في بلادنا - ولله الحمد- وفي العالم العربي والإسلامي، يوجد ملايين العلماء والشيوخ، وملايين السياسيين، وملايين "الإسلاميين"! ولكننا لا نطمئن إلا إلى النزر القليل منهم، ونضيق ذرعا بالباقي، لأسباب موضوعية ووجيهة؛ هي عدم تطابق الصفة مع الموصوف!
كانت مدرستي السياسية الأولى ما قرأته في مدينة سان لويس للأستاذ محمد رشيد رضا عن شيخيه وشيخَيَّ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. ويمكن تلخيص نهجهما الفكري الوطني والأممي الإصلاحي الحداثي في خمسة أبيات أقتطفها من قصيدتين من شعر محمد عبده، هي على التوالي:
أحاول الصعب في رأيي فأدركه ** ولا حـسام ولا رمـــح أرويـه
وإنما الفكر يغني نفس صاحبه ** عن الجيـوش إذا صحت مباديه
مجدي بمجد بلادي كنت أطلبه ** وشيمة الحر تأبى خفض أهليه.
******
ولست أبالي أن يقال: محمد ** أبل، أم اكتظت عليه المآتــــم
ولكنه دين أردت صلاحــه **أحاذر أن تقضي عليه العمائــم.
وقد كان شيخي وصديقي الشيخ محمد سالم ابن عدود كثير الاستشهاد بهذه الأبيات في مجاليها!
ولكن هذه المدرسة التنويرية العظيمة تم تعطيلها والقضاء عليها من طرف المستعمر وأعوانه؛ لتحل محلها المدرسة الإخوانية الجهادية. والعملة الرديئة تطرد العملة الجيدة.
وبعد علاقتي بمدرسة الشيخين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والتعلق بـ"عروتهما الوثقى" قدر لي أن أواكب في مستهل الستينيات مراحل نبوغ الشيخ محمد سالم ولد عدود، وأجالس الشيوخ الأجلاء: المناضل نعيم النعيمي حامل رسالة بن باديس واتحاد العلماء المسلمين الجزائريين، والفاضل بن عاشور مفتي الديار التونسية (زار موريتانيا مع الرئيس الحبيب بورقيبة) ومحمود شلتوت شيخ الأزهر الشريف (زار موريتانيا في أول وفد مصري تشرفَتْ باستقباله) وآبه ولد اخطور وهو غني عن التعريف! وقد ترك كل واحد من هذا "اللفيف" المبارك أثرا كبيرا في نفسي لا تمحوه الأيام!
وبعدئذ تتابعت دورات التصحر الفكري والجشع فلم تترك شجرة إيمان وارفة الظل يركن إلى فيئها! إلا من رحم ربك من أمثال المرابطَيْن الحاج ولد فحفُ رحمه الله، ومحنض بابه بن امين أطال الله بقاءه!
ومنذ أيام أرسل إلي الدكتور أحمد مولود شريطا مصورا يحوي تأبين الشيخ عبد الفتاح مورو رئيس برلمان تونس ونائب رئيس حزب النهضة ومرشحه لرئاسة تونس، لصديقه وخصمه السياسي والأيديولوجي الرئيس باجي قائد السبسي رحمه الله، فاطلعت عليه وبادرت بتفريغه في نص مكتوب، ها أنا أنشره للناس ليتعلموا من خلاله التمييز بين الطراز الأول الأصلي وبين العلاَمَة المقلدة المغشوشة!
تلك المكارم لا قعبان من لبن ** شِيبا بماء فصارا بعد أبوالا.
ورغم أنني قد أصبحتبسبب سوء أساليب وأهواء بعض الإسلاميين الذين عرفتهم أمتنا منذ قرن تقريبا، من أبعد الناس منهم، بعد أن كنا في خندق الوطن والأمة خلال العشريتين قبل الأخيرة؛ فإني لأشد على يدي الشيخ عبد الفتاح مورو، وأزكيه فصاحة وفكرا وسياسة وأدبا، وأنوه بأمثاله من رجال الدين والسياسة والأدب واللغة، إن وجدوا، ولو كنت تونسيا لوضعت "الباء" في الخانة المقابلة لاسمه يوم الاقتراع، لأنه رجل دولة، يقدر المسؤولية، ويؤمن إيمانا راسخا بالديمقراطية، ويعترف للغير بحق الاختلاف؛ خلافا لما هو منتشر في عالمنا العربي والإسلامي من صنوف الجهل والتعصب والتكفير المتكئ - بوعي أو بغير وعي- على الاستعمار والصهيونية والرجعية، والمتهافت على الغنيمة.
نص التأبين
يا باجي، يا سي الباجي، يا بجبوج، يا أستاذ الباجي، يا سيدي الرئيس.. ناديتك بالألقاب التي أعلمها، والتي تنادى بها كامل حياتك، ولكنك - على خلاف العادة- لا تجيب.
عرفناك محاورا، هاشا باشا في وجوه الذين يكلمونك، لكنك اليوم لا تجيب. هل أخطأت موقع ندائك يا باجي؟
لا أتصوّر أني إذ أدعوك بالبرلمان - وأنت عضو به- لست صائبا في اختياري، ألم تكن رئيس هذا المجلس؟
يا باجي، أبحث عنك في باب الأقواس. أبحث عنك في سيدي بو سعيد. أبحث عنك في نهج القعّادين. في سوق جزارة. في السوق المسقّف. أبحث عنك في الصادقية. في دي جون.. أبحث عنك في السربون. أبحث عنك في قصور الملوك. ألست قد عايشت أربعة ملوك؟ أبحث عنك في قصور الرؤساء. ألست أنت الرئيس الرابع؟
آه يا باجي أتعبتني. يا باجي أتعبتني، وأتعبت الذين عايشوك. أتعبتنا لا لأنك متعب، وإنّما لأنا لم نستطع أن نحيط بشخصيتك.
من أنت يا باجي؟ أنت سليل المخزن التونسي، أم أنت حبيب الفقراء والمساكين، والحمّالة الذين كانوا يجلسون في أوّل نهج القعّادين؟ أنت - يا باجي- من أبناء "الكارتيه لاتان" أم أنت من روّاد العباسية وقهوة الطاهر زرقاء؟
يا باجي، هل أنت ابن الصادقية؟ أم أنت الذي يعلم شعر لبيد والحطيئة والنابغة الذبياني؟ أأنت من قارئي "مونتسكيه" أم أنت تلميذ الحبيب بورقيبة؟ نعم، أنت كنت تلميذه، ولكنك خرجت عليه عشرة أعوام. غادرت الحزب الدستوري، وتفرّغت للدفاع عن الديمقراطية، وكتبت افتتاحيات عديدة في جرائد المعارضة، كانت تُقرأ بكل اهتمام.
يا باجي، هل أنت ورقة من صندوق قديم جيء بها؟ أم إنك منشئ عهد حديث طبعته بطابعك؟ يا باجي، أنت رجل الدولة، وأنت الذي حمى الدولة، وأنت الذي كان يجري وراء الدولة حتى لا تتفتت الدولة.
كل تنقلاتك حفاظا على كيانها، رفعا لهمتها. دخلت عندما كان الدخول واجبا، وخرجت عندما كان الخروج مفروضا.
نشهد لك أنك كنت رجل الدولة، ونشهد لك أنك ناضلت من أجل حقّ الإنسان في الديمقراطية وحق الفرد في أن يعبّر عن نفسه، وأنت الذي آليت على نفسك أن لا تقمع صحافة تضحك منك. وأن لا تمنع قلابس كانت تأخذ صورتك. ولا أن تسكت "سايس خوك" الذي كان يتناولك.
لأنك آمنت بأن حق الإنسان في التعبير حق مقدس، وأن دواليب الدولة التي بين يديك جعلت لتحفظ هذا الحق لا لتقمعه. صادقت النهضة، وعاديتها كما كان يفعل كل سياسي. وفرحت وغضبت ومدحت وشتمت، لأنك تونسي مثل التونسيين، والذين خرجوا لتوديعك كان كل واحد منهم ينظر في كتاب عنوانه "تونس" يفتّش عن صفحة من صفحات وجهه فيها ويجدها مقترنة بوجهك.
أنت اقترنت بنظام الاستقلال والجمهورية، ودافعت عن الاستقلال والجمهورية. وشعرت أن بناء المؤسس يحتاج إلى تكملة فقمت بها. وكنت بذلك منشئا لا تابعا، لأنك لم تجد في إرثه ما يساعدك على إتمام البناء، فأعدت البناء.
إذن أنت - يا باجي- اليوم شخصية لا نسطيع اللحاق بها. الذين ذكروك من أصدقائك، والذين ذكروك من مخاصميك، والذين وقفوا في الشمس، يتبعون ظل جنازتك ليسلموا عليك.
كان الكثير منهم يسلّم عليك اختيارات لم يكن لك في الكثير منها ضلع، ولكنك دستوريا تحمّلت مسؤوليتها ولم تهرب وأصررت على أن تبقى حاضرا مع الدولة منذ قيامها، وطيلة ستّين عاما لم يفت في عضدك الذين أبعدوك، ولا الذين سبّوك، ولا المرض الذي تناولك، ولا الشيخوخة التي هدّتك، لأنك تؤمن بالقضية، ولم تسلم روحك إلا يوم اقترن اسمك بالجمهورية التي دافعت عنها.
ليس ذلك من الصدفة؛ بل ذلك لأنك أردت أن توصينا، ووصيتك لنا كانت: "حافظوا على الجمهورية التي بنيناها جميعا". نحن على خط الوفاء مع الجمهورية، هي عزّنا، هي مجدنا، وصيانتها هدفنا. ووسيلتنا لذلك وحدة صفّنا حتى لا نختلف حول وطننا. وسيلتنا في ذلك أن يبقى رائدنا - دائما وأبدا- أن يبقى شعب تونس مستقلا ذا سيادة، وأن لا يتطرق أحد إلى قرارنا؛ لا من داخلنا عميلا، ولا من خارجنا متطفّلا.
نعم، أنت سددت الثُّلَم دون أولئك الذين تعوّدوا أن يمرقوا منها للأجسام فينخروها، وللأبنية فيأكلوها. ولكنك صمدت وثبتّ بقدر ما حافظت على كيان وطنك في فترة الفوضى. وعندما انعدمت المرجعيات وأصبح كل يدّعي وصلا بليلى، وأصبح كل يدّعي لنفسه مركز الاهتمام الأساسي، جئت لتقول إن حدودنا هي حدود الدولة، وأرجعتنا إلى مكاننا، ومن هناك نحن نقيس.
أنت الذي حفظت كيان التجديد والبناء. حفظت لنا أن لا نداس في قرارنا، وأن لا يعتدي علينا صاحب مال يفخر بماله، ولا صاحب زهو يفخر بقوّته، لأن الجميع أمامك أصفار ما دمت مصلحة الوطن هي المقدّمة.
يا تونس الخير يا عزّي ويا تاجي ** إني دعوت بقلب المؤمن الرّاجي
حزنا أعزيك في خطب ألمّ بنا ** إذ قبضة الموت مثل المظلم الداجي
في القائد الفذّ يوم الشعبُ ودّعه ** في وحدة الصف أفواجا بأفواج.
فطن حكيم كريم الخُلق ذو أدب ** سمح السّجية دو فهم ومنهاج
قد قدّم العمر إخلاصا لموطنه ** رحم الإله رئيس بلادنا الباجي.
يا باجي، أنت تعلم أننا لا نعبد الأحياء، ولا نعبد الأموات. نحن نعبد ربّا واحدا ولدينا قيم واحدة تحدونا.
تعلم - يا باجي- أن الناس يولدون ليموتوا. {إنّك ميت وإنهم ميّتون} ولكن بعض الناس يموتون ليعيشوا. وأنت من الذين يموتون ليعيشوا، ودليل ذلك أن جوارح القلوب، وجوانح النفوس، والأصدقاء وغيرهم وقفوا لتقديرك وتحيّتك.
ستبقى أثرا، لكنك أثر مؤثّر. وستبقى في نفوس الذين عرفوك، والذين سيقرؤون عنك. وستبقى في تاريخ الجميع أملا نحو معاصرة قادمة لا محالة، ونحو أمل يرفع كيان الإنسان ويعزّ المرأة والرجل.
لا أقول لك وداعا؛ فنحن لاحقون، ولكن نقول لك: حاسبنا ونحاسبك عند الإنجاز لصالح هذا الوطن.
تصنيف: