من المأمورية إلى الجمهورية

في تسعينيات القرن الماضي تقدمت الحكومة البريطانية بمشروع قانون إلى مجلس العموم. احتدت النقاشات حول مشروع القانون وبدا أن تمريره سيلاقي صعوبات عديدة. سأل صحفي رئيس الوزراء عن أسباب تمسكه بمشروع القانون رغم أن آثاره تتجاوز حدود مأموريته، وقد يؤدي إصراره على تمريره إلى فقد منصبه!

رد رئيس الوزراء، ببرود الانجليز، "أنا مسؤول عن البريطانيين لقرنين قادمين"، مترجما بذلك وعيه أن مبرر أي سلطة هو خدمة الشعب وبناء الدولة. وأن النظام، أي نظام، يمثل مرحلة قصيرة من عمر الدولة الطويل. لذلك فإن عنصر تراكم الإنجازات هو سدى الأنظمة المتعاقبة على خدمة الدولة. وينبغي لكل نظام أن يمد السدى ليسع غزل النظام الذي يرثه. ولا يتحقق ذلك إلا بالخطط الاستراتيجية التي تتجاوز حدود المأموريات، بوضع أهداف وطنية ذات تأثير شامل وبعيد المدى. تنطلق تلك الخطط والأهداف من واقع كل بلد. في حالتنا نحتاج خططا استراتيجية وأهدافا وطنية في كافة القطاعات مرتبة حسب الأولويات؛ الماء والكهرباء، الطرق والموانئ، التعليم والصحة...

في حديث مع موظف سام، حريص على الإصلاح أحسبه، سأل "هذا التشخيص، فما العمل؟" ملاحظة وجيهة، لكن التشخيص الصحيح مقدمة لازمة للعمل الناجح... يمكن اقتراح خطة لمدة ثلاثين سنة اعتبارا من 2026، وتستغل 2025 في وضع الدراسات، وتقدير التمويلات، وتصور طرق الحصول عليها. تهدف الخطة إلى تعميم الخدمات على كافة التراب الوطني خلال الثلاثين سنة القادمة. يشرف على تلك الخطط خبراء، في مجلس أعلى للتخطيط، بلا أكف، وبلا حناجر.

في مجال الكهرباء مثلا يتم التعاقد مع شركة، أو شركات، صينية لإنتاج الألواح الشمسية والبتاريات في بلادنا. وفي مجال المياه يشرك القطاع الخاص برفع الجمركة عن الحفارات بمواصفات معينة، على أن تتولى الدولة التنقيب، وتعيين أماكن الحفر مع تحديد الأسعار، فالماء سلعة استراتيجية لا تترك للمضاربة. إقامة مصانع للأنابيب، مع مراقبة الجودة وتحديد الأسعار. كل سنة تحدد خمس ولايات، بناء على معايير شفافة فإن خانتنا الشفافية لجأنا إلى القرعة؛ إحدى الولايات تعمم في قراها ومدنها الكهرباء. في ولاية أخرى تعمم خدمات الماء الشروب على المدن والقرى. في ولاية ثالثة تفك العزلة عن جميع القرى. في ولاية رابعة تتم التغطية الكاملة للحاجة من البنايات المدرسية والطواقم التدريسية. وفي ولاية خامسة توفر الخدمات الطبية بالجودة المطلوبة.

يمكن البدء بالولايات الأقل احتياجا للخدمات حتى يكون نجاح التجربة معينا على استمرارها. يظل السقف الزمني مرنا، فإذا كانت تغطية ولاية ما بشبكة طرق لا يمكن أن تنجز خلال سنة واحدة توضع الخطة لسنتين أو ثلاث حسب الحاجة. إن الطريقة التي نتبع الآن تؤبد الاحتياجات لقرن قادم؛ فنحن نوزع الإمكانيات المحدودة على ثلاثة عشر ولاية بحيث لا تغني حصة أي واحدة منها شيئا بالنظر إلى احتياجاتها. فمثلا يتخرج من مدارس تكوين المعلمين، والمدرسة العليا للأساتذة المئات توزع "بعدل؟" على كافة التراب الوطني فلا تغني شيئا؛ بمعنى أن جميع الولايات تظل تعاني نقصا في الطاقم التدريسي. لكننا حين نوجه جميع هؤلاء الخريجين إلى ولاية واحدة نضمن سد النقص بشكل كامل. ولو اقتضى الأمر ثلاث عشرة سنة لتحقيق الاكتفاء الكامل من المعلمين والأساتذة يكون ذلك إنجازا كبيرا. فمنذ 1960 ونحن نوزع المدرسين بنفس الطريقة، ولا توجد ولاية اليوم إلا تعاني نقصا في طاقم التدريس. وقس على ذلك بقية الخدمات التي توزع بنفس الطريقة.

إن غياب الخطط الاستراتيجية، والمشاريع الوطنية الكبرى يعطي المواطن إحساسا بأن التخلف قدر، فيفقد الأمل في غد أفضل، ويستسلم للفاقة والرتابة. فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، التي ينبغي أن نغذيها جميعا؛ أصحاب قرار، ونخبة (أحب الصالحين...) ولو بعصا نرمي بها التخلف وضعف الخدمات...

د. محمد إسحاق الكنتي

تصنيف: 

دخول المستخدم