الأزمة المالية والتحديات الجيوستراتيجية في المنطقة: مَن يستفز مَن؟ وما العمل؟

التجاذبات الجيوسياسية المتزايدة والتطورات الأخيرة للوضع السياسي والأمني في مالي وفي منطقة الساحل، لا تشير إلى أي تحسن في العلاقات الثنائية بين النظام العسكري الانتقالي في باماكو والنظام الفرنسي، بل على العكس تصعيد التوتر بين الطرفين في تزايد مطرد، وكأنهما في سباق محموم من أجل تعميق وتهويل أزمة الثقة بينهما.

وهذا الهروب إلى الأمام يدفع طبعا بكل من الطرفين إلى اللعب على نقاط ضعف الخصم ومحاولة الإيقاع به في الخطأ. كما أن تداعياته الاستراتيجية لا تقتصر على البلدين بل تشمل دول المنطقة وغيرها.

هل سيفلح ماكرون في عزل النظام المالي عبر تجييش حلفائه الأوروبيين والرد على منافسيه الداخليين؟

رفض السلطات المالية لتواجد قوة عسكرية دنماركية على أرضها خدم فرنسا لحد لا يستهان به في محاولتها تجييش حلفائها الأوروبيين، وكذلك في استغلالها للمضايقات والشروط التي تفرض الآن باماكو على تحرك الوسائل الجوية الأوروبية: على الطائرات العسكرية والمسيرة. كما أن طردها للسفير الفرنسي قوبل هو الآخر باستياء من طرف دول أوروبية عديدة.

ورغم أن السيد عبدولاي اديوب، وزير الخارجية المالي، علق يوم أمس على الأجراء بأسلوب مرن لا يَخفى أن صاحبه يميل إلى التهدئة. لكن محاولته لم تؤت أكلها لحد الآن؛ بل على العكس ربما رأت فيها فرنسا تذبذبا دفعها إلى التشدد.

وفي المقابل جري نظيره، جان إيف لودريان، في اتجاه معاكس: هاجم بقوة السلطات المالية صباح اليوم. وكان يتكلم أمام مجلس النواب الفرنسي، واستخدم لغة عنيفة ضد السلطات العسكرية المالية. ويدخل حديثه ضمن حملة عامة شرسة، إعلامية ودبلوماسية، تهدف إلى عزل السلطات العسكرية الانتقالية في مالي، وتتمحور حول عناصر تؤسس لخطاب تحريضي متماسك، مدروس بشكل يعطيه وقعا في العالم الغربي. ويمكن تلخيص عناصر ذلك الخطاب فيما يلي:

  1. الطغمة العسكرية الحاكمة في مالي غير شرعية؛ لأنها انقلبت على رئيس منتخب ديمقراطيا، وليس لها من هدف سوى البقاء في السلطة.
  2. الطغمة العسكرية المالية ليست في صراع مع فرنسا وإنما مع العالم: مع اللجنة الاقتصادية لدول غرب افريقيا، مع الاتحاد الافريقي، مع الاتحاد الأوروبي، مع الأمم المتحدة.
  3. الطغمة العسكرية المالية لم يعد لها من شريك سوى مرتزقة شركة فاغنير الروسية وتعاملت معها ليس لمحاربة الإرهاب وإنما لتأمين نفسها وضمان بقائها في السلطة.

 ولا يستبعد أن تكون لهذا التحريض أغراض استفزازية غير معلنة يراد من ورائها دفع الحكام الماليين إلى تصرفات غير حكيمة، كما يستشف من تعمد تداولها بوقاحة على نطاق واسع من طرف المستويات العليا في الدولة الفرنسية: مانويل ماكرون، وزير خارجيته، ووزيرة الجيوش، والناطق الرسمي باسم الحكومة وغيرهم لا يترددون في تكرارها بنبرة استفزازية مثيرة.

ومن جهة أخرى، فإن هذا الخطاب يحاول على الصعيد الداخلي تقديم رسالة قوة إلى الناخب الفرنسي، والبلد على بضع أسابيع من انتخابات رئاسية. وولوج سياسة الدفاع في الحملة الرئاسية يشكل حدثا غير مألوف في فرنسا. لكنه وقع بقوة هذه المرة، حيث تمتاز تحضيرات الأستحقاق باهتمام عير مسبوق ابداه جل المرشحين بالقضايا العسكرية. حتى أن بعضهم أدى زيارات رسمية لوحدات فرنسية في ثكناتها في افريقيا. وركب المطية العسكرية مرشحو اليمين المتطرف وأقصى اليسار. وتباينت انتقاداتهم للرئيس ماكرون. ويشعر هذا الأخير بأن اكثرها خطورة عليه هو "الضعف" الذي يتهمه به مرشحا اليمين المتطرف: مارين لبين ومنافسها الرئيسي من نفس التيار الفكري، السيد أريك زيمور. ولا شك أن في التشدد الذي يبديه الرئيس المترشح لخلافة نفسه وأعضاءُ حكومته تجاه السلطات المالية هو بمثابة مناورة سياسية داخلية يرُد ماكرون من خلالها على هذين الخصمين بصورة غير مباشرة.       

أما خارجيا، فيبدو فعلا أن لهذا الخطاب أصداء في الدول الغربية إيجابية بالنسبة للنظام الفرنسي. غير أن أثره ضعيف إلى حد كبير على الرأي العام في مالي وفي منطقة الساحل والقارة الافريقية بصورة عامة. فتلك الشعوب لا تخفي امتعاضها من الفرنسيين وتعاطفها مع السلطة الانتقالية في مالي. لكن إلى متى سيستمر الوضع على هذا الحال، علما أن تقلبات الرأي العام في حركة دائمة؟

فمن غير المتوقع أن تستميل الدعاية الفرنسية الماليين والأفارقة إلى جانبها. لكن استمرارية ولائهم للسلطات المالية غير مضمونة على المدى المتوسط. فعدم الاستقرار الداخلي يهدد البلد دائما، وقد تكون له عواقب وخيمة على أمن وسلامة النظام العسكري الحاكم، خاصة إن لم يحافظ هذا الأخير على لحمته ووحدته. ولا شك أن مناوئيه الفرنسيين والغربيين لن يبخلوا جهدا في هذا السبيل. ولهم قوة أضرار لا ينبغي تجاهلها. وفي حالة إقرارهم الإقدام عليها، فإن المتعاونين المحليين معهم سوف يستغلون الآثار السيئة على المواطنين للعواقب الاقتصادية والاجتماعية العويصة الناجمة عن الحصار الاقتصادي والمالي والعقوبات المفروضة على البلد، لاسيما من طرف منظمة إيكواس (CDEAO).      

كلفة انسحاب فرنسي قبل أوانه، وصعوبة الالتفاف على مالي في محاربة الإرهاب ...

رغم محدودية وسائلها مقارنة بالترسانة الفرنسية، نجحت السلطات المالية في احراج القادة الفرنسيين بدرجة لا يستهان بها. فهاهم مجبرون على تغيير خططهم العسكرية بطريقة لم يكونوا متهيئين لها تماما. فقد أصبح من الواضح أن القوات الفرنسية سوف تنسحب من مالي قبل الأوان المحدد. واعترفَ بذلك ضمنيا السيد لي دريان أمام البرلمان لما قال، مجيبا نائبا سأله عن الأزمة الدبلوماسية بين البلدين، إن الوضع بلغ حد "القطيعة السياسية (...) والقطيعة العسكرية". وبأن بلاده تتشاور حالا مع حلفائها بغية إعادة النظر في وضع الترتيب العسكري بصورة تضمن مواصلة محاربة الإرهاب في الساحل وفي منطقة خليج غينيا بالتعاون مع شركائها في المنطقة وغيرهم. وذكرهم بالأسماء  دون أن يشير إلى مالي بأدنى كلمة.

 ومن المعروف أن سحب قوة ضخمة بحجم برخان عملية عويصة ومعقدة جدا، تتطلب تحضيرا دقيقا ووقتا كافيا لذلك. ومن الخطورة بمكان أن تتم على عجل، كما تبين مؤخرا خلال انسحاب القوات الامريكية من أفغانستان رغم أن الأمريكيين تتوفر لديهم الوسائل والمصادر اللوجستية الضرورية. بينما يؤكد الخبراء أن فرنسا تفتقر إلى جزء كبير من العتاد والمعدات اللازمة في هذا الشأن، لاسيما فيما يتعلق بالنقل الجوي، لدرجة أنها ستكون مرغمة على أن تؤجر من عند أوكرانيا ناقلات أنتونوف العملاقة الروسية الصنع. كما أنها ستلجأ حتما إلى الولايات المتحدة من أجل تلبية حاجياتها في هذا الميدان. حيث من المنتظر خلال انسحابها أن ترتفع طلبات القوات الفرنسية على النقل العسكري الجوي بغية تفادى الطرق البرية العابرة لدول الساحل بعدما تعرضت له قافلة امداد لوجستي فرنسية من توقيف ومضايقات في نهاية شهر نوفمبر الماضي على أيدي مجموعات من المتظاهرين في بوركينافاسو وفي النيجر، مناوئين للوجود العسكري الفرنسي في المنطقة.

وعلى صعيد جيوسياسي واستراتيجى، لا يمكن مواجهة التحديات الأمنية والسياسية في الساحل بفعالية دون التعاطي مع الأزمة المالية بوصفها البؤرة المركزية في القضية. وعلى الفاعلين السياسيين والعسكريين، أيا كانوا، محليين، جهويين أو دوليين، جعل هذا المعطى دوما نصب أعينهم. فنقل القوات الفرنسية والدولية إلى مناطق خارج الأراضي المالية ومحاربة الإرهاب من ثَم، مع اخراج مالي من ساحات المعركة، استراتيجية لا تخلو من مخاطر من الصعب التنبؤ بنتائجها، لأن محاربة الجماعات "الجهادية" والاجرامية المسلحة المنتشرة في الساحل، عبر الالتفاف على مالي، خطة من الصعب جدا أن يكتب لها النجاح. ونحن نخشى أن يكون مآلها انسحابا فرنسيا آخر سابقا لأوانه من الوارد أن يضفي بطرفه على القوات الدولية والأجنبية الأخرى.

وحينها، فإن العواقب ستكون وخيمة على المنطقة، كما كانت وخيمة عليها الحرب التي شنها ساركوزي على ليبيا سنة 2011. وعندئذ سوف تتقاطع النتائج الكارثية للاستراتيجية العسكرية لهذا الأخير مع استراتيجية مانويل ماكرون رغم الفاصل الزمني البالغ 11 سنة بين العمليتين، ورغم الفروق الشاسعة بين المحتويات والأساليب العملياتية للخطتين: الأولى تقوم على شن الحرب والثانية على الانسحاب منها. لكن في كلتا الحالتين النتيجة واحدة: الزج بمنطقة الساحل في أزمات واوضاع أمنية خطيرة قد تخرج بسهولة عن السيطرة. كما أن خروج القوات الفرنسية صاغرة هي وشركائها الغربيين من منطقة الساحل، سيترك الباب مفتوحا على مصراعيه، ليس فقط أمام الإرهابيين وعصابات الجريمة المنظمة العابرة للحدود؛ فحسب بل أيضا أمام القوى العظمى الأخرى والقوى الصاعدة لتلعب أدوارا حيوية في صراع التوازنات الجيوسياسية في المنطقة مع قد ينجم عن كل تلك التطورات من اضطرابات وعدم استقرار، تماما مثلما يحدث في ليبيا. ولا أحد يدري متى ولا كيف ستستقر الأوضاع.

ورشات جوهرية وملحة: بالنسبة لدولة مالي وبالنسبة لمنطقة السحل

في السياق الجيوسياسي العالمي وتوجهاته الحالية، وعلى رأسها تخبط فرنسا التي أصبح من الواضح كونها تتصرف بدون بوصلة استراتيجية، فإن الاعتماد عليها اليوم، كقوة عظمى، يشكل خطأ استراتيجيا عواقبه قد تكون وخيمة. وعلى بلدان الساحل، بشكل جماعي وفردي، أن تستخلص النتائج من هذه التطورات، لا سيما فيما يعني مكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود.

ولا شك أن السلطات المالية محقة في استخلاص الدروس. كما ينبغي أن تكون بلدان الساحل وأفريقيا، بشكل جماعي وفردي، على دراية تامة بهذا الأمر، لا سيما في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود.

ومن جانبها يذكر أن القوات المسلحة في مالي رفعت من مستوى قدراتها القتالية وزادت من كفاءتها وحسنت من أدائها على الميدان. لكن حذار: لم يحن الوقت بعد للاحتفاء بما تحقق. فلا تزال التحديات الأمنية والسياسية هائلة، ونذكر كمها:

  • جعل حد نهائي للتجاوزات والانتهاكات ضد السكان المدنيين؛
  • نزع سلاح المليشيات وحلها؛
  • التعاطي بفاعلية مع النزاعات الطائفية بين السكان من خلال علاج أسبابها وتداعياتها من النواحي الظرفية والبنيوية، بما في ذلك القيام بما يتطلبه كسب ولاء وقلوب المواطنين؛
  • حل الأزمة السياسية بصورة كفيلة بإخراج البلد من الوضع السياسي الاستثنائي الذي يعيشه وإعادته بأسرع ما يمكن إلى حياة دستورية طبيعية؛
  • تصميم واتباع سياسة خارجية مرنة وفعالة توفر حيزا واسعا من الإمكانيات، لا سيما فيما يتعلق بالتعاون والشراكة في المجالات العسكرية والأمنية؛
  • ... إلخ

وبما أن السلطات الفرنسية بصدد تغيير مقاربتها العسكرية، بطريقة من الوارد أن تؤدي إلى انسحاب عشوائي وسابق لأوانه لقواتها التي تتعثر في الساحل، فينبغي على المؤسسات والبلدان في المنطقة، ولا سيما مجموعة دول الساحل الخمس، وأعضائها أن يراجعوا بدورهم سياساتهم في هذا المجال.

وفي هذا الصدد، تبدو لنا أربعة محاور أساسية، ذات أولوية بالغة.  وهي: 

  • تعزيز وتقوية وسائل الدفاع الوطنية الخاصة بكل بلد.
  • تنويع التحالفات وقنوات التعاون العسكري الأجنبي، مع التركيز بشكل خاص على التعاون الأمني البين ساحلي؛
  • تعزيز عوامل الاستقرار السياسي الداخلي، بصورة تعطي دفعا للجهود الهادفة إلى تعزيز دولة القانون، فضلاً عن ترسيخ وتوطيد منظومات وآليات التناوب الديمقراطي على السلطة.
  • اتباع سياسات طوعية وجريئة في مجالات الحكامة الرشيدة من أجل التحسين بشكل مستمر وملحوظ للمؤشرات الرئيسية المرتبطة مباشرة بحياة المواطن، مثل: مؤشر التنمية البشرية، مؤشر التنمية النوعية، مؤشر الفقر متعدد الأبعاد...

تشكل هذه المحاور ورشات استراتيجية عظمى ومتكاملة تتطلب التزامًا سياسيًا قويًا واستراتيجية متسقة للموارد تسمح بتحديد الأولويات وبرمجتها.

وغني عن البيان أن المحورين الأول والثاني، المتعلقين بمجالات الدفاع والأمن، يجب أن يكونا في الظرفية الراهنة، موضع اهتمام خاص يمكن تدشينه بتنظيم قمة ساحلية حول هذين الموضوعين؛ قمة ينبغي أن تعقد في أقرب الآجال. ونقترح أن يكون موضوعها المركزي: "مواكبة التغييرات الجيوستراتيجية والسياسية في المنطقة: جرد واستشراف". 

  فتمكُّن الدول من زمام أدوات دفاعها وأمنها يظل هو التحدي الرئيسي الذي ينبغي رفعه؛ مما يستدعي العمل بعزم وحزم، في هذا السبيل، من أجل بناء وتطوير إدارة جيدة للموارد المحلية وتنويع طرق ووسائل التعاون العسكري الخارجي.

 

البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)

  

تصنيف: 

دخول المستخدم