تأسس اكصر تجكجة التاريخي قبل ثلاثمائة وسبعة وخمسين عاما على يد جماعات هاجرت من شنقيط سنة 1660م وبذلك تكون تجكجة من أوليات الجيل الثاني من المدن التاريخية الموريتانية التي لا تزال مأهولة.
وعلى غرار مثيلاتها من محطات القوافل التي كانت تجوب المجال الصحراوي منذ آلاف السنين، بنيت تجكجة حول منهل "احسي تورجة" القديم حيث كان ربابنة قوافل الصحراء يرتادونه للسقاية وراحة الرواحل قبل أن يستأنفوا من جديد رحلاتهم الشاقة والمشوقة في آن واحد. وكأن لكصر القديم ورحلات القوافل تجسد إرادة البدو الرحل في تفنيد الأسطورة العتيقة القائلة بأن الصحراء سد منيع لا يمكن اختراقه. وفي العصور الحديثة، ظل اكصر تجكجة يوفر إطارا لديمومة التبادلات بين المناطق المغاربية وبلاد السودان التي ما فتئ المؤرخون والرحالة العرب القدامى، من الفزاري إلى ابن خلدون مرورا بالبكري، يعتبرونها نشاطات محورية في ازدهار وانحطاط الحضارات الصحراوية.
لقد تم تشييد "القديمة" على النمط المعماري للحواضر المغاربية القديمة، مبرزة سحر المدائن الأخاذ والبنية الوظيفية للقصبات, باعثة بذلك، وفي قلب المجال البدوي، بيئة مدنية لا تخلو من الغرابة في مثل هذه الأوساط.
إنها تحمل بعدا حضاريا تاريخيا لا مراء فيه، إذ تروي لنا تاريخ السكان منذ أزيد من ثلاثة قرون ونصف ووسطهم وعبقريتهم ونشاطاتهم التي كانوا يمارسونها لكسب عيشهم. فمساكنها المتراصة تذكرنا بالهاجس الأمني الذي ظل يشغل بال السكان أيام غارات النهب والسطو؛ وشوارعها الضيقة المتعرجة تتجه كلها نحو المسجد مبرهنة على المكانة الجوهرية التي يحتلها الإسلام في حياة أهلها ؛ ومحطات القوافل فيها بعدد الجهات الأربع تشهد لها كسوق للتبادلات التجارية وكنقطة توقف لا غنى عنها على طريق القوافل التي تجوب الصحراء في كل الاتجاهات.
وماذا نقول عن "الدويرة"، تلك الجامعة الواحاتية الفريدة من نوعها والتي كونت أجيالا كاملة من العلماء والقضاة وأشياخ الصوفية، من موريتانيا ومن بلدان إفريقية الغربية المسلمة؟ "الدويرة" كان أجلاء علماء لكصر يعلمون فيها مجانا، كل حسب تخصصه، وكان الطلاب فيها يدرسون ويعيشون على نفقة سكان المدينة في إطار نظام محكم.
ماذا نقول أيضا عن نظام صرف المياه المطرية المتطور في أيامه وعن النظام العقاري وعن الشرطة الحضرية الخاضعة للتسيير الجماعي للشأن العام(جماعة المدينة)؟
يوجد في تجكجة القديمة، كما هو شأن سائر المدن التاريخية في البلاد، الكثير من التراث المتميز يجب الحفاظ عليه والكثير من مظاهر تاريخ وثقافة موريتانيا والعالم يتعين تبليغه لأجيال المستقبل. توجد في تجكجة آلاف المخطوطات الثمينة والنادرة، وصلت إليها على ظهور الجمال من بلدان بعيدة أو ألفها علماء محليون. وهنا ترقد، في ذاكرة بعض الأشخاص المسنين، أكمام عريضة من الثقافة المروية الغنية بالروافد المتعددة التي تطبع الثقافة الصحراوية. وهنا صمدت لعاتيات الزمن ألوان من فولكلور وفنون الواحات، كانت ولا تزال أسطورية الأصالة والجمال رغم ما يعتريها من الإهمال.
لكن اكصر تجكجة القديم، الذي يمثل بلا شك أحد أروع المواقع التاريخية الموريتانية، أضحى وللأسف الشديد مهددا بالإندراس ويعرض اليوم مشهدا مؤلما.
هذه الديار التي شهدت ظهور رجال عظماء مثل العلامة الجليل سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم، وأشعت بالكثير من العلم والثروة وكانت مسرحا للكثير من الأحداث الهامة, أصبحت اليوم إما مهجورة أو حلت محلها بيوت مشوهة من الإسمنت والحديد والبعض منها تحول إلى مكبات لقمامة الأحياء الجديدة المجاورة لها، مختنقة تحت الأوساخ والأقذار، مسخا ونسخا لقيمتها الحضارية والرمزية التي لا تقد بثمن. والأدهى والأمر أن العديد منها تهدم ونهبت مواده على مرأى ومسمع من الجميع دون أي اكتراث من أية جهة.
وهكذا، فإن ماضي "القديمة" الزاهر وعبقرية بناتها الخلاقة والذاكرة التي تتقاسمها مع الوطن والعالم بأسره، كل هذا أضحى معرضا للزوال وإلى الأبد، مما سيحرم الإنسانية من ثروة تراثية ذات رمزية عظيمة لا تقدر بثمن.
لكن الأدهى من هذا كله والأمر هو ما آل إليه المجد العتيق. لقد بني في أول أمره على نموذج مسجد شنقيط ذي الدلالة الرمزية والمكانة التاريخية المعروفة وبنفس التصميم المعماري ونفس المواد التقليدية (الحجارة الجافة، الطين والطلاء المحليين، عراجين النخيل وجذوعه، الأخشاب المحلية) ونفس المنارة المميزة. وظل كذلك حتى التسعينات من القرن الماضي.
لكن للأسف الشديد، تم هدم المسجد القديم بكل بساطة وحلت محله بناية مكعبة غريبة من الخرسانة، بناية بلا روح وبلا أصالة، بلا تاريخ وبلا مغزى ولا انسجام مع ما يحيط بها. يشكل هذا العدوان الجائر على الماضي وهذا العقوق الغريب للأجداد ضررا بالغا بتجكجة، حيث تشهج مغلوبة على أمرها زوال جزء بالغ الأهمية من تاريخها وتزييف جزء من ذاكرة أهلها، الشيء الذي يحرم أبناءها من استخدام عظمة أسلافهم كنبراس ينير لهم مستقبلهم.
في هذه اللوحة القاتمة، التي يشكلها هذا الموقع التاريخي الذي عبث به الزمن والإهمال وطيش البشر وولعه بإعادة البناء، فإن تسجيل "القديمة" على لائحة التراث الوطني يعتبر بصيص أمل نرحب به لأنه يمثل خطوة أولى نحو جبر الضرر العظيم الذي لحق بهذا التراث الثمين.
لكن هذا الإجراء الذي يستحق الثناء في حد ذاته يحتاج إلى أن يرافقه ةعي على الضعيد المحلي والوطني والدولي لأهمية ما يترتب عليه وخاصة الحاجة الملحة إلى تنفيذه, فالأمر في غاية الاستعمال لأنه في كل يوم يمر يتعرض موقع "القديمة" لتشويه لا رجعة فيه ويفقد جزءا من ماهية قيمته التراثية. بناء على هذا كله، فإننا نحن الموقعين آخره من الأساتذة والباحثين والأدباء والشخصيات الثقافية من أبناء تجكجة نوجه اليوم نداء جادا إلى من يهمه الأمر من أجل حماية وترميم اكصر تجكجة القديم حتى تتم المحافظة عليه وعلى طابعه التراثي والحضاري التقليدي. و في هذا الإطار، ندعو السلطات الوطنية الموريتانية إلى العمل بالطرق والوسائل المناسبة من أجل تطبيق النصوص والقوانين المنظمة للمواقع المسجلة تراثا وطنيا وإلى العمل من أجل تسجيل هذا الموقع كتراث عالمي لتعزيز حمايته وتسهيل إعادة تأهيله على غرار مدن وادان وشنقيط وتيشيت وولاته والتي تليها تجكجة مباشرة من حيث تاريخ التأسيس.
والنداء موجه أيضا لكافة أبناء تجكجة وجميع ذوي النوايا الحسنة المهتمين بحماية التراث الوطني الموريتاني إلى التعبئة من أجل الإسهام كل فيما يعنيه لصالح هذه المهمة النبيلة والمشرقة.
ثم إننا ندعو جميع الشخصيات الثقافية في العالم إلى الالتحاق بنا للتوقيع على هذا النداء لإقناع منظمة اليونسكو بإدراج "القديمة" في قائمة المواقع المصنفة "تراثا عالميا" حتى نضمن حمايتها وترميمها وصيانتها لصالح البشرية جمعاء.
القديمة تحتضر، فلنحمها!
نواكشوط، 13 يناير 2018
الموقعون
- محمد عبد الله ولد اخليفة، أستاذ وباحث
- عبد الودود ولد عبد الله الملقب ددود، أستاذ وباحث
- التجاني ولد عبد الحميد، أستاذ وباحث
- لمرابط ولد محمد الحسن، مؤرخ وباحث
- سيدي ولد عمارو ولد النمين، باحث
- إدومو ولد محمد لمين عباس، أستاذ باحث وكاتب
- ديدي ولد السالك، أستاذ وباحث
- إبراهيم ولد بي، أخصائي في تسيير التراث الثقافي
تصنيف: