الكنتي يبين كيف بُني التصوف على أسس جوهرية تقي من التطرف

الكنتي يشرح كيف بُني التصوف على أسس جوهرية تقي من التطرف

ملاحظات أولية حول بنية وإيحات الكلمتين  بين التطرف والتصوف بعض الوشائج من جهة الموسيقى إذ تتساوى فيهما أعداد الحروف الساكنة والمتحركة، والصامتة والصائتة، وتتماثل مخارج الحروف فيهما باستثناء الواو. غير أن موقفهما من الموسيقى يختلف بشكل جذري؛ فالتطرف يراها رجسا من عمل الشيطان، بينما يستعين المتصوفة بالسماع لاستجلاب المواجد. ويتفقان في عدد الحروف، إلا أنهما يختلفان في حساب الجمل؛ فمجموع حروف التطرف يعطينا 720، بينما لا يتجاوز مجموع حروف التصوف 507، وبذلك يكون الفرق بينهما 213. يقبل حاصل التطرف القسمة على 2؛ فالتطرف مركب من الغلو والعنف، بينما لا يقبل حاصل التصوف القسمة على 2 لأن التصوف إفراد الواحد بالوحدانية.

      إذا عبرنا عن حاصل التطرف بالحروف حصلنا على فعل: كذّ: خشن وصلب، والتطرف صلب في غلوه، خشن في عنفه. أما إذا عبرنا عن حاصل التصوف بالحروف فإننا نحصل على: ز، ث؛ حرفان متنافران لا يمكن الجمع بينهما للحصول على معنى مفيد، وبذلك فإن التصوف الصحيح فرق لا جمع فيه. يساوي الفرق في حساب الجمل بين التطرف والتصوف 213، وهو عدد لا يقبل القسمة على اثنين مما يعني أنه يمثل خصوصيات التطرف مطروحة مما يمكن أن يجمع بينه وبين التصوف. وفي حاصل الفرق رقم 2 الذي نجده في حاصل التطرف، ولا نجد أي رقم من الأرقام المكونة لحاصل التصوف، فتأمل. وإذا عبرنا عن هذا العدد بالحروف حصلنا على: جاب، ومن معانيها: جاب القميص: جعل له جيبا، وجاب الظلام: دخل فيه، وجاب الصخرة: نقضها، وجاب الطائر: انقض، وجابّ: غالب، وجأب: كسب المال... وكلها معاني في التطرف، دون التصوف.

      والحرف، عند المتطرفين قطعة غيار تركب منها كلمات أحادية المعنى، مثل إشارات المرور، بينما له في التصوف أسراره، ومركباته غنية بالمعاني، منفتحة على التأويل. وبذلك يتضح أن فعل التطرف لا يمكن أن يجتمع مع صفة التصوف...

التطرف.. العقيدة غنيمة. بخلاف ما يعتقد الكثير من العامة، فإن المتطرفين يركنون إلى الدنيا ولا يتصورون الآخرة إلا امتدادا لملذاتها. فقد جاء أول مواقف التطرف بمناسبة قسمة غنيمة حنين التي لم يجد منها ذو الخويصرة ما أمله فأساء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحديث مشهور في الصحاح من طرق عديدة، وبروايات تختلف ألفاظها أحيانا، سنختار منها ثلاثا.. تنتهي الرواية الأولى إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، فتقول.."... جاء رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة، فوقف عليه [صلى الله عليه وسلم] وهو يعطي الناس فقال له: يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل فكيف رأيت؟>>

قال: لم أرك عدلت.

قال: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟>>

فقال عمر بن الخطاب: ألا نقتله؟

فقال: «دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يوجد شيء، ثم في القدح فلا يوجد شيء، ثم في الفوق فلا يوجد شيء سبق الفرث والدم."

      في نص هذه الرواية أنه سيكون للمسيء شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه. ويستفاد من ذلك أن مدار الحديث على المستقبل؛ فلم يكن لذي الخويصرة حين أساء أصحاب، ولم تكن له مقالة ورأي يؤخذ عنه، لكنه، في قابل الأيام ستكون له فرقة تتعمق في الدين حتى تخرج منه. ومن ذلك يستفاد ذم التعمق في الدين لأنه يؤدي، عكس ما يفهم المبتدعة، إلى الخروج منه. فكثرة البحث في الدين، وتدقيق مسائله، وتعميقها يؤدي بصاحبه إلى ابتداع آراء، وأفكار ينسبها إلى الدين، وما هي من الدين. فالتعمق مخالف للقاعدة الدينية الواضحة "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"، وكل تعمق ينطوي على مشقة. وهذا ما عبرت عنه تلك العجوز التي قالت، حين قيل لها، على سبيل الاستحسان، إن أحد العلماء جاء بألف دليل ودليل على وجود الله، "إن لديه ألف شك وشك في وجود الله."

      تنتهي الرواية الثانية إلى جابر بن عبد الله قال: "أتى رجل بالجعرانة النبي صلى الله عليه وسلم منصرفه من حنين، وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها ويعطي الناس، فقال: يا محمد اعدل.

قال: «ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إذا لم أكن أعدل.>>

فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق؟

فقال: «معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يتجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية.>>

      في هذه الرواية يثبت للمسيء أصحاب من القراء الذين لا يتجاوز القرآن حناجرهم، ويمرقون منه، كما يمرق السهم من الرمية. يقرؤون القرآن، بلا تدبر، ولا عمل به، فيمرقون منه. بمعنى أن قراءتهم للقرآن شبيهة بماء يسكب على صخرة صماء.

      أما الرواية الثالثة فتنتهي إلى أبي سعيد قال: "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك ومن يعدل إن لم أعدل، لقد خبت وخسرت إذ لم أعدل فمن يعدل؟>>

فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله إيذن لي فيه فأضرب عنقه.

فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه - وهو قدحه - فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، ويخرجون على حين فرقة من الناس."

      تصرح هذه الرواية أن للمسيء أصحابا تصفهم بالتعمق في العبادة. وقد نص صلى الله عليه وسلم على صلاتهم وصيامهم دون باقي تدينهم لأنهما مما يدرك بالمشاهدة، فكانت عنايتهم، على حسب فهمهم، بهما كبيرة حتى ليحقر الإنسان صلاته وصيامه مقارنة بصلاتهم وصيامهم مأخوذة على مقاس التعمق في الدين، وهو مقاس مذموم لأنه ينتهي بصاحبه إلى الخروج من الدين إلى البدعة والضلالة. وفي هذه الرواية نص على مروقهم من الإسلام، وأن قراءتهم القرآن لا تتجاوز تراقيهم. تجمع الروايات الثلاث على مروقهم، وأن قراءتهم للقرآن مجرد أصوات لا يصل تأثيرها الروحي إلى القلب "لا يجاوز حناجرهم، تراقيهم"، ولا تخلف تدبرا يفقه في الدين. وبذلك فإن الحديث، في الروايات الثلاث يحذر من مظاهر تدين ما أريد به وجه الله، وما مورس على بينة، وإنما هو شرَك لصيد الدنيا بالدين.

      وهكذا، فإن المتطرف يتصور عقيدته في حدود ما تخوله من امتيازات دنيوية وأخروية، فيستثمر العبادة في كلتا الحالتين. فتعمقه في الدين يعطيه امتياز الاستئناف على صاحب الرسالة عليه أفضل الصلاة، وأزكى التسليم. فقد اعتقد أنه امتلك معرفة عميقة بالدين تجعله قادرا على الحكم على أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، انطلاقا من الدين ذاته، مغفلا قوله تعالى.. من يطع الرسول فقد أطاع الله...

      إن أول سطو مارسه المتطرفون، هو السطو على الدين لأغراض دنيوية. فذو الخويصرة، حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل في قسمة الغنيمة، كان يعلن امتلاكه للدين، واستحواذه عليه في حضرة صاحب الرسالة. وبذلك كان مقدمة لشيعته من الخوارج، وجميع أصحاب الأهواء والبدع الذين سيضربون عرض الحائط بسنته صلى الله عليه وسلم. فكل من يطعن في السنة إنما يريد حرف الدين لغايات دنيوية مثل ذي الخويصرة تماما. وقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على بينة من ذلك حين أمر ابن عباس رضي الله عنهما أن يجادل الخوارج بالسنة، وأن لا يجادلهم بالقرآن "فهو حمال أوجه."

      كان تأميم الدين بقصد الاستحواذ على الدنيا. فحين يمتلك المتطرف الدين يستحوذ عليه دون الآخرين فيكفرهم ليشرع استيلاءه على الغنيمة؛ فالكافر حلال المال في الدنيا، وينبغي قتله كي لا ينافس على الغنيمة في الآخرة. إن مسارعة المتطرفين إلى تكفير المسلمين بأتفه الأسباب، وإفراطهم في القتل يعود إلى ولعهم بالمال الذي يجنونه من الغنائم، واعتقادهم أن قتلهم للناس استثمار في الآخرة سيمكنهم من الحصول على ملذات يتصورونها في ضوء ملذات الدنيا، إلا أن لها عليها ميزة؛ فهي بلا منغصات، وبلا انقطاع.

      في ضوء هذا التصور الدنيوي للدين يوظف المتطرف النص بصفته قانونا صارما يعرض عليه الناس ليصنفوا بين مؤمن وكافر حسب فهم المتطرف للنص الذي استحوذ عليه. فالمتطرف ليس داعية، فلا تهمه هداية الناس بقدر ما تهمه إدانتهم لمخالفتهم تصوره للدين. وكأن المتطرف يتولى حساب الناس قبل يوم القيامة؛ فالمتطرفون قضاة لا دعاة. لذلك كانوا أشد على أمة محمد صلى الله عليه وسلم منهم على الكفار، فلا يدخلون الناس إلى الإسلام، وإنما يخرجونهم منه... على عكس هذه الصفات المذمومة نجد التصوف..

التصوف.. عقد وعهد.      على عكس التطرف، يجد التصوف جذوره في الآية التي تمثل عقدا بين الخالق والمخلوق... قال تعالى.."وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون". هذا العهد الغليظ هو الذي يريد المتصوف الوفاء به من خلال تصور للدنيا والدين والآخرة يختلف تماما عن تصور المتطرف. فالدنيا، بالنسبة للمتصوف مفازة على الإنسان اجتياز مخاطرها، وغواياتها التي تصده عن الوفاء بالعهد، معتمدا على ما يصله بالخالق، وهي العبادة على بصيرة، التي تشغله عن ملذات الدنيا وسرابها. فمن خلال العبادة يلغي المتصوف من وعيه الدنيا بملذاتها، ومنغصاتها مستحضرا الذات الإلهية التي تملأ عليه وعيه فلا يعود ثم سوى الله في عالم الشهود. هذه العبادة المتبصرة الواعية بأن الله يراها، إن لم تكن تراه تتجاوز مفهوم الثواب والعقاب، الذي يقف عنده المتطرف في عباداته، إلى مناجاة للخالق يدرك فيها المخلوق ضآلة كونه فيفنى كل ما سوى الله الفرد الصمد.

      تنتهي بالصوفي مناجاته إلى التقلب في الأحوال، والرقي في المقامات ليدرك أن المعاصي والطاعات اصطلاحات تفقد معناها الدارج الذي ينسبها في ذمها وحمدها للمخلوق؛ فالأولى قضاؤه، والثانية عطاؤه، وليس للعبد كسب إذ هو، في حضرة الذات الإلهية، كالميت بين يدي الغاسل. لذلك يرجو المتصوف للعصاة، ويخاف على أصحاب الطاعات.. فقد جاء في الحديث المرفوع.." " مَا مِنْ قَلْبٍ إِلا بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ." وهذه الدار دار عمل بلا حساب، والدار الآخرة دار حساب بلا عمل. فالكافر يرجى إسلامه، والعاصي ترجى توبته، والطرق إلى الله بعدد الأنفس... الطاعة منة من الرحمن، والمعصية ابتلاء من الديان، والناس جميعا في مشيئة الله؛ إن أدخلهم الجنة فبرحمته، وإن أدخلهم النار فبعدله...

      تؤدي هذه المعاني إلى التسامح بإدراك الفرق الشاسع بين الخالق والمخلوق؛ فالخالق رحمن رحيم بالمخلوق لا تضره معصيته، ولا تنفعه طاعته، إذ هو في غنى كامل عنه. بينما المخلوق في أمس الحاجة إلى الخالق، ومهما فعل من طاعات فلن يبلغ شكر أبسط نعم الله عليه، وهو إلى ذلك ضعيف سلط عليه الشيطان والهوى. هو إذن بحاجة إلى مرشد يعينه على اجتياز المفازة بسلام لا إلى قاض صارم يصدر عليه حكما قاسيا...

      نجد مثالا للمتطرف والمتصوف في قصة رجل أسرف على نفسه ثم تاب وأناب فقبل الله توبته ، والقصة رواها الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" : كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا ، فسأل عن أعلم أهل الأرض ، فدُلَّ على راهب ، فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسا ، فهل له من توبة ، فقال : لا ، فقتله فكمل به مائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض ، فدُلَّ على رجل عالم ، فقال إنه قتل مائة نفس ، فهل له من توبة،  فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا ، فإن بها أناسا يعبدون الله ، فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصَفَ الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط، فأتاهم ملَكٌ في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة. قال قتادة: فقال الحسن: ذُكِرَ لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره."

في القصة جملة فوائد منها؛ أن الرجل سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على عابد لأن العبادة تظهر للعيان، والعلم يخفى على العوام، ومن كان ظاهر العبادة ظن الناس به العلم، وإن لم يكن عالما. وهذا ما ابتلينا به اليوم من إطلاق الناس لقب الشيخ على كل من أطلق لحيته، وارتاد المساجد، وحفظ بعض القرآن، أو كله، وروى من السنة. ولم يظهر التطرف والغلو إلا حين تصدر الطبيب للفتوى، وألف المهندس في التفسير، وتلقب المثقف بالمفكر الإسلامي، وتجرأ الأحداث على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم... فقد أممت حكومات الاستقلال (يسارية في الغالب) الشأن الديني، ضمن حملة التأميم والمصادرة التي مارستها بشكل واسع، فأصبح المجال الديني مجالا عموميا يُنتَسب إليه بالتزكية والمرسوم، فاستبدل بأهل الذكر أصحاب الفكر ليقولوا في دين الله بآرائهم "الحرة"، وأهوائهم اليسارية، أو اليمينية.. ومن أضل ممن اتخذ إلهه هواه!!! فقد استخدم مصطلح المفكر "محلّى" بصفة الحر في الثقافة الغربية للدلالة على المتفلسفة الذين "تحرروا من كل الديانات، والقواعد الدينية". وفي الثقافة الإسلامية المعاصرة كان أول من وشح بلقب المفكر الإسلامي أصحاب سوابق يسارية يقرأ أحدهم نص التنزيل في ضوء رأس المال (حسن حنفي)، فيدعو إلى استبدال لاهوت الأرض بلاهوت السماء (أنظر: من اللاهوت إلى الثورة)، ويمارس آخر (محمد عمارة) تأويلا معتزليا اصطبغ بسنوات نضاله في الحزب الشيوعي المصري.

رافقت إجراءات تأميم الشأن الديني حملة شعواء على الفقه والفقهاء، شبيهة بتلك التي شنت على الإقطاع والإقطاعيين بمناسبة الإصلاح الزراعي. فقد نسب كل التخلف الذي عانته الأمة إلى الفقه والفقهاء، ولم يكن ذلك سوى حملة على الدين مواربة تستهدف خط الدفاع الأول عن النص المقدس. وحين "اقتنعت" العامة بتهافت الفقه، "وفساد الفقهاء"، تم تجاوز خطوة جديدة في اتجاه تعرية النص بالطعن في السنة الصحيحة (محمد أبو زهرة ينكر حد الرجم، الثابت بالسنة، في مؤتمر للعلماء المسلمين في طرابلس الغرب سبعينيات القرن المنصرم، ثم يصرح القرضاوي أنه مذهبه لكنه يخشى شغب العامة! ويسير الترابي، مفكر إسلامي آخر، في نفس الاتجاه فينكر حد الردة الثابت بالسنة الصحيحة). ثم وصلنا إلى نزع "قدسية النص" بالتركيز على "تاريخانيته". (أنظر أعمال محمد أركون، على سبيل المثال). كل هذا الشطط في علمنة الحياة العامة والخاصة للمسلمين سيولد ردة فعل تقحم الدين في كل شاردة وواردة على طريقة تعصب أهل الحديث أيام حكم المعتزلة (المأمون، والمعتصم)، حتى قال قائلهم: "لا ينبغي لمسلم أن يحك رأسه إلا بحديث".

 الثانية أن في سؤال الرجل عن أعلم أهل الأرض دراية بإشكاله، إذ لم يسأل عن أعبدهم لكن الذي سأل لم يميز بين العلم والعبادة، فعلى الإنسان أن لا يسأل أيا كان لحل إشكاله، وإنما كما قال تعالى "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون." الثالثة أن الرجل، لفرط حرصه على التوبة، سأل من جديد، بعد ارتكابه معصية جديدة، ولم يكتف بالجواب الأول، فدل على عالم. وقد يكون العابد والعالم في نفس القرية التي جاءها الرجل طلبا للتوبة، إلا أن أهل القرية دلوه على العابد أولا لاعتقادهم فضله على العالم بكثرة عبادته، وذلك من جهل العوام، فقد قال تعالى:"إنما يخشى الله من عباده العلماء"، ولم يقل العباد.  لقد حكم العابد على العاصي وهو في حال البلاء، مغلقا الباب من عنده في وجه العطاء فكان جزاء تألّيه على الله بأن صار آخر ضحية لابتلاء الرجل. إن حكم الراهب ليس مستغربا، فهو ملازم للطاعات، متنكب المعاصي، مجتهد في اجتناب صغائرها، فلما أبلغه الرجل بارتكابه كل هذه الكبائر لم يستحضر سعة عفو الله وكرمه، وإنما استحضر حاله، وحال العاصي، فقارن بينهما ليستنتج أن مآل العابد، الذي يوالي الطاعات الجنة ثوابا له، ولا بد أن يكون عقاب العاصي المقيم على الكبائر النار. وهذا دليل آخر على فساد القياس غير المنضبط بشروطه، وعلى أن الإفراط في العبادة يولد عجبا بالنفس، وغلظة على المخلوقات، وليس ذلك مراد الله من دينه. فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم." لذلك يتسلل التطرف إلى العباد من هذا الباب، فيرون أنهم يستحقون الجنة لاشتغالهم بالعبادات، وأن العصاة يعاقبون بالنار لإقامتهم على المعاصي، وهذا جهل بالدين، وحجر على الفعّال لما يريد، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.  أما العالم فلم يستعظم البلاء في جنب العطاء، فرآه صغيرا. وبدل أن يحكم على الرجل أرشده إلى الخروج من البلاء طلبا للعطاء. فنجا هو من البلاء، فلم يقتله الرجل كما فعل بالعابد، وأنقذ الرجل حين استشعر حلم الله وعفوه مقارنة مع معاصي عباده وأخطائهم. ويستفاد من فعل العالم، أنه يستحسن بالمفتي، زيادة على تبيان الحق، الإرشاد إلى سبيله، والإعانة عليه؛ فلم يكتف العالم ببشارة العاصي أن رحمة الله تسعه، وإنما دله على الخروج من البلاء، والتعرض للعطاء فكان في ذلك نجاتهما.

 العبادة.. صلة.  بخلاف المتطرف الذي يتصور العبادة تكليفا يخوله ثوابا، فإن المتصوف يرى العبادة صلة تربطه بالخالق، ومن ثم فهو يغبطها لهذا، فتورثه تواضعا لأنه لا يرى عبادته التي يفنى عنها، وإنما ينشغل بالفرح بنعم الله الذي هيأ له سبل العبادة ليصله به. وما دام المتصوف لا يرى ذاته، ولا يستحضر طاعاته، فإنه لا يرى لنفسه ميزة على العصاة، لعلمه أن الكل في مشيئة الله. وهكذا، فإن العبادة في الممارسة الصوفية صلة تربط المخلوق بالخالق، ومن ثم فهي من فضائل الله التي لا تحصى. من هنا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه..." فمعرفة الحق منة من الله، والعمل به منة أكبر؛ لذلك قد يعرف الله الإنسان الحق ابتلاء فيحرمه اتباعه، لكنه إذا عرفه الحق إنعاما هداه إلى اتباعه.

إن اغتباط الصوفي بالعبادة يذهله عن طلب الثواب فقصده أبعد من ذلك بكثير...

إذا نلت منكَ الود فالكل هين***وكل الذي فوق التراب تراب.

ومعنى الوصل هذا يستمد من الصلاة ذاتها، فهي مناجاة بين العبد وربه، والصوم تشبه بالملائكة المقربين بالسيطرة على أعظم شهوتين تغتالان الإنسان، أما الحج فهو محاكاة للحياة البرزخية التي تنتهي بالتلبية حين يخرجون من الأجداث.. فالحاج أقرب إلى الميت بلباسه الكفن، وهجره الأحباب، وسعيه إلى الله متخففا من زخرف الدنيا وزينتها... في كل هذه المواقف ينشغل الصوفي بالتقرب إلى الله عز وجل ذاهلا عن كل ما سوى ذلك.

      أما المتطرف فيرى العبادة عقد إيجار بينه وبين خالقه، تزداد المثوبة بزيادة العمل، وتقل بقلته؛ إنها عبادة ميكانيكية تنشغل بالثواب المترتب عليها عن القصد السامي، وهو صلة العبد بربه. هذه الرؤية ستجعل المتطرف يقارن نفسه بالعصاة فيراها أفضل منهم، فيزدريهم، بل يسارع إلى تكفيرهم بالذنوب لفرط استعظامه لها، لذهوله عن سعة مغفرة الله وعظيم رحمته بعباده. كما يولد هذا التصور للعبادة قساوة القلب لأن المعول فيها على الجوارح "لا يجاوز القرآن تراقيهم"، "يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم" لما يظهرون فيها من أعمال الجوارح، وإن كان القلب فارغا.

 الآخرة.. لقاء.   يسلك الصوفي الطريق إلى الله مشغولا عن مشاقها بالشوق إلى لقاء ربه. هذا الشوق يدعوه إلى التخفف من الأوزار واستصحاب الزاد الموصل إلى الغاية. ولإدراكه العميق لمشاق الرحلة وبعد الشقة يدلج مترفقا بالمطايا، مواصلا السير في دوام ولو قل، مكلفا نفسه ما يطيق من العبادة "فإن الله لا يمل حتى تملوا"، يحدوه الخوف، ويدعوه الرجاء... يخاف أن تتفرق به السبل عن المحجة البيضاء فتسوقه النفس، ويقوده الهوى إلى معصية يستصغرها، وبدعة يستحسنها فتزل قدم بعد ثبوتها.. فتراه في الأحوال طائر الجنان يؤخره البلاء، ويقدمه العطاء.. وفي المقامات يرنو إلى الدرجات ويحاذر الدركات بين التوكل والرضى.. إن زلت قدم توكل على الله صابرا محتسبا، وإن من عليه بدرجة أقام حيث أقيم راضيا مغتبطا، حتى إذا جاءه اليقين طمع في الزيادة وتعلقت روحه بها.

      على عكس هذه الصفات يكون المتطرف المنبت في سيره مكبا على وجهه، "فلا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى"، يستعظم معصيته، فتوئسه من رحمة الله، وتعجبه طاعته فتسوقه إلى بدعة يقيم عليها، حتى إذا هلك خيف عليه أن يكون ضمن (وجوه يومئذ عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع)...

خلاصة : عود على بدء. 

لما كان التطرف والتصوف على طرفي نقيض فإنه يخشى على المتصوف من التطرف، ويرجى للمتطرف التصوف. فحين يشطح المتصوف في أحواله عن مقتضى الشرع، فيقيم على ابتلاء يراه كرامة تزل قدمه بعد ثبوتها إلى شفا جرف هار؛ فيدعي الجمع، ويرى فناء الحلول، وبقاء الاتحاد فيصبح كالذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين.

      أما المتطرف فقد تدركه العناية، فتكشف له أن الله يغفر الذنوب جميعا، فهو الغفور الرحيم؛ إن عذب فبعدله، وإن عفا فبفضله وهو اللطيف الخبير... فلكي يكون التصوف وقاية من التطرف ينبغي له التمسك بالكتاب والسنة؛ منهما يمتح "ورده"، وعليهما يقيم "وظائفه"، ضاربا صفحا عن الدعاوى العريضة.. فمن الكرامة أن لا تبتلى بالكرامات، والولي من اصطفاه الله لنفسه وحجبه عن أعين الناس...

دكتور/ محمد إسحاق الكنتي

المصدر : مجلة الموكب الثقافي ـ العدد 47 ـ دجنبر 2016 م.

 

تصنيف: 

دخول المستخدم