طرحت هذا التساؤل لقلة معلوماتي عن الأقسام والعلوم المدرسة في هذه الجامعة المتخصصة في تدريس العلوم الإسلامية، وإن كنت أدرك أنها لا زالت جامعة حديثة النشأة، وأنها لا زالت تركز على المناهج المتعلقة بمصادر التشريع الإسلامي كأقسام القرآن وعلومه تفسيرا ورسما وتجويدا، والحديث الشريف والسيرة النبوية، واللغة العربية وغير ذلك من العلوم الخادمة والمرتبطة بمصادر التشريع.
لكن الإسلام ليس فقط مصادر تشريع، وإن كانت تلك المصادر هي جوهره وأول ما يجب على المسلم تعلمه منه، فالإسلام أيضا تاريخ وحضارة وقيم، وانتشار في الأرض ومشي في مناكبها، وتفكر في خلق السماوات والأرض وتعاقب الليل والنهار بنورهما وظلامهما، وتأمل في الطبيعة بألوانها وظلالها وبحارها وأنهارها وغاباتها وجبالها.. وكل ذلك من أجل الوقوف على وحدانية الخالق وقدرته، ومن هذه المناظر والمظاهر والظواهر استلهم الإنسان الكثير من الفنون التي سبقت الإسلام لدى الأمم والشعوب الرومانية والبيزنطية والساسانية.. فورثها المسلمون واستجلبوها عبر الفتوحات، فطوروها وألغوا ما يتعارض منها مع العقيدة الإسلامية مبقين على جمالياتها الأخرى من الزخارف والزركشات والفسيفساء والنمنمات، وأعمال النقش على الفضة والنحاس، وتطعيم وتعشيق الأخشاب والحفر والنحت عليها، والثريات الزجاجية المضيئة، بالإضافة إلى الفن المعماري بأعمدته وأقواسه وأشكاله الهندسية الرائعة.
وبحكم بعدنا عن مناطق نشأة وازدهار الفن الإسلامي في المشرق، وعدم تأثرنا بما نشأ منه بالقرب منا في المغرب والأندلس بسبب البداوة وغياب التمدن والاستقرار، فقد جعلنا ذلك نهمل هذا الفن الرائع والمدهش حتى لغير المسلمين ممن أعجبوا به ودرسوه وحاولوا اقتناء نفائسه وآثاره بشتى الطرق بما في ذلك السرقة والتهريب، نحن أيضا نندهش ونفتتن بهذا الفن ونقتنيه في صورة قطع السجاد المستوردة بألوانها ونمنماتها ورسوماتها، وفي صورة حلي ومجوهرات وأوان وتحف، ومن يبني منا بيته اليوم دون أن ينقش ويزخرف سقفه وأعمدته ومدخله يصبح وكأنه لم يبني بيتا..
وعلاوة على جماليات الفن الإسلامي، فإنه كذلك فن كغيره من الفنون الأخرى كالرسم والموسيقى والشعر والقصة والتمثيل.. التي ما خلقت عبثا ومخطئ من يظن أنها مجرد لهو، ويجهل أو يتجاهل أن كل فن من هذه الفنون هو حالة من حالات الرقي الإنساني، وعامل توازن بين المظاهر الروحية الداخلية للإنسان مع الجوانب المادية في حياته، فالفن وسيلة من وسائل إخراج الآلام والمشاعر والأحاسيس الداخلية الكامنة في الروح الإنسانية..
من روائع الفن العربي والإسلامي التي نهملها ونجهلها أيضا، فن الخط العربي الذي أبدع فيه مشاهيره وطوعوا الحروف لرسم لوحات يسرح فيها بالك ويلهيك جمال وتداخل وألوان حروفها عما أراد صاحبها التعبير عنه من خلالها.. وفي بلادنا هناك هواة لفن الخط العربي، لكنهم مجرد هواة شدهم جمال هذا الفن فحاولوا محاكاته ولكن ذلك كان في غياب لأي مدارس أو معاهد لتنمية القدرات وتدريس أصول ومبادئ الخط العربي، حتى مادة تحسين الخط التي كانت موجودة ضمن المناهج التعليمية الوطنية في السبعينات والثمانينات، عبثت بها أيدي العبث بهذه المناهج ضمن ما عبثت به منها عبر التغييرات العمياء والمتخبطة المتتالية!
صحيح أن لنا فن عمارتنا وزخارفنا المطبوعة بطابعنا الصحراوي، وأن لنا كذلك خطنا الاندلسي الذي استخدمناه في مخطوطاتنا، ومن المهم المحافظة على هذه الفنون ونشرها وتثمينها كغيرها من فنوننا وتراثنا، لكن من المهم أيضا أن نفتح الباب على مصراعيه أمام الجمال، وأن نعفيه من رسوم التأشيرة والدخول.. فكل فن وراءه عبقرية وخيال وإبداع، وكل فن لا يتعارض مع الدين والقيم فهو فن جميل. والفن الإسلامي الذي أتساءل عن وجود قسم له في هذه الجامعة من عدمه، لا أريد تدريسه من أجل الإلمام به كمادة تاريخية فقط، وإنما تدريسه بهدف إدخاله كفن ممارَس وثقافة لصيقة بوجداننا الديني، ولن يكون ذلك إلا من خلال استجلاب والتعاقد مع متخصصين في هذا الفن تدريسا وتطبيقا.
محمدو ولد البخاري عابدين
تصنيف: