في يوم 1 مارس 2016 فقدت موريتانيا مرجعية فكرية وسياسية كبيرة ساهمت في وضع اللبنات الأولى لتأسيس موريتانيا الدولة
يتعلق الأمر بالمرحوم أحمد بابه ولد أحمد مسكه.. وانا كنت من بين الكثيرين الذين ذاقوا طعم مرارة فراقه لكوني بقيت على صلة قوية بالمرحوم منذ عشر سنوات.. جالسته كثيرا خلالها و حاورته ضمن العديد من البرامج التلفزيونية.
وبفعل تجربتي الغنية معه، واعتبارا لمكانة الرجل الكبيرة لدى الناس ـ محليا ودولي ، فإنني أجد من الوفاء أن أقدم عنه شهادة قد تعرف بمحطات من حياته المشحونة بالنشاط الفكري والسياسي وبجوانب من شخصيته الثرية.. قد لا تكون معروفة بشكل دقيق لدى الكثيرين .
ولد المفكر والدبلوماسي والسياسي أحمد بابه ولد أحمد مسكه بمدينة شنقيط سنة 1935 حسب الوثائق المدنية وقد حدثني شخصيا ضمن برنامج ذاكرة وطن الذي كنت أعده وأقدمه لصالح التلفزة الموريتانية ( الموريتانية ) أنه ولد قبل هذا التاريخ .
البيئة الأسرية : والد وجد نافذان...
احتل والد الفقيد أحمد مسكه ولد العتيق مكانة مرموقة في مجتمعه ،وحصل مستوى رفيعا من الثقافة العربية والفقهية واحتل مركزا قياديا في تدبير الشؤون السياسية والاجتماعية في قومه ،وعرف بالكرم والحلم ، و كان يفزع إليه في النوائب والأزمات ، ثم تعلم اللغة الفرنسية في مدرسة أبناء الشيوخ مما أهله لأن يكون ترجمانا وشخصية سياسية وإدارية نافذة نال أحمد مسكه ولدالعتيق رحمه الله مكانة كبيرة في مجال القول فمدحه الشعراء وخلدوا مآثره ولأن المقام لا يسمح بالبسط في ذلك استشهد بأبيات من قصيدة طويلة مدحه بها العالم والشاعر محمد عبد الله ولد اعبيد الرحمن يقول فيها :
حكت دار أحمد مسكه بل هي جلت
لمن حل فيها بيت عاتكة التي
بها سيد لم نحتج اليوم أن نقل
عديم مضاف في الورى للأدلة
وسيدة علما وحلما وسؤددا
ترقت على كل الورى وتعلت
وفي سنة 1942 توفي أحمد مسكه ولد العتيق رحمه الله ودفن عند معلم جغرافي يسمى لحريش بولاية إينشيري.
أما جده لأمه بزيد ولد السالك فقد كان شخصية قيادية بالفطرة ،وكان على درجة عالية بمعرفة الفقه و اللغة وأيام العرب ،وقد تعلم اللغة الفرنسية بمجهوده الشخصى أيام كان يمارس التجارة بسينلوي مما أهله لأن يكون من أبرز المترجمين في تلك الفترة ، وقد تميز بخصال الكرم والتواضع والذكاء وقوة الشخصية ، وكان ملاذا للمستضعفين. لهذا تغنى الشعراء بخصاله وخلدوا مواقفه النبيلة .
ومن ذلك قول محمد المصطفى ولد تكرور:
قد اشترى الحمد لما استصعب الزمن والحمد لا يشترى إلا له ثمن
بزيد وابناه لا شالت نعامتهم ولا علا الغر من أحسابهم درن
وقد أجابه محمد الحافظ بن بزيد بن السالك بأبيات منها :
قد اشترى الحمد لما استصعب الزمن محمد المصطفى العلامة الفطن
قطب الرحى من بني يعقوب سيدها إذا تتايعت البأساء والمحن
وقد ظل بزيد طيلة حياته شخصية سياسية واجتماعية فاعلة ، وقد تحدث عنه المختار ولد داداه رحمه الله في مذكراته وكان يلقبه "الوالد بزيد" وعبر عما لقي منه من دعم وتأطير وعناية .
وحكاية مخلات الأديب محمد ولد محمد خوي ( ابوك ) معروفة فقد أرسل مرة مخلاة لبزيد رحمهما الله (مخل ) وكافا من لبتيت هو:
: كول البزيد الما يخل
منش فيه الستر وديب
عن راسل ذ المخل
أل نلل ماه مخلت عيب
فملأ بزيد المخلات لصديقه الأديب الكبيرمحمد ولد محمد خزي.
توفي بزيد ولد السالك رحمه الله سنة 1970.
تقبل موفق لمناهج تعليم تقليدية وحديثة...
درس الفقيد أحمد بابه ولد أحمد مسكه القرآن واللغة والفقه على عدة مشايخ منهم سيدي محمد ولد أحمد التنواجيوي ، ومحمد ولد أحمد معلوم اليعقوبي ،والأستاذ الجزائري النقلي ،وقد حفظ القرآن وديوان الشعراء الستة ورسالة بن أبي زيد القيرواني في سن مبكرة ، ودخل المدرسة النظامية بأطار ثم أكمل دراسته المتوسطة والإعدادية بسينلوى وحصل على شهادة الباكلوريا من فرنسا ،وشهادة اللصانص من جامعة داكار ثم واصل دراسته ليختمها بشهادة الدكتورا في التاريخ وعلم الاجتماع من فرنسا سنة .
من حزب الوفاق إلى حركة الشباب والنهضة ( 1955 ــ 1961
باعتبار أن أحمد بابه ولد أحمد مسكة ورث مركز والده أحمد مسكه ويحظى بدعم جده بزيد ولد السالك النافذ حينها فقد كان منتميا لحزب الاتحاد التقدي المقرب من الإدارة الفرنسية ،وفي سنة 1955 كان ضمن وفد من وجهاء منطقة إينشيرى لحضور تجمع للحزب المذكور في مدينة روصو، وتزامنا مع هذا التجمع كانت مجموعة من الشباب من ضمنها صديقه الحميم محمد ولد الشيخ ولد أحمد محمود تعقد اجتماعا في مدينة روصو للتحضير لإنشاء إطار سياسي ثوري معارض لتوجهات الإدارة ، فالتقى أحمد بابه اولئك الشباب وتبنى فورا أطروحاتهم وعمل معهم على إنشاء رابطة الشباب التي تولد عنها لاحقا حزب النهضة .
إحتل أحمد بابه مكانة الصدارة ضمن "رابطة الشباب"، حيث أصبح أمينها العام،وقد تبنت الرابطة أفكارا ثورية بمقاييس تلك الفترة ،إذ جاهرت برفضها للتقاليد البائدة تبعا للثقافة المجتمعية السائدة حينها مثل : القبلية وتسمين المرأة المعروف ب "لبلوح".. كما أعلنت محاربتها للرق واعتبرته ممارسة غير شرعية. فدعى أعضاؤها ضمن بياناتهم السياسية وشعراؤها عبرقصائدهم عن هذا التوجه ،مما دفع القوى التقليدية لمحاربتها .
كانت موريتانيا حينها تشهد حراكا سياسيا قويا تدور رحاه حول حلم الاستقلال وطبيعة الدولة المنتظرة، وعلاقة كل ذلك بفرنسا والمحيطين العربي والإفريقي ، وكان المختار ولد داداه يقطع أشواطا متقدمة في الحصول على استقلال موريتانيا تدريجيا وكان هاجسه الأكبر توحيد القوى السياسية ضمن حزب واحد لتحقيق هذا الهدف، فكان مؤتمر ألاك سنة 1958. لكن رابطة الشباب رفضت المشاركة في المؤتمر محتجة بأنها "تريد استقلالا غير مشروط باتفاقيات وهيمنة غير مباشرة" كما حدثني بذلك المرحوم احمد بابه ، فتأثرت علاقة الرابطة وعلاقة أمينها العام بالمختار ولد داداه سلبا بهذا الموقف ، مما جعل أحمد بابه يبرز كأهم معارض للنظام...
تحولت رابطة الشباب إلى حزب سياسي مرخص له في نفس السنة يرأسه المناضل بياكى ولد عابدين رحمه الله ويتولى الفقيد احمد بابه أمانته العامة ،وقد دشن "حزب النهضة" حملة سياسية قوية ضد النظام، وربط صلاة قوية برموز الحركة الوطنية المغربية مثل المهدى بن بركه وسافر أحمد بابه إلى المغرب حيث قابل الملك المغربي محمد السادس غير أن إيمان قادة النهضة بضرورة إنشاء دولة موريتانية مستقلة واعتبار المملكة المغربية يومئذ موريتانيا جزءا لا يتجزأ منها وضع حدا كبيرا لتطور تلك العلاقات ،
ورغم الهوة الشاسعة بين الطرحين المغربي و النهضوي، فإن تلك الزيارة التي قام بها الأمين العام للنهضة إضافة لرفض قادتها للمسار السياسي الذي يقوده المختار ولد داداه زادت من حدة الصراع في موريتانيا حيث وسعت الهوة بين زعيمي تيارين يسعيان لنفس الهدف ،لكن بمنهج وأسلوب ووتيرة تختلف تماما. هما فحل النهضة الذي يريد الحصول على استقلال البلد كاملا وفورا والرئيس الأول للبلاد الذي يرى التدرج في بلوغ الهدف.
بسبب هذا الموقف الثوري تعرض لمضايقات شديدة حيث اعتقل ليقضي سنتين ما بين السجن والإقامة الجبرية..
تفاهم ذو نفس قصير مع النظام
في سنة 1961 عادت العلاقات إلى سابق عهدها بين المختار ولد داداه وأحمد بابه ولد أحمد مسكه وبدأت مرحلة جديدة من التعاون فأطلق سراحه،واتفق الطرفان على الإعلان عن حوار وطني شامل تشارك فيه جميع الأحزاب السياسية وقد عرفت هذه المبادرة باسم "الطاولة المستديرة" ،وقد عين أحمد بابه رحمه الله منسقا عاما لهذه المبادرة فقام بجولة شملت كافة المناطق الموريتانية استمع خلالها لآراء كافة الفاعلين السياسيين ، وقد كان من نتائج هذه الطاولات المستديرة انصهار كافة الأحزاب والقوى السياسية ضمن حزب واحد هو حزب الشعب الموريتاني ، وقد حصل حزب النهضة بموجب هذا الاندماج على حقائب وزارية فدخل اثنان من أبرز قادته في الحكومة هما بياكى ولد عابدين ومحمد ولد الشيخ ولد أحمد محمود ،كما أصبح أحمد بابه مفوضا ساميا للإعلام بدرجة وزير، إضافة إلى توليه الأمانة العامة لحزب الشعب وبهذا صار الشخصية الثانية في البلد بعد المختار ولد داداه رحمه الله .
توترت العلاقات بين المختار ولد داداه وأحمد بابه ولد أحمد مسكة مجددا فعينه المختار سفيرا مقيما بساحل العاج مكلفا بشؤون الجالية الموريتانية في العديد من الدول الإفريقية ثم عينه سفيرا مندوبا دائما لموريتانيا لدى الأمم المتحدة في واشنطن ،وهو إجراء حدثني شخصيا أنه اعتبره تحييدا له عن المشهد الساسي الداخلي ،وقد وضع تسيير أحمد بابه لملف الصحراء الغربية المختلف عن رؤية الحكومة حدا فاصلا لعلاقة الرجلين ، فاستدعي إلى انواكشوط وسجن ثم أطلق سراحه ، و حدثني ــ أيضا وهي معلومة لا أعتقد أن الكثيرين على علم بها ـــ" أن السفير الفرنسي استدعاه بعد أطلاق سراحه وطلب منه ترك العمل السياسي داخل موريتانيا ومغادرتها وأن هذا هو رأي الحكومة الفرنسية الذي طلبت منه أن يبلغه له" ، فتوجه إلى داكار حيث حظي بمؤازرة صديقه أمادو مختار انبو الأمين العام لمنظمة اليونسكو سابقا الذي كان يرغب في أن يجد له فرصة التدريس بجامعة داكار ثم توجه إلى فرنسا حيث وجد فضاء سياسيا حرا ومجالا مواتيا للتعبير عن أفكاره السياسية والفكرية..
الغربة والعمل الصحفي في خدمة النضال... و حركات التحرر...
برز أحمد بابه ولد احمد مسكه في فرنسا بوصفه أستاذا جامعيا متمكنا بجامعتي السوربون وباريس 8 و كاتبا متميزا له موقعه الكبير في مانشاتـ إحدى أبرز الصحف الفرنسية ، وداعما قويا للتيار الأممي الدولي المناهض للإستعما ر، وقد شارك بقوة في حركة مايو 1968بفرنسا حيث كان أحد خطباء هذا التيار وقادته البارزين ولذلك كان من ضمن مؤسسي جامعة باريس 8 المعبرة عن رؤى هذا التيار ،وتعتبرهذه الفترة من أغنى فترات العطاء السياسي والفكري والإعلامي للرجل ، إذ أسس فيها مع مجموعة من المثقفين الأفارقة والآسيويين والأربيين اليساريين مجلة أفريكا آسيا كما عرف الصحافة الأربية بمعاناة الشعبين الفيتنامي والكنبودجي من خلال تقارير صحفية كانت حصادا لرحلة قام بها إلى فيتنام وكنبودجيا اتسمت بالمغامرة والشجاعة ، كما قام برحة نضالية مشابهة إلى عمان ومنطقة القرن الإفريقي فعاش مع مقاتلي حركة ظفار ثم اتجه إلى المشرق العربي فزار لبنان كما ربط صلاة قوية مع العديد من المناضلين البارزين مثل ياسر عرفات وجرج حبش ونايف حواتمه والملك الكنبدجى فكان بكل هذا داعما لحركات التحرر العربية والآسيوية والإفريقية يكتب عنها ويعرف بها ضمن الصحف الفرنسية ويلتقي بزعمائها ويزورها في جبهات القتال .(يتواصل )
محمد الأمجد ولد محمد الأمين السالم
تصنيف: