الاعتراف... "أنت سخي جدا في أجوبتك المكتوبة، حتى إنك كتبت الكثير عن (خط أسود عريض) الذي لا تعرفه في الواقع، قال لي (خط أسود عريض) بالحرف ناسيا أنه منعني من قول "لا أعرف"!! "299.
"الاعتراف سيد الأدلة." قول سائر يترجم أهمية الاعتراف في أي خلاف، لأنه يترجم هزيمة إرادة وانتصار أخرى دون الذهاب بالخلاف إلى غاياته القصوى على طريقة قابيل وهابيل. فقد كانت الخلافات تحل بالإلغاء، إذ لا يتسع ظاهر الأرض لإرادتين مختلفتين، إلى أن وجدت صيغة قائمة على الاعتراف تقضي بأن يتخلى المنتصر عن قتل المهزوم مقابل أن "يعترف" الخاسر بالهزيمة، في ما سماه هيغل "جدل العبد والسيد". فقد قبل المهزوم هبة الحياة من المنتصر مقابل فقد حريته وخضوع إرادته؛ فغدا المنتصر سيدا والمهزوم عبدا. بذلك أسس "الاعتراف" لحل وسط تقوم فيه الكلمة مقام الفعل؛ فلم يعد المنتصر مضطرا لقتل الخصم دليلا على انتصاره الذي لا يدوم سوى لحظات قليلة، وإنما يبقي على حياة المهزوم شاهد إثبات، على المدى الطويل، على انتصاره. ويجد المهزوم فرصة أخرى لاسترجاع حريته المسلوبة. ذلك ما عبر عنه هيغل بقوله إن العبد يتحرر بالعمل، بينما يصبح السيد الذي هجر العمل عبدا...
شيء قريب من هذا حدث في تصور "الجريمة والعقاب"؛ فقد سلطت العقوبات في البداية على الجسد بوصفها انتقاما يسترجع به المنتقم ما سلب منه ماديا أو معنويا على مستوى العلاقات بين الأفراد (شايلوك...تاجر البندقية). وحين ارتقى التنظيم الاجتماعي حلت العقوبة محل الانتقام بوصفها تكفيرا عن خطيئة. هنا اتخذت العقوبة طابع التطهير الذي يتخذ الجسد قنطرة إلى الروح. في هذا التصور كان الجسد يتعرض للعذاب في عالم الشهادة لتنعم الروح بالسعادة في عالم الغيب... مع سيادة التصورات العلمانية للجريمة والعقاب ستدخل عناصر جديدة وتختفي أخرى؛ فقد حل المجتمع محل الآلهة، واختفى الاهتمام بالروح، فاستخدم الجسد مجازا لسلب الحرية وإخضاع الارادة، وحل الإصلاح محل العقوبة، لتصبح السجون "تجمعا وطنيا للإصلاح والتنمية" يعاد فيها تأهيل السجناء لاسترجاع حريتهم والتمتع بإرادتهم، وفقا لقوانين تجرم التعذيب...
لم تتطور "المعتقلات" في هذا الاتجاه، وإنما ظلت سراديب خارج القانون تديرها أجهزة أمنية تجمع المعلومات، ومستعدة لعمل أي شيء للحصول عليها. من هنا اختلاف المعتقلات عن السجون؛ في السجن يعاد تأهيل المدانين تحقيقا للعدالة، أما في المعتقلات فيعذب متهمون للحصول على معلومات تدينهم، وأخرى قد تدين غيرهم(غوانتانامو، أبو غريب، باغرام، وسجون CIA السرية)...
في حالة معتقل غوانتانامو جرى الاختطاف على الهوية. فقد وضعت الادارة الأمريكية "قائمة فحص للإرهابيين" تجلب كل من انطبق عليه أحد معاييرها الفضفاضة، أو بدى أنها يمكن أن تنطبق عليه في المستقبل؛ في الحالة الأولى لا بد أنه "شريك في المؤامرة"، وفي الحالة الثانية يمثل تهديدا لأمن الولايات المتحدة، وفي الحالتين لا بد من الاعتراف... والطريق إلى الاعتراف يشبه كثيرا "الطريق إلى القدس"...
"في المبنى بدأت الوصفة... جردت من كتبي، من قرآني ومن صابوني، ومعجون أسناني ومن لفافة ورق التواليت. أما الزنزانة- بالأحرى الصندوق- فكانت درجة الحرارة قد خفضت فيها إلى درجة أنني كنت أرتجف معظم الوقت... بكلمة واحدة كنت أعيش في الارهاب. لم أذق طعم النوم سبعين يوما على التوالي: كان التحقيق جاريا على مدى الأربع والعشرين ساعة... لا أتذكر أنني نمت ليلة واحدة بهدوء..."243.
أهلا بكم "...في (خط أسود عريض) الذي كان مصمما للتعذيب... عندما دخلت المبنى كان خاليا من كل مظاهر الحياة."24
محمد اسحاق الكنتي
تصنيف: