مواقف لا تنسى أبدا
* العدوان الإسرائيلي على مطار بيروت
وفي 28 ديسمبر 1968 اعتدت إسرائيل على مطار بيروت فدمرت أسطول شركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية، دون أن تتكبد عصابات العدوان أي خسارة، فنكأ عدوانها جراحنا النازفة أصلا؛ فتضامنا مع إخواننا في سفارة الأرز في مصيبتهم الوطنية.
ومن بين فعاليات ذلك التضامن قصيدة سلطت الضوء على الخلل السياسي والاجتماعي القائم في بلداننا العربية حيث كاد ينعدم يومئذ دور شعوبها في صراعنا المصيري مع العدو الصهيوني الأمريكي الغربي! لقد استشرفت تلك القصيدة - رغم ضياع جلها- مدى قوة وقدرة الشعوب الحية على مقاومة العدوان وصنع المعجزات وانتزاع النصر على الغزاة والمحتلين. وقد صدق هذا التنبؤ في بعض البلدان العربية مثل مصر والعراق وسوريا وفلسطين، وفي لبنان بالذات (دون غيره) الذي تتحدث عنه القصيدة، والذي كان مستباحا يومئذ فأصبح اليوم المثل الأعلى الناصع لما ذهبت إليه القصيدة من تثمين قوة الشعوب! إذ ها هو يقدم اليوم للعالم كله أوضح وأبلغ برهان على ذلك حين أصبحت المقاومة اللبنانية المنبثقة من الشعب - رغم صغر حجم بلدها- هي الطرف العربي الوحيد الذي هزم إسرائيل مرارا وتحدى جبروتها، وخلق معها توازن رعب جعلها تهابه وتخشاه وتضع له ألف حساب وحسابا.
ولقد ظلت هذه القصيدة عبر الزمن محفوظة في مقتنيات الأستاذ أحمد مخدر؛ لكننا لما أردنا طبع ديوان "أغاني الوطن" باقتراح منه وتمويل سخي، لم نعثر عليها بسبب رحيل الأسرة إلى منزلها الجديد العامر. وهذه أبيات منها تم اعتصارها من الذاكرة، وهي مربط الفرس:
لبنان يا جزءا صغيــ**ــــرا ضائعا من موطنـــــي
لبنان يا شعبا ضعيــــ**ـــفا راكعا في جحره المتعفن
................. ** ........................
................... ** .........................
هذي هزيمة حكمكم ** حكم المرابي والغني
ليست هزيمة شعبنا ** فشعوبنا لا تنثــــني.
* قيامة سميدع الثائر اليساري في مصنع بالسنغال
كانت سنوات 1971 و 1972 من أقسى سنوات النضال الوطني في موريتانيا ضد الاستعمار الجديد والاستلاب والرجعية والعبودية. وكان لا بد فيهما من التأسيس ووضع المعالم، ثم رفع التحدي وكسب معركة كسر العظم المحتدمة بين الحركة الوطنية الخارجة حديثا من العباءة القومية (بشقيها) إلى فضاء الوطنية والعالمية، وبين نظام ما يزال يسيطر فيه الجناح المحافظ المتعنت على مفاصل الدولة، ويراهن على تسفيه ودحض أحلام الشباب الصبيانية، وقهر الحركة الوطنية الديمقراطية الصاعدة.
وفي تلك الأثناء أطلت ذكرى رحيل سميدع القائد الشبابي البطل الذي يجسد كل القيم التي تنادي بها الحركة الوطنية الجديدة. كان النظام يريد ويعمل على طمس قيم سميدع، وكانت الحركة تريد نشرها؛ فمن - يا ترى- سيكسب رهان صراع الإرادات؟! لا بد من تخليد ذكرى سميدع رغم ضعف الإمكانيات، ورغم كون الحركة لم تمتلك بعد أجهزة نشر آمنة! كتبنا كتابا عن سميدع ورقناه على الورق المشمع. ولكن كيف يتم سحبه كي يرى النور؟ توجهنا من جديد صوب سفارة الأرز نريد آلة سحب ومكانا آمنا! كنت يومها مختبئا في غياهب السرية والمطلوب رقم واحد لأجهزة النظام القمعية! وكان أحمد مخدر (الأستاذ أحمد) قد غادر دكار عائدا إلى لبنان حيث التحق بالجامعة هناك. لكن الأخ الطالب محمد ولد لمرابط (الطالب في جامعة داكار) ظل على اتصال بسفارة الأرز، وعندما فاتح الإخوة في الموضوع تصدى للقيام بالمهمة الرئيس المدير العام سعيد فخري رحمه الله؛ فأشرف بنفسه - هو وزوجته دنيا- على تنظيم العملية فهيآ للأخوين بدن بن عابدين والطالب محمد ولد لمرابط مكانا آمنا في مصنع الصابون يوم عطلة الأسبوع. فبدآ السحب. وحوالي منتصف الليل جاء سعيد نفسه وزوجته دنيا يحملان ما لذ وطاب من القرى إلى زميلينا فوجداهما قد أنهيا عملهما فأوصلاهما إلى حيث يريدان! ولم نحتج بعدها إلى غير؛ بل أنشأنا مراكزنا الآمنة تحت الأرض؛ وذلك بإشراف وحدة المهمات الخاصة التي قادها بنجاح الزميل بدن ولد عابدين طيلة سنوات الجمر العجاف!
وفي عشية الذكرى الأولى لرحيل رمز النضال وأيقونة الثورة على الاستعمار الجديد والرجعية والعبودية - سميدع رحمه الله- تم توزيع الكتاب في جميع أنحاء البلاد رغم أنف أجهزة القمع التي جن جنونها وطأطأت رأسها اعترافا بالهزيمة!
وقد تصدرت الكتاب صورة مطبوعة بهية لسميدع وقصيدة شاعر موريتانيا الكبير المناضل الأستاذ أحمدو ولد عبد القادر الخالدة البديعة التي رثاه بها، ومنها يتحدث عن شيمه ويهيب بالشباب أن يأخذوا المشعل من يده:
وكان حرا نقي العزم متــــخذا ** عــــلى مبــــادئه بالبذل برهانا
يجود بالنفس مرتاحا ومغتبطا ** ويوسع الذات عند الجود نكرانا
براءة الطفل تحنو فوق بسمته ** إن كــــــان يألف إخوانا وخلانا
وصولة المارد الجبار عادتــه ** إن ثار يفـــضح تدليسا وطغيانا
قل للطلائع إذ ترثي سميدعها ** والــــرزء أثقل من أجبال تاگانا:
لا تمنــــــحوه رثاء لا يلائمه ** دمــــعا وخــوفا وإشفاقا وإذعانا
قد كان يأمل، والتصميم شيمته ** أن تصبحوا لسماء المجد عقبانا
فلتأخذوا المشعل الخفاق من يده ** ولتملؤوا الدرب إقداما وإيمانا.
... ولقد كان لشاعرنا الفذ ما أراد! إذ تحقق توقعه فانتفض الشباب الموريتاني الرائع بقيادة طلائعه الشجاعة انتفاضة رسخت نفوذ الجناح الإصلاحي في السلطة بدخول كوكبة من الشباب حملة الشهادات العليا إلى الحكومة (جماعة التكنوقراط) وعصفت بالاتفاقيات الاستعمارية المذلة، وفرضت الخروج من الاتحاد النقدي الإفريقي الفرنسي وإنشاء عملة وطنية هي الأوقية، وترسيم اللغة العربية والنهوض باللغات الوطنية الأخرى، وتأميم شركة ميفرما التي كانت تحكم موريتانيا، وإصدار عفو عام شمل كافة السجناء والمطلوبين السياسيين، وإنهاء مأساة سكان أحياء الصفيح بتوزيع الأرض عليهم مجانا (المقاطعات الأولى والخامسة والسادسة) وانتهاج سياسة اجتماعية في مجالات التعليم والصحة والأمن الغذائي، وتوحيد الأمة حول ميثاق يلغي استغلال الإنسان للإنسان (الرق)! فلم تشرق شمس الذكرى الخامسة عشرة للاستقلال الوطني إلا وموريتانيا متصالحة مع نفسها وقد كسرت سلاسل وأغلال الاستعمار الجديد والرجعية والعبودية، وأعطت استقلالها كل معانيه ووضعت أسس نهضة شاملة:
هللي موريــــــتاني ما ذاك إلا ** ومضة من سراجك المتـــلالي
هللي يا بــــــلاد ما نحــــن إلا ** قطرة من معينك السلـــــــسال
وابشري صفقي لوثبة نبــــــع ** ظل يسقي مواكب الأجــــــيال
حاول الغرب حبسه ذات يــوم ** عن مجاريه عبر هذي الرمال
فانبرى يمضغ السدود ويجري ** لا يبالي بشــــــأنها لا يـــبالي
وتسامى أصالة وشمــــــــوخا ** في رحاب الخلود ثر النــــوال..
تصنيف: