كان يستمع لنا، قبل أن يفصح عن كونه تَعرَّف عليَ فور ما رآني وسمع صوتي، وأنه كان طالبا في الجامعة. وبينما أنا أتحدث مع رفيقي، قاطعني قائلا :
-"أنا أعرف ما ذا ستقوله، فلا داعي لمواصلتك الحديث، فسوف اشرح لكم كل شيء."
أشرتُ خفية إلى رفيقي بالسكوت والانصات. وحمدتُ الله في نفسي على أن محدثنا ربما ينقذني من عبْء أثقل كاهلي: أنا صراحة لم أكن أعرف تماما ما أتكلم عنه. وها هو منْ سيوضح لي ما غاب عني من تلك المسائل المعقدة التي أتعبُ في التفكير والبحث حولها منذ سنوات عديدة.
بدأ الشاب يتكلم بغزارة عن السماء والأرض وما يدور فيهما، وعن جائحة كورونا، وعن منطقة الساحل، والعالم، وافريقيا، والعرب... ونحن نستمع له ؛ وننتظر زجاجات الماء التي دفعنا ثمنها منذ دقائق طويلة.
نفد صبر رفيقي حين نظر إلى ساعته، وقال لعامل البقالة الثاني، الذي يبدو مسنا نسبيا وهادئا:
-"لم نأت لنكتشف تقنيات غزو الفضاء ولا لنخوض في النظريات الجيوستراتيجية ولا علم الأوبئة... أعطنا البضاعة التي دفعنا ثمنها. فنحن على مقربة من بداية حظر التجول، وما زال أمامنا مشوار طويل."
ثم وجَّه إليَ اللوم، عندما خرجنا من المحل التجاري:
-"كتاباتك ومداخلاتك على القنوات التلفزيونية سوف توقع بك في مأزق أعظم من هذا. وتدفع بآخرين مثل هذا الشاب إلى متاهات ونقاشات لا طائل من ورائها."
لم أرد عليه. بل سارعت مثله إلى ركوب السيارة. ثم انصرفنا، وأنا أتصور أنما دار بيننا مع ذلك الشاب قد تُبنى عليه مسرحية، أو قصة أو رواية خيالية، تعالج ظاهرة التحذلق المنتشرة بين مواطنينا : أيا كانت مستوياتنا التعليمية او كفاءاتنا الفكرية، فنحن ميالون إلى التظاهر بالمعرفة.
البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)
تصنيف: