العلماء هم ورثة العلماء: الشيخ محمد المامي ومحمد المختار ولد اباه نموذجا...

لدي قناعة لا تزحزح، راسخة وشامخة، مثل شهوق وثبوت قمة إفرست على الأرض: الشيخ محمد المامي، تغمده الله برحمته الواسعة، ومن هُم على شاكلته، ثروة للجميع. سلالاتهم ليست بيولوجية فقط، بل إنها علمية أولا وقبل كل شيء. فهي تضم كل من قرأ لهم، أو قرأ عنهم، ووظَّف ما قرأ خدمةً للعلم والمعرفة وبثهما بين الناس.

 وأكثر افراد السلالات قربا إلى الشيخ محمد المامي، بيولوجية كانت أو علمية، هم من جاؤوا بقيمة مضافة تُغني وتثري ما ورثناه عنه وعن امثاله من العلماء المبدعين. وعلى رأس هؤلاء، المرحوم محمد المختار ولد اباه، الذي اعتبره شخصيا أول وريث عصري له بلا منازع. إذ كان من الأوائل الذين تجاوزوا العوائق والعثرات، الغيبية والأسطورية، التي أحاطت على مدى عقود كثيرة من الزمن بأعمال الشيخ محمد المامي، مركزا بصورة علمية عصرية على مكامن الابداع والتجديد في موروث ذلك العالم الفذ. وسنورد أمثلة، محددة ودقيقة، تبرز تنوع ابداعه في المجالات العلمية والسياسية والتشريعية، كان محمد المختار ولد اباه أول من فك شفرتها التقليدية واخرجها من القوالب القديمة الضيقة ليشرحها ويثريها على ضوء المفاهيم العصرية.

المجال العلمي

 تمكن محمد المختار ولد اباه من أن يشرح بلغة وأسلوب عصريين يستوعبهما "أهل اليوم" النهج الرياضي الذي اعتمده الشيخ محمد المامي في عده لحصى الأرض حين دون هذا الأخير العملية باللغة الحسانية في القطعة الشعرية التالية:

" أَلَفَ حْصَيَّ حَبَّتْ بَشْنَّ     وَلَفْ احْبَيْبَ كَلْبَ اهْبِيلَ

وَلَفَ امْنَ اهْبِيلَ فَطْرَتْنَ       والْفَ الْفَطْرَ خنْطَرْ فِيلَ

والْفَ اخْناطَرْ هُومَ مَدْنَ       وَلْفَ أمْنَ الُمَدْنَاتْ اعْكَيْلَ

 و الْفَ اعْكَلْ دُونِ ذَرْعَتْنَ     وَ الْفَ امْنَ الذَّرْعَ لَكْبَيْلَ

والْفَ امْنَ الْكَبْلَ يَمَنَّ      والْفَ امْنَ الْيُمُونْ ادْخِيلَ

و اخْمَسْ طَعْشَرْ دَخْلَ جُبْنَ    فِيهَ حَمْلَ ثَّوْرْ اعْدِيلَ".

وطبعا فليس من اليسير إدراك الدلالات الحسابية ولا الكميات التي يعطي الشيخ محمد المامي للغته واستعارته "الطبوغرافية" المنحوتة نحتا من الوسط المحلي، الريفي والصحراوي[i]. وقد تمكن ولد اباه من أن يشرح بلغة وأسلوب عصريين النهج الرياضي الذي اعتمده الشيخ محمد المامي.  بل إنه استطاع أن يبين بالبراهين والأدلة الناصعة وجاهة ما أعلنه هذا الأخير من خلال عمليات حسابية اجراها هو شخصيا للوقوف على عدد حصى الأرض مطبقا المناهج الرياضية الحديثة. وتتفق النتائج التي خلُص إليها مع "الكميات" التي ذكرها الشيخ محمد المامي. مبينا أن هذا الأخير كان سباقا في العالم العربي، وربما في العالم، إلى الوصول إلى هذه الحقيقة العلمية. وقد اطلعت شخصيا على تقارير صحفية تفيد بأن وكالة الفضاء الامريكية (NASA) عملت على الموضوع عام 2015؛ أي بعدهما بزمن ليس بالقصير: 34 سنة بعد صدور كتاب محمد المختار ولد اباه[ii]، وقرن ونصف بعد وفاة الشيخ محمد المامي، تغمد الله هاتين القامتين العلميتين الرائدتين برحمته الواسعة.

المجال السياسي.

من أشهر شعر الشيخ محمد المامي، قصيدته التي يستهلها بقوله: "على من ساد أمرد أو جنينا (...)". وكانت تصنَّف في الأوساط التقليدية ضمن "أدب الفخر"، كما هو معروف في الشعر الجاهلي. غير أن محمد المختار ولد اباه ينظر إليها من زاوية أعمق واشمل بكثير: الدعوة إلى تشييد الدولة المركزية. فهو يرى أنها بمثابة بيان سياسي يعرض ويشرح الرؤية الاستراتيجية التي يقترحها المؤلف. رؤية تدعو قبائل "الزوايا" إلى نصب الإمام، وإلى حمل السلاح، وإلى بناء التحالفات الضرورية//. وكأن الشيخ محمد المامي يقول: "حان الوقت لنستيقظ بعد نكبة شر ببه". الشيء الذي لا يحول بينه نظريا مع بناء تحالفات مع غير "الزوايا".

 وحسب ما يشي به أسلوبه الجدلي، فإن دعوته كانت تواجهها معارضة لا يستهان بها من لدن خصومه في المجال الفكري، حيث كان يخاطبهم بأسلوب تطغى عليه أحيانا صيغ التحضيض واللوم، كقوله:

" وقلتم: "لا جهاد بلا إمام      نبايعه"، فهلَّا تنصبونا

وقلتم: "لا إمام بلا جهاد      يعزِّزه"، فهلَّا تضربونا.

المجال التشريعي.

انتبه محمد المختار ولد اباه إلى علاقة التكامل الوظيفية بين اعمال الشيخ محمد المامي. فدعوته إلى بناء الدولة المركزية في الصحراء، حيث السكان بدوٌ متنقلون، جعل أيضا لها اسسا تشريعية كما ينص عليها بالحرف الواحد "كتاب البادية". هنا، حسب قراءة ولد اباه، اجتهد الشيخ محمد المامي، حيث اعطى فتاوى فقهية تعالج المسائل والقضايا الخاصة بأهل البدو. وبما أن هذه الفتاوي غير مسبوقة فإنه مهد لها من الناحية الأصولية.

وقد نال هذا الجانب من اعمال الشيخ محمد المامي وفكره قسطا كبيرا من اهتمام الباحثين العصريين. ففضلا عن المرحوم محمد المختار ولد اباه، الذي يعود له فضل الريادة في هذا المنحى، فقد تناوله آخرون من بعده، مثل: بوميه ولد ابياه، محمد ولد البرناوي، محمد سالم ولد مولود وغيرهم. ونعتقد أن "كتاب البادية" يُعتبر أكثر مؤلفات الشيخ محمد المامي جاذبية للباحثين. وقد تمت ترجمته مؤخرا إلى الفرنسية من طرف محمد سالم ولد مولود في شكل أطروحة لنيل شهادة الدكتورة، ترجمة مرفوقة بشروح وتعاليق تثري النص وتقرب مضامينه إلى القارئ الفرنكوفوني.[iii]

خلاصة

كما كتبتُ في تدوينة سابقة على الفيسبوك، فإنني اقترح أن تأخذ إحدى أكبر هيئاتنا العلمية والجامعية اسم: " محمد المختار ولد اباه". وبالإضافة إلى ذلك، اقترح أيضا إنشاء هيئة غير حكومية تحت إسم " مؤسسة محمد المختار ولد اباه للبحث العلمي ونشر المعرفة".

وتتمثل مهمة هذه المؤسسة في تشجيع ودعم البحث العلمي ونشر الثقافة والمعرفة بين الناس. وينبغي أن تكون شاملة: ذات طابع وطني، وعابر للحدود في نفس الوقت. فخلافا لما نشاهده على نطاق واسع في البلد، ينبغي ألَّا تُحصر في إطار ضيق، محلي أو أسري، أو قبلي... كما هو الحال مع الأسف في كثير من المؤسسات غير الحكومية المكونة تحت أسماء شخصيات وطنية تاريخية عظيمة. ينبغي التعاطي مع منهم بهذا الحجم العلمي بصورة تليق بمكانتهم العظيمة بعيدا عن أي استغلال أو تقزيم لأسمائهم، أيا كانت النوايا الحسنة أو النفعية لفاعليه. فنوعهم لا يتكرر إلا نادرا. شاهدناه مع الشيخ محمد المامي، ومحمد المختار ولد اباه على رأس ورثته العلميين القلائل. والرجلان من أعظم ورثة الأنبياء في هذه المعمورة.  فلينالا منا ما يكافئ ما قدماه لنا ووللبشرية، أو، على الأقل، اعترافا بالجميل. وذلك أضعف الإيمان.

البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)

 

 

[ii] Mohamed El Moktar Ould Bah : ‘’la littérature juridique et l’évolution du malikisme en Mauritanie’’, Publications de l’université de Tunis, 1981.

[iii]  تم انجاز وتقديم هذا العمل من طرف المؤلف كأطروحة لنيل شهادة الدكتورة تحت عنوان:

 ‘’ Le droit musulman à l’épreuve du nomadisme à travers la traduction annotée de Kitâb al- Bâdiya de Shaykh Muhammed al-Mâmi ( 1787-1865).

تصنيف: 

دخول المستخدم