أنهيتُ للتو، بكسل قاريء متقاعد، رواية "لغز انجيل برنابا" للكاتب والدبلوماسي الأخ محمد السالك ولد ابراهيم ، وهي جديرة بالقراءة بنظري لأسباب عديدة.
لقد تعمّد الكاتب إستخدام تقنية الراوي الغائب أو العالم بكل شيء، وهي تقنية لاتخلو من ديكتاتورية ولكن من مخاطرة أيضا، ذلك أن الرواي الوحيد الذي يروي من خارج الرواية ويحكي نيابة عن الشخوص يكون هو المتحكم، والأمور نسبية هاهنا، في مسارات الشخوص، بحيث يكون أقرب للوصي على تلك الشخوص الورقية من حيث نقل رؤاها وتحليل انطباعاتها، لكن المخاطرة تكمن دائما، وهذا مالا يعيه الكثير من الكُتّاب، في تلك الحرية التي يتمتع بها الكاتب في السرد والنقلات والتي قد تجعله يدخل متاهة بلانهاية عندما يخفق في العودة من نقلة ما إلى متن الحكاية.
ميلان كونديرا وغارسيا ماركيز من الكتّاب القلائل، بنظري، الذين نجحوا في الكتابة بهذه التقنية دون أدنى ترهل، ولعلهم ومعهم كاتبنا محمد السالك يؤمنون،بتصرف في رأي جورج كليمنصو الشهير، أن الرواية أخطر من أن تترك للشخوص.
وكخلاصة لقد نجح كاتب"لغز إنجيل برنابا" ،حتى وهو يكتب بأسلوب يحتاج إلى الكثير من التجريب، في التحكم في مسارات السرد بحرفية وفي عمله الروائي الأول.
تحكي الرواية قصة سرقة النسخة الأصلية من إنجيل برنابا من إحدى المناطق الأثرية في آدرار وتتبع الانثروبولوجي والبحّاثة الموريتاني حامدون، الشخصية المحورية في الرواية، لمصيره، وذلك إعتبارا لكونه الباحث الرئيس في مكتبة قصر هوفبرغ بفيينا، مكتبة آل هابسبورغ أو المكتبة الوطنية النمساوية، والتي كلفت الباحث بإيجاد النسخة الأصلية لعرضها كفتح معرفي بمناسبة إحتفالات الذكرى 650 لإنشاء المكتبة.
هذا الإنجيل الذي تفترض الرواية أنه النسخة الأصلية الغير محرفة من الكتاب الذي أُنزل على عيسى عليه السلام، والذي يبشر برسول يأتي من بعده إسمه أحمد، عليه الصلوات والسلام، كما ينفي عنه الأولوهية ، والذي سيتم بيعه من طرف مرشد سياحي بحفنة أوروهات لسائحة فرنسية بآدرار، سيكون عرضة لبحث وتنافس حثيثين من جهات ودوائر سياسية ودينية عديدة في العالم، والأحداث هنا وإن كانت تذكر القاريء بسرديات مماثلة لدان براون، إلا أن الرواية تفرّدت بزاوية معالجة مغايرة، من خلال تقصّد الكاتب لطرح إشكالية المركز والأطراف.
قد يتساءل القاريء عن السر وراء وجود إنجيل قديم في منطقة أثرية بموريتانيا، وهنا سيقدم الكاتب تأصيلا محكما لحكاية هذا الإنجيل من خلال تقديم قراءة متقنة لتاريخ البلاد منذ العصور الغابرة من خلال تتبع سيرورة تشكل الوجود البشري في هذا الفضاء وظهور الأديان السماوية الثلاثة تباعا تبعا لظروف ومؤثرات متباينة، وهنا تربط الرواية هذا الأنجيل اللغز بالوجود المسيحي بموريتانيا وبإفريقيا عموما والذي سبق، حسب الرواية، تنصُّر الإمبراطورية الرومانية!
أعتقد أن الكاتب قد وفق في عرض سيل من المعلومات التاريخية التي تترك القاريء في مواجهة مع الكثير من الأسئلة بعد أن يتجاوز دهشة الاكتشاف الأول، مع أنه الحس العلمي يفترض الأخذ بالمعلومات التاريخية المقدمة في الرواية بحذر شديد، حيث يختلط التاريخي بالمتخيل في هذا الصنف من الروايات، وتظهر جدارة الكاتب كلما عجز القراء عن تمييز التاريخي عن المتخيل، وهو مايحدث في هذه الرواية كلما تقدمت فصولها.
ولعل الناشر كان دقيقيا عندما كتب على غلاف الرواية: حدثت وقائع هذه الرواية أم لم تحدث، فإنها بواقعيتها الفيّاضة، جعلت الرواية نوعا من تاريخ، والتاريخ نوعا من رواية.
من فيينا إلى أطار فباريس، ثم مارسيليا فسانت تروبيز بالكوت دازور، إلى مراكش فنيويورك، ثم أسطنبول فروما، لاينسى الكاتب تقديم لمحات شاعرية عن تاريخ وناس تلك المدن، وقد يخيل إليك أنه إما عاش سنوات طويلة في كل مدينة على حدة، أو لعله حضّر جيدا للكتابة عن هذه المدن بالقراءة عنها وعن معالمها.
مع أن الشيء الأكيد هو أن الكاتب لم يعتمد على ثقافته الواسعة، ولا على ذاكرته عند كتابة الرواية فحسب، بل أعد جيدا للكتابة من خلال البحث والتمحيص، جريا على عادة درج عليها الكُتّاب الذي كتبوا أو يكتبون ما يستحق القراءة.
تقع الرواية في 432 صفحة؛ وصدرت عن دار "إي-كتب E-Kutub"، لندن عام 2018.
المصدر: من صفحة الحاج ولد الحبيب (فيسبوك).
تصنيف: