الشعر الحر لا يسمى شعرا... و'لغن' عند 'البظان' .. هو الزجل عند أبي بكر بن قزمان

رأسَ عباس محمود العقاد رحمه الله لجنة الشعر في المجلس الأعلى للفنون والآداب منتصف الخمسينيات، وبعد ظهور ما يسمى بالشعر الحر كان إذا أتته قصائد من ذلك الشعر أحالها إلى لجنة النثر، وكان يأبى أن يسمي الشعر الحر شعرا، على أنه في حرب دائمة مع الكلاسيكيين وله معارك أدبية معروفة مع أحمد شوقي والرافعي ومحمود شاكر، فمن عجائب الأدب أن الرجل رومانسي ويكره الشعر الحر ويراه كلاما فارغا. ومن ظريف أحواله حينئذٍ، أنه هدد بالانسحاب من اللجنة حينما أراد بعض الشباب المصري المشاركة بأشعار حرة في مهرجان الشعر العربي بدمشق، فرضخوا لضغطه ورجعوا حزانى. وكان فيهم الأديب أحمد عبد المعطي حجازي فغضب وهجا العقادَ بأبيات عمودية، أراد أن يثبت له فيها أنه ملم بقرض الشعر، وبحكم تخصصي في الجيولوجيا وعلوم الأرض، أزعمُ أنّ في تلك الأبيات تكلفا وأن صاحبها لاقى بعض المشقة في إنشائها، ويظهر ذلك جليا في مطلعها:
من أي بحر عصي الريح تطلبه -- إن كت تبكي عليه نحن نكتبه
مع ذلك لم يفلح "الشعراء الأحرار" في ليّ العقاد عن عزيمته، فقد كانت للرجل مكانة عظمى عند المصريين لِما عرفوا فيه من علم وثقافة حوتهما تصانيفه الماتعة ومحاضراته النافعة -على اختلاف كثير من الأدباء معه-، وما يعجبني فيه أن مثقفي مصر كانوا يرهبونه وهو الذي ليس له من الشهادات سوى شهادة الابتدائية، فالعلم ليس مختصا بالجامعات ولا يشترط في صاحبه حمل كيس من الشهادات.
يقول رواد مدرسة الشعر الحر إن المبدع ينبغي أن يكسر القيود، وإنه لا قيود على الأدب، والحق معهم في ذلك لكنّ ثمة فرقا في غاية الدقة بين القيود والقواعد، فالذي يكسر القيود مبدع، والذي يكسر القواعد فوضوي، ولا إنكار أن مِن "الشعر الحر" ما هو أحسن من بعض العموديات، ومنه ما يستلذه القارئ ويطرب له السامع، غير أنه ليس شعرا إنما هو فن من فنون الأدب، فلا اعتراض على إنشائه، وإنما الاعتراض على تسميته شعرا. ثم إن "الشاعر الحر" خرج من القواعد إلى القواعد فالتزمَ تفعيلة، فلما نبهناه أنه أراد تكسير القيود فدخل قيدا آخر، صرخ في وجوهنا غاضبا وكتب نثرا سماه "قصيدة النثر"، ولا إنكار أن مِن النثر ما هو أحسن من الشعر، ومنه ما يستلذه القارئ ويطرب له السامع، غير أنه ليس شعرا، فلا اعتراض على إنشائه إنما الاعتراض على تسميته شعرا كما قال عبد اللطيف عبد الحليم رحمه الله :)
وقد كان البيضان أهل توفيق وسداد حين لم يسموا شعرهم الشعبي شعرا، وإنما سموه "غِناء"، فيطلقون على من يحسن قرضه "مُغنيا"، فإذا أحسن قرض الشعر العربي والحساني معا أسموه "شاعرا ومُغنّيا" ففرقوا بينهما، وقد أخذوا في ذلك بمذهب رائد الأدب الشعبي الأندلسي أبي بكر بن قزمان الذي اعترف أنه عجز عن معارضة ابن زيدون فاتخذ لنفسه نهجا أدبيا آخر وهو الشعر الشعبي، ولم يسمه شعرا بل أسماه "زجَلا"، والعجيب في الأمر أن الزجل يطلق في العربية على الصوت والتطريب أثناء الغناء، فانظر إلى هذا الاتفاق بين الأندلسيين والبيضان. عشتم طويلا.

محمد لغظف ولد أحمد 

(المرجع :  صفحة المؤلف على فيسبوك)

 

تصنيف: 

دخول المستخدم