المعلومة سلاح من صنعنا... و إعلامنا تكريس لقبليتنا

 قد كان من حسن حظي أن شاركت منذ أيام قليلة في ندوة نظمها المركز العربي الإفريقي للإعلام والتنمية بقاعة الاجتماعات بمقره (الصورة).

موضوع الندوة هو : " الإعلام الموريتانى فى ظل التحديات الأمنية الراهنة"

لم يكن المشاركون كثيرين عددا، لكنهم متميزون من حيث نوعيتهم، لأنهم يتألفون أساسا من العاملين في الحقل الإعلامي ومن باحثين ذوي مستويات تعليمية عليا. وقد تبين أن لجلهم خبرات مهمة متفاوتة القيمة والدقة من حيث تعاطيهم مع الإشكالية الفكرية المطروحة، حسب ما بدا لي من المداخلات المختلفة.

بدوري كان قد تولد في ذهني ملاحظات كثيرة وأفكار مشتتة. حاولت تنظيمها في مخيلتي وجعلها في قالب فكري قابل للعرض. ولست ادري إلى أي مدى وفقت في ذلك لما أفصحت في آخر النقاش عن تصوري حول الإشكالية من خلال النقاط التالية، التي لم أكن في ذلك الوقت قد صغتها  في شكل نص مكتوب :

  • الإعلام صناعة تسَوِّق منتَجا. المعلومة ليست سوى بضاعة أو منتَج للإستهلاك. وأكثر ما  يثار حول هذا المنتَج، وما يحيط بصناعته، من صفات "ملائكية" وأخلاقية، فهو كذب : فلا "الخبر مقدس"؛ ولا "التعليق حر" ولا "الموضوعية هي المحرك الأول لصانعي وموزعي المعلومة". هذا ما يقتضيه التأمل في خلفية العملية الإعلامية بصورة عامة وفي دوافعها الحقيقية بصورة خاصة.

فخلافا لما  تروجه أدبيات "أخلاقيات المهنة" والنصوص القانونية والوثائق الرسمية، فأن الشغل الشاغل للصحفي، وللرجل الإعلامي بصفة عامة، يكمن في بحثه الدائم  والدءوب عن مصلحة المؤسسة التي توظفه. تلك المصلحة هي وحدها المرجع الفصل المحدِّد ل"خط التحرير" الذي على ضوءه يتم رسم خطوط "زرقاء" أو "حمراء" ينبغي للإعلامي العمل في إطارها. وتلك الخطوط قد لا تراعي بالضرورة القيم كما وردت في المواثيق الأخلاقية للصحافة.  ورغم ذلك فهذا هو ما يعرف في الواقع ب"الضمير المهني"، أي السلوك الفردي والجمعي المؤسس لصيرورة الإعلام تبعا لمصلحة كل هيئة منه على حدة.

  •  المعلمومة =  اقوي سلاح.  لا توجد معلومة حيادية؛ وانحيازها يبدأ منذ انتقاء موضوع الخبر، بحيث أن اختيار هذا الحدث (أو المجال ) أو ذاك ـ لإعداد المنتَج الإعلامي ـ يأتي دائما تلبية لغرض محدد، آني أو بعيد المدى، لضرر أو لمنفعة، عن قصد أو عن غير قصد. ومن هذا المنظور "النفعي" تصبح المعلومة سلاحا، قوة شحناته قد تبلغ حدا يصبح معها المنتَج إما سلاح تدمير شامل وإما سلاح بناء شامل، مثله في ذلك : مادة " الديناميت" أو "تي ان تي" التي تستخدم في الهدم كما توظف بفعالية في البناء. واسطع برهان على قوة المعلومة الهدامة هو هزيمة المعسكر الشرقي بقيادة الإتحاد السوفيتي وتفككه في العشرية الأخيرة من القرن الماضي بسبب الضربات القوية المتلاحقة للإعلام الغربي على مر أكثر من 70سنة كانت بمثابة حرب عالمية ثالثة شكلت خلالها الكلمة والصورة ذخيرة يتم تفعيلها بواسطة قاذفات فتاكة إسمها : القلم ـ الميكرو ـ جهاز التصوير ـ الكاميرا... الإعلام الموريتاني هو الآخر قد يكون سلاحا ضارا أو سلاحا نافعا. فعلى القائمين عليه أن يراعوا هذا الأمر، و بصورة خاصة يجب على هيئات الرقابة المهنية مثل " الهابا" أن تكون يقظة بهذا الشأن مثل نظيراتها في الدول المتقدمة.  
  • أعلامنا الحر =  مؤسِّس مؤشر لقبليتنا. المنتَج الإعلامي هو أفضل مرآة عاكسة للمجتمع وللنمو البشري في أي بلد. وتشكل طرق تعاطيه مع المسائل المطروحة مؤشرات لمواءمة القضايا المجتمعية ـ التي يهتم بها ـ مع متطلبات العصر ولمستوى الفكر الحضاري القائم في الأوساط الإعلامية. وعندما ما نطبق هذا الطرح على موريتانيا، فسوف نلاحظ عند أول وهلة مدى ارتباط إعلامنا وخاصة ما نسميه "الإعلام الحر" بالروح القبلية المتجذرة في المجتمع. فوسائل الإعلام لدينا عبارة عن أدوات فكرية لترسيخ القبلية. همها الأول هو مصلحة القبيلة. وكأن الانتماء القبلي هو من يحدد خطها التحريري الثابت الذي ينبغي التقيد به دائما. وكل ما سوى هذا الشرط الحتمي فهو قابل لأن ينظر فيه. فالرجل الإعلامي أو المرأة الإعلامية بوسع أي منهما أن ينتقد ويهاجم من وما أراد؛ لكنه من الخطير عليه أن يجازف بنقده لمن يشاطره نفس الانتماءات القبلية أو من له به صلات من هذا القبيل حتى وأن كانا في اتجاهين فكريين متخالفين تماما. بل نلاحظ أن الكثير من المواقع الألكترونية "الإخبارية" إنما هي عبارة عن فضاءات قبلية علنية في حالات كثيرة.
  • إعلامنا محصور بين "لا" و"نعم".  يبدو من متابعة الممارسة الإعلامية في بلادنا أن العمل في هذا المجال ينحصر في نمط فكري ضيق قلما يخرج عن الثنائية القطبية الساذجة المعزوفة ب : "لا" أو "نعم". مما يؤدي بالإعلام إلى أن يكون في اغلب الحالات طرفا في صراع ما. وعموما تشكل السياسة، والموقف من الدولة، والنظام القائم عليها، البؤرة المركزية التي ينطلق منها التجاذب بين قطبي الصراع : الموالاة والمعارضة. ومن النادر جدا أن ينأى الإعلام بنفسه عن هذا الاستقطاب الثنائي . بحيث يصبح "إعلام رأي" يقوم على محاربة الخصم مستخدما أحيانا أقصى أدوات التعبير قذفا وتجريحا.. وبالمقابل فإنه يقوم بدور مناصر شديد الاندفاع لدرجة القيام بوظيفة "الاتصال المؤسسي" (communication institutionnelle) المبنية على الإشهار. و في كلتا الحالتين، كثيرا ما تكون المؤسسة المستفيدة هي القبيلة التي ينتمي لها الإعلامي أو من له بها علاقة حتى وأن اتخذت "الرسالة الإعلامية" علنا مظهرا "مواليا" أو مظهرا "معارضا".  

                           البخاري محمد مؤمل

تصنيف: 

دخول المستخدم