصادرها المختلفة، بحيث تُصبح هذه المعرفة قاعدة القدرة على تحمل المسؤولية، كما تشكل أساس القدرة على المشاركة والمساءلة.
  • المقوم الثالث. عقد اجتماعي يؤكد على أن المواطنة في الأمة، هي مصدر كل الحقوق والواجبات، وأيضاً مصدراً لرفض أي تحيز فيما يتعلق بالحقوق والواجبات وفق أي معيار. ضمن ذلك، من الضروري تأكيد التلازم بين الحقوق والواجبات القانونية والسياسية، والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وذلك حتى تتحقق الديمقراطية الكاملة. وفي هذا الإطار يتطلب التأكيد على المواطنة التأكيد على المساواة والعدل الاجتماعي، فيما يتعلق بتوزيع الفرص الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبطبيعة الحال السياسية.
  • المقوم الرابع. الفرد الملتزم الذي يخضع لعملية التنشئة الاجتماعية والثقافية والسياسية، التي تقوم بها مؤسسات المجتمع المختلفة، بإشراف الدولة وسيطرتها؛ ذلك أن عملية التنشئة ــ في حال  نضجها ــ تساعد الفرد على استيعاب أهداف الجماعة وتراثها، والتعبير عن مصالحها، والتعايش مع الجماعة، دون أن يذوب في إطارها.
  • المقوم الخامس. توفير الحاجات الأساسية للمواطن بأبعادها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. التخلي عن القيام بالتزامات في هذا الشأن قد يؤدي إلى ظواهر عديدة، تُشير في مجملها إلى تآكل الإحساس بالمواطنة (الانسحاب من القيام بالواجبات، عدم الإسهام أو المشاركة الفعالة على كافة الأصعدة، الهروب من المجتمع، البحث عن مواطنة جديدة، التمرد، الاحتماء بجماعات وسيطة، أو أقل من الدولة).

 المواطنة النشطة

وتتحقق الأهداف المتوخاة عندما يتم التحول من المواطنة السلبية إلى المواطنة النشطة حيث:

  • يتم إحياء وتطوير نماذج التضامن التقليدية (اتويزه، الحبس والوقف، والمنيحة ...)؛
  • تدعم المؤسسات المشاريع الجماعية والأنشطة التطوعية؛
  • تعرف الصحافة بالممارسات الجيدة في مجال المواطنة والعمل التطوعي؛
  • تقوم الحكومة بتعزيز الخدمات والمصالح العمومية ودعم الفئات الهشة والاعتراف بالنشاط التطوعي والمبادرات الأهلية وتخليد الريادة في مجال المواطنة النشطة تربويا وأهليا، بل ولربما اتخاذ خطوات شجاعة ذات دلالة رمزية (التأمين الصحي الشامل، المدرسة الجمهورية الواحدة في الطور الأساسي التي قد تبنى على مراحل وتكون خطوتها الأولى الإلزام الأخلاقي لأصحاب القرار مركزيا وجهويا ومحليا بتسجيل أبنائهم فيها...). وهذه مجرد أمثلة.

عندئذ تتحول المواطنة إلى أداة فعالة في مجال التنمية المندمجة بما تقدمه من دعم للمحتاجين، وإرساء لمبادرات مثمرة، ورقابة ومتابعة للشأن العام تعزز الشفافية والمحاسبة النزيهة من خلال المشاركة النشطة في كافة مراحل تصميم وتنفيذ ومتابعة وتقييم السياسات العمومية.

 

قدمت هذه الورقة في شكل محاضرة تحت عنوان " المواطنة والسلم المجتمعي" القاها المؤلف لإنعاش ندوة فكرية  تم تنظيمها مساء أمس في نواكشوط من طرف اللنجة الوطنية للثقافة والعلوم تحت عنوان "المواطنة والسلم الأهلي". وقد افتتحها وزير الثقافة ؛(انظر الصور المرفقة).

 

[i]   يقول المستشرق  الروماني :جيورجيو: "حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بندا، كلها من رأي رسول الله. خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان.  وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء.  وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة، أي عام 623م. ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده".

[ii]  قال هولاكو لجنوده، يوم دخل بغداد وقتل العلماء والتجار والقضاة، اتركوا المستعصم حيا حتى يدلنا على أماكن كنوزه... دلهم المستعصم على مخابئ الذهب والفضة والنفائس وكل المقتنيات الثمينة في داخل قصوره وخارجها، ومنها  ما كان يستحيل أن يصل إليه المغول بدونه. فقال له هولاكو مستهزئا: "لو كنت أنفقت هذا المال على رعيتك وجنودك لما استطعنا دخول بغداد".

 

تصنيف: 

دخول المستخدم