أنفاس صحراوية العدد 5-6 : عددان في واحد لقارئ طويل النفس

إن قراء لسان حال رابطة الكتاب الموريتانيين باللغة الفرنسية، "أنفاس صحراوية"، لهم في حاجة ماسة إلى نفس طويل وإلى كثير من الطاقة لكي يمروا على كل المواضيع التي يتضمنها هذا المجلد الذي يضم بين دفتيه عددين في وقت واحد، ويفرض نفسه بحجمه ويبهر بانفتاحه على الإسهامات من خارج البلد وبتنوع الموضوعات المطروقة وعمق تحاليلها.

لقد انطبعت هذه السنوات بجائحة كوفيد 19 وبالاضطرابات الناجمة عنه، مما تسبب في تأخر صدور هذين العددين إلي سنة 2021، ورغم ذلك فلقد تميزت الفترة بنشاط مكثف في مجال البحث وكأن القراءة والكتابة كانتا زادا لكتابنا لكي يتجاوزوا المحنة. وكانت المجلة قد عودت قبلا قراءها على اكتشاف ثقافات وحضارات أخرى داخلة في تخصصات أعضائها. وهذا التوجه قد تقوى في هذا العدد وذلك من خلال الموضوعات التي خصصت للآداب الأجنبية وبخاصة إسهامات زملائنا الجامعيين الأفارقة الذين زودوا المجلة بمساهماتهم العلمية لأنهم مقتنعون بما تحظى به المجلة من مكانة عبر العالم لما تحظى به من تقدير في الأوساط العلمية والأدبية، فقرروا انتهاز الفرصة لكي يتقاسموا معنا تجاربهم ولكي يكشفوا لنا عن بعض خصوصيات آدابهم ومناهجهم النقدية.

يتميز هذا العدد بأنه يتناول الثقافة بمفهومها العام والثقافة الموريتانية بشكل خاص، وعبر تحاليل لمسيرتها الطويلة من خلال معالجات طويلة للشعر اللهجي الحساني في علاقته بالموسيقى وبالمجتمع. ويعالجُ أيضا مشاكل المجتمع الموريتاني عبر مقال حول إشكالية العبودية كما تجلت عبر تأليفين. ولكن الثقافة الموريتانية تتشرف بهذين العملين الأدبيين وبالإنتاج الأدبي الجديد المتمثل في ترجمات حكايات محلية متعددة، كما يعرض محور الإبداع بالمجلة سلسلة من النصوص الأصيلة من ضمنها الحكاية والقصة القصيرة والشعر.

ولقد أثيرت آداب متعددة في هذا العدد ؛ حيث طرق الأدب الإفريقي عبر مقالين يثيران بعض خصائص آثار كاتب غابوني، ومقال آخر حول كاتب كلاسيكي إفواري.  وقد مثلت الأدب الفرنسي دراسة تعالج موضوعا متزايد الأهمية من الإبداع الأدبي بشكل عام، ألا وهو "الرواية العائلية للمرضى النفسانيين" الذي نظر له علم النفس الفرويدي وتقرأ تمظهراته في الحكايات والقصص القصيرة لغي دو موباسان. وجه من وجوه الثقافة العالمية يزين بهالته الفكر الفراكوفوني؛ أمين معلوف؛ الذي تُعرض بحذق وعمق "مسيرتُه الوجودية" كصحفي ومؤرخ ورجل أدب وخاصة مقدرته التي لا تضاهى كناقل للثقافات والحضارات والذي تتماهى هويته مع العوالم التي يكتشف.

يتجاوز العدد الحالي المحاور الأثيرة للمجلة. وهكذا يُفْتتح محور الدراسات بدراسة أصيلة واستقصاءات عميقة لمجال مهم من مجالات الثقافة الموريتانية، ألا وهو مجال الفن الموسيقي والشعر وامتحان الحداثة، حيث يغوص بنا محمد بن بوعليبة بن الغراب في عالم مذهل لا تعرفه سوى قلة قليلة تختفي شيئا فشيئا؛ فيحدثنا عن موضوع الموسيقى البيظانية من جهة ومن جهة أخرى عن الشعر اللهجي الحساني وهما موضوعان قل العارفون بهما من نقاد الأدب الفرنسي. في هذه الدراسة يصف الباحث الذي لا يعرف الكلل بوعليبة، العارف بالحقل وبدقة وصرامة وسعة معرفة، كيف نشأت هذه الفنون في مجتمعات أرستقراطية، حيث الموسيقى ممتهنة من طرف فئة اجتماعية خاصة؛ "إيكاون")بكاف معقودة( ولكنها كذلك كانت حكرا على طبقة اجتماعية هي طبقة حكام البلاد الذين هم حسان )أهل الشوكة( وإليهم أهديت وهي الموسيقى التي تحتفي بمثلهم وعلو منزلتهم وتكتب تاريخهم. ويشرح الكاتب كيف أن هذه الوظائف المتعددة للموسيقى البيظانية أعطت لهذه الموسيقى أهميتها وجعلت ممارسيها من إيكاون المطربين عرضة لسجالات مريرة بين أهل الشوكة من العرب وبعض الزوايا، ممن قالوا بتحريمها. يحلل الباحث تطور هذا الفن عبر القرون ويظهر أنه مع الاستعمار حدثت للموسيقى تحولات طالت وظيفتها باسم الحداثة، كما طالت هويتها مهددة وجودها كفن.

كما تعرض الباحث للفن الشعري وعلاقته بالفن الموسيقي منذ نشأته وتطوره والتحديات والرهانات اللغوية والإيديولوجية التي أثيرت حوله، ويقدم الباحث شواهد وبراهين على ما يقول من النصوص الشعرية الحسانية والفصحى واضعا أمام القراء والباحثين باللغة الفرنسية نصوصا ذات قيمة جمالية وتاريخية كبيرة ستثير اهتمامات النقاد والباحثين الراغبين في البحث حول الأدب الموريتاني.

أما الدراسة الثانية في هذا المحور فهي توظيف لمنهج علم النفس وتطبيقه على الأدب. في الواقع يتناول صاحب الدراسة، وهو ممدو بن دحمد، بالتحليل الموضوعات النفسية الشاردة التي أفصح عنها سكموند فرويدSigmund Freudخلال تأويلاته الأولى للإبداعات الأدبية التي عنونها بـ "الرواية العائلية للمرضى النفسانيين" حيث يكون بطل الرواية المتخيلة في الغالب "طفلا لقيطا". وترى الناقدة مارت روبير Marthe Robertأن هذا الشكل الروائي هو أصل الرواية الأوربية. وانطلاقا من هذا يقوم كاتب المقال بتحليل موضوعات الكاتب غي دي موباسانGuy de Maupassantــ وهو روائي ومسرحي، وعلى الخصوص كاتب قصة قصيرة إبان القرن التاسع عشر ــ مستندا بشكل خاص على النظرية الفرودية كما تتجلى في تأويلاته عبر مكتوبه : "الرواية العائلية للمرضى النفسانيين" ليدرس حضور الهوس، وهو الموضوع الذي طبع بعض شخوصَ حكايات وقصص قصيرة للكاتب غي دي موباسان. يحاول هذا التحليل إعطاءنا خصائص العالم الذي تنتشر فيه مغامراتُ المصابِ بالأزمة النفسانيةnévroséعبر مقاربة للاوعي النص؛ بمعنى إعادة بنائه أي النص مستندة على عناية بالمضمر الواخز والملح والمتكرّر اللاإرادي: أي كل الأمور التي تخرج عن موضوع النص ولا يُثبِّتُها وحتى لا يعترف بها.

إن دراسة موضوعات الرواية العائلية للمرضى النفسانيين لدى موباسان تسمح بتسليط الضوء على عالم يتميز خصوصا بالصور المؤرقة images obsédantesورفض الزواج وسنيريوهات العلاقة الثلاثية والحقد على الأبوة مع نتيجة طبيعية هي الرغبة في قتل الأب في الواقع أو في المتخيل. هذا النوع من الأجواء مُوَّاتٍ لنمو موضوعات العقد الأوديبية وإثارة الأبوة المثالية؛ أي موضوعات عديدة تنسج العالم المتخيل لكاتب يستعد للاستقصاءات السيكولوجية.  

أما الدراسة الثالثة فعنوانها رسم للمسيرة الأدبية لأمين معلوف وتتناول المسار الوجودي الخلاق لهذا الكاتب. يتناول كاتب الدراسة السيرية وهو إدومو ولد محمد الأمين أوجها ثلاثة لهذه الشخصية المعروفة دوليا. ثم يمضي متقصيا أثر المهاجر اللبناني، لبنان الرائع، بلد الصراعات وتعدد القوميات، بلد الكاتب المحب للآداب الكونية الذي أدى به حبه لها إلي التوجه نحو الصحافة ليبرع فيها من خلال منابر ذائعة الصيت، ولكن مقدرته ككاتب قصة وعمق فكره وفرا له مجلا آخر للتعبير ألا وهوالأدب وقد برع فيه كذلك. هذه المسيرة جعلت من أمين معلوف كاتبا متعدد الثقافات والهويات. وكتابه الهويات القاتلة مثال حي على ذلك.

إن الأدب الموريتاني باللغة الفرنسية يوفر فرصة للناقد مامادو خالدو با ليتناول إشكالية العبودية والإقطاعية من خلال قصتين موريتانيتين. ومن خلال هذا التحليل يجد هذا الأدب مكانته الأثيرة كانعكاس للمجتمع. يقوم كاتب المقال وعبر مقدمته بالتحدث عن الوسط الذي نشأ فيه التأليفان قبل أن ينتقل إلى المتن ليخضعه لتحليل شامل عبر مقاربة مُقارِنة وسوسيولوجية في آن واحد. وعلى أمواج الكتابة النقدية يطفو نضال المؤلف الذي يلامس بنظرة واحدة نصوص الكاتب أمبارك بن بيروك في قصته ونسيت السماء أن تمطر  والكاتب رشيد لي في قصته الاستيقاظ المضطرب. " العبودية هي إحدى مظاهر القهر الأكثر قدما وبغضا التي عرفتها البشرية منذ نشأتها." حسب تعبيره في مقدمة بحثه الذي ينهيه قائلا: " إنه من المنطقي أن يختار الكتاب الموريتانيون المعاصرون الراغبون في لعب دورهم في إيقاظ ضمائر شعبهم أن يعالجوا إشكالية العبودية وبراثينها عبر الإقطاعية."

ثم يأتي التجديد في الأدب الكنغولي من حيث الأشكال والموضوعات عبر تحليل شارل أدغارأمبوبوCharles Edgar Mombo وهو تحليل دقيق لقصة كلاب الصاعقة للكاتب جوزيف تونداJoseph Tonda. يكشف الناقد هنا عن أشكال التشابك الهوياتي للشخوص الموازي للتراكب السردي. عند مدخل كلاب الصاعقة يفاجأ القارئ بمسألة الهوية المزدوجة للشخصية الرئيسية وللسرد، وفي الواقع هناك يستقر نوع من اللعب بينهما طيلة النص، والقصة تتراوح بين الرواة؛ جيروم أسبندزاماكيتاJérôme EpandzaMakitaمن جهة و سوستن أدومنا Sosthène Ndomanaمن جهة أخرى.غير أن هذه الوضعية المزدوجة التي يستخدمها الكاتب إنما تبين الغموض واختلاف هويات الشخوص طاردة إياها كما يقع في اللعب بالمرآة. كما يقترح المقال قراءة هوياتية من منظور متعدد الجوانب هو منظور الابتعاد المزدوج والكتابة الوسيطة كتقنية سردية اختارها توندا لكي يبرز المتخيل الجماعي لمواطني  "بلد في أوج غليانه".

وفي مقال ثان مخصص للأدب الإفرقي يكتشف أمبوه ستا دياغاناMbouhSétaDiaganaأديبا كلاسيكيا عاجيا ألا وهو جان ماري أديافيJean Marie Adiaffi حيث يقوم بفك رموز شاعر ملهم يتمتع بخصائص شعرية تخلط بمهارة بين الموروث الإفريقي والغربي لكي يخلق منها الكاتب أثرا أدبيا أصيلا، يعالج الكاتب عبر نظرة جديدة موضوعا روائيا هو موضوع الرفض ومطالب الهوية الإفرقية. ففي كتابه بطاقة الهوية تعالج دراسة دياغانا التي عنونها بـ: "بطاقة الهوية لجان ماري أديافيتظهرات جمالية جديدة وشعرية متحررة"، وفكرة بعث الشفاهية من طرف جان ماري الذي لا يفتأ وحتى في نص نثري من إدخال المآثر التي ظلت دوما مصدر تجديد للرواية الإفريقية. فهو بذلك بهذا النهج كاتب له خصوصيته المتميزة داخل فضاء الروائيين جنوب الصحراء تدفعه إرادته إلى خلق الجديد بواسطة القديم إلي حد إزاحة لياقةِ الكتابة الروائية. ففي قصة بطاقة الهوية يبرز نوع جديد من الكتابة الروائية ويعني ذلك أن الكاتب يملك الكتابة الأجنبيةالتي فرضها عليه الغرب لكي يوظفها في خدمة شعبه. وهكذا فهو من جهة يستخدم أشكال الرسم: والكتابة المائلة والرومانية حيث تتأثر بمقابلات في النظام النبري، ومن جهة أخرى فقد يكون في ذلك نوع من اختراق للحدود الفاصلة بين النثر والشعر وبين الجملة والبيت الشعري؟ وبهذا يصبح النوع الأدبي متعدد الأشكال، ويتعانق المسرح والشعر في فضاء نصي واحد. ذلكم هو ما تريد هذه الدراسة أن تبوح به.

في محور الأخبار الأدبية فإنه لا يكمن إلا أن نشير إلى التظاهرة التأبينية العظيمة والرسمية التي رافقت تقديم الكتاب الذي خص به رئيس رابطة الكتاب الموريتانيين باللغة الفرنسية محمد بن بوعليبة بن الغراب فنان الأمة سداتي بن ألفة بن آبه. كتاب فاخر كان عنوانه: سداتي بن آبه  الفنان والإنسان وقد نشر بالتعاون مع وزارة الثقافة والصناعة التقليدية والعلاقات مع البرلمان الذي شرفه الوزير نفسه بحضوره وبخطاب، وحضور وزير الخارجية والتعاون كما تميز الحفل بتسليم الكتاب لعائلة الفنان العظيم والوجه الناصع للفن والشعر الموريتانيين. وقد تميز الحفل بحضور السلك الدبلوماسي وممثلي الأحزاب السياسية وأعضاء البرلمان والمثقفين وأهل الفكر. وقد ألقي محمد بن بوعليبة بن الغراب محاضرة قدم فيها المحاور الأساسية في الكتاب والجوانب المختلفة لشخصية هذا الفنان فهو مع كونه فنانا لا يضاهى كانت له مع ذلك مثل لا يمكن إحصاؤها.

إن الأخبار الأدبية يتصدرها كذلك صدور باريا أو المنبوذون للكاتب بيروك وقد لفت الأنظار عند صدوره لدى دار ويسبايزر وننشر هنا تقديم الدار له.

وفي محور القراءات يقوم إدومو ولد محمد الامين عباس بتقديم أول عمل روائي للزميل ممدو بن دحمد الصادر عن دار لارمتان 2020 وعنوانه: نداء القصر. وقد تم تقديمه بحصافة وعمق تفكير.

أما في محور الإبداع فإن هذا العدد يتصف بالثراء والتنوع. فلقد نشرت فيه ثلاث قصص قصيرة لكل من إدومو بن محمد الأمين مع قصته: بائعة النعناع وعبد الفتاح الأمانة في قصته: مع القرية الأخرى وإسلمو بن المحجوب في قصته: بكاري.

وفي مجال مختلف يكتب محمد سالم بن مولود نصا مثيرا من خلال عنوانه: الكتابة.... أو محاولة رواية المقدس؛ إنه تفكير عميق حول مسلسل فعل الكتابة وظيفتها ومعنى وجودها ومعاناتها وخلاصها.

أما الكاتب رشيد لي فهو ببراعته المألوفة وقريحته الساخرة كتابة بعض الحكايات التي تخلط بين الهزل المفرط والعمق والحكمة على ألسنة الحيوانات التي تُعلِّم الناس. وتجمع هذه الحكايات بين الضحك واللعب بالكلمات مما يذكرنا بكتابات لا فونتينLa Fontaine.

ولقد كان الشعر ممثلا في هذا العدد من خلال مقاطع عذبة تلامس الفكر والحواس.

إن الأوفياء لمجلة أنفاس صحراوية باللغة العربية الذين عودناهم على تعريب محتوى المجلة من خلال ترجمة التقديم والمحاور الرئيسية في المجلة سيقرؤون في هذا العدد نص المحاضرة التي ألقاها رئيس رابطة الكتاب باللغة الفرنسية الدكتور محمد بن بوعليبة بن الغراب هذه المحاضرة التي نظمها المركز الثقافي المغربي بنواكشوط. وقد سمحت المحاضرة بإعطاء القراء لمحة عن محطات تطور الأدب الموريتاني باللغة الفرنسية مع تحليلات عميقة للموضوعات التي طرقها هذا الأدب عبر مسيرته وفي جميع الأنواع الأدبية.

كل ذلك يؤكد للقارئ حرصنا على مواصلة ما كنا قد التزمنا له به عندما بدأنا مشروع هذه المجلة والله من وراء القصد.

أنفاس صحراوية، العدد 5 و 6

محمد ولد بو اعليبة

تصنيف: 

دخول المستخدم