إذن حاولت البوليزاريو أولا أن نكون طابورا خامسا لها وقد ذهبت هذه المحاولة بعيدا في الأخير، وحاولوا أن نكون رأس حربة في تغيير النظام عن طريق إنزال في انواكشوط، فرفضنا الأمرين معا تماما.
وقد التقينا وإياهم في الجزائر. تلقينا دعوة منهم فتوجه إليهم وفد منا سرا دون علم الدولة، واستقبلوه في الجزائر وأمضى أياما يناقش معهم. وعند وصول الوفد كان التلفزيون يبث بيانا بأنهم "حرروا" عين بن تيلي وقتلوا "جلاد الشعب الموريتاني" المرحوم اسويدات! (يشيرون إلى ما ذكرته من التعذيب).
وهو ضابط شجاع من خيرة الجيش الموريتاني وضع هناك لحماية عين بن تيلي دون أن تكون لديه الإمكانات المناسبة، فظل يقاوم حتى مات رحمه الله.
سأفتح قوسا لأقول إن تلك الحرب لم يكتب عنها بعد والدولة والجيش الموريتانيان مقصران في هذا المجال. هذا الجيش الناشئ الذي ليست له تجربة قدم من آيات التضحية وأفرز من الأبطال ما لا يتصور. وكل هذا دفن بعد الانقلاب بعيدا عن الأضواء فلم يبق إلا دعاية انهزامية، فصار ما يقال هنا هو نفسه ما تقوله أبواق إذاعة الصحراء الموجهة إلى موريتانيا.
لحسن: وهذا نتيجة لتغيير النظام والانقلاب عليه.
ذ. إشدو: نتيجة لفترة أمضتها موريتانيا مختطفة وتابعة للتحالف الموالي للبوليزاريو.
المهم أن وصولنا تصادف مع إذاعة البيان فقلنا لهم: أيها الإخوة.. لتكن الأمور واضحة، إذا كان اسويدات - رحمه الله- جلاد الشعب الموريتاني فإن الشعب الموريتاني لم يخولكم قتل جلاديه، وإنما هو من سيحاسبهم.
ثانيا أنتم وموريتانيا في حال حرب؛ فما احتلته موريتانيا من أرضكم فليس لها فيه حق، وما احتللتم أنتم من أرضها فلا حق لكم فيه. يمكنكم رفع علمكم على عين بن تيلي، ولكن مع العلم الموريتاني لزاما. وعين بن تيلي ليست من الصحراء ولا الجزائر، فإما أن تعودوا عن هذا البيان وإما أن نعود نحن الآن من حيث أتينا دون بحث أو نقاش!
بعد ساعة أو ساعتين رجعوا عن البيان وقالوا إنهم احتلوا عين بن تيلي، ولم نستطع التأكد من ذلك لكن تعبير "احتلال عين بن تيلي" كان الهدف الأساسي عندنا.
دخلنا في النقاش.. وسبق أن قلت مرارا إن بوليزاريو التي دخلنا معها هناك في النقاش ليست بوليزاريو التي عرفناها هنا. فالبوليزاريو في ثلاث سنوات من عمرها صار لديها صواريخ سام 7 ومن الذخيرة والمال والوسائل أكثر مما لدى موريتانيا! مع أن موريتانيا دعمتها دول الخليج.
لم يعودوا أصدقاءنا الذين كنا نعرفهم، ومع ذلك ناقشنا، وكنا كلما اتفقنا على أمر وجدنا أنفسنا غدا قد عدنا للبداية فيه! وكان بإمكانهم قبول أي شيء إلا الحوار مع المغرب! يرونه غير ممكن؛ لماذا؟ لأن من حاوره في رأيهم فسيخدعه. والنقاط التي اتفقنا عليها هي كالآتي:
1. ينبغي للبوليزاريو وللثورة الصحراوية - إذا كانت ثورة صحراوية- أن تعترف بالحدود الاستعمارية بيننا وبينها.
2. ليس كل منتم إلى إحدى القبائل الصحراوية صحراويا بالضرورة؛ بل أكثر القبائل الصحراوية امتدادات لأصول موريتانية.
3. يجب التخلي نهائيا عن سياسة الحلقة الضعيفة وتهدية الجبهة مع موريتانيا والتركيز – بدلا من ذلك- على الصراع مع العدو الرئيسي؛ فالتسوية مع موريتانيا ممكنة في أي وقت.
وقد أنجزنا هذا ووقعناه بعد لأي، وكان مقررا أن يتوجه الوفد في الصباح التالي جوا إلى تيندوف لزيارة ما يسمونه المناطق المحررة. ونظموا لنا حفل عشاء في فيلا عزيزة، حيث مقر حكومتهم. وقد أثار انتباهنا أن جميع أعضاء الحكومة وصلوا في سيارات فاخرة، ودخلنا في نقاش. (وما أقوله سبق أن كتبته للحقيقة؛ فأنا أحمل أمانة).
ويبدو أن الضغط كان قويا، فقد التفت إلي الولي - رحمه الله- بعد العشاء وقال: يا فلان.. إن الواقع لا يمكن التنكر له؛ فهذه البرتقالة التي في يدي ليست حجرا ولا ماسا ولا كذا.. إنما هي برتقالة. نحن غرقنا، ولن نغرق وحدنا، وقد حصلنا في شهرين بالقبلية التي تنتقدونها على ما لم ننله بالدعاية الثورية في سنوات.
فاجأني هذا فقد كنا أنهينا نقاشاتنا، ولعله كان ينبغي أن يقال لأن هناك آذانا أو ضغطا شديدا.
قلت له: الولي.. إن سياسة "علي وعلى أعدائي" ليست سياسة ثورية، وأنا لا أرى أن الشعب الصحراوي قد غرق، ولو افترضنا جدلا أنه غرق فبنوه الأبطال الحكماء جديرون بانتشاله؛ إما بالسياسة أو بالحرب أو بهما معا. وحتى لو غرقت موريتانيا معكم فما جدوى ذلك؟ القضاء على من يسمون البيضان؟ لا أعتقد أن لهذا فائدة!
قلتم إنكم نلتم بالقبلية خلال شهرين من التأييد ما لم تنالوه بغيرها خلال ثلاث سنوات، وأود القول إن ما جاء عبر القبلية فهي كفيلة بالذهاب به يوما ما. تأكد أنه لن يدوم، لأنها باطل.
وكان الأمر على ما وصف للأسف. هذه هي الخلاصة.
بعد أقل من شهر من توقيعنا وإياهم هذا الاتفاق أغار الولي – رحمه الله- على انواكشوط! وقد ساءت العلاقات بعد هذا بيننا في قيادة الحركة الوطنية الديمقراطية وبينهم، وكتبنا إليهم رسالة بعنوان "هل البوليزاريو ثورة أم عدوان؟".
لحسن: هل كنتم تنشرون عنهم في "صيحة المظلوم"؟
ذ. إشدو: أجل.. قلما يخلو عدد منها من موضوع مناصر لهم.
فعلا بعد ذلك ظل اتجاه منشق عن الحركة - هو الذي دعم الانقلاب- يتعاطى معهم، ويحضر احتفالاتهم ويمجدهم.. أما نحن فتوقفنا عن ذلك وساءت علاقاتنا معهم. وبعد الانقلاب حين قامت أول سلطة موالية لهم (بعد وفاة المرحوم أحمد ولد بسيف) كان أول ما فعلته هو قمعنا وسجن قادتنا، وبدأت بتصفيتنا.
في البداية لم ير النظام الحرب إلا كما قال الشاعر عمرو بن معدي كرب الزبيدي:
الحرب أول ما تكون فتــــــــــية ** تسعى بزينتها لكل جهــــول
حتى إذا استعرت وشب ضرامها ** ولت عجوزا غير ذات خليل.
فالنظام رآها نزهة أو ترويحا، ثم ظهر – مع الأسف- أنها كانت شيئا آخر؛ ففي أقل من ثلاث سنوات أكلت الأخضر واليابس، وفتحت الباب للأعداء الداخليين والخارجيين وللإخوة المتنافسين – إن لم نقل: الإخوة الأعداء- للقيام بانقلاب في موريتانيا.
ورفضنا الانقلاب
وبالطبع فإن بعض العناصر الموريتانية الموالية للبوليزاريو اتصلت بنا قبل الانقلاب وأشعرتنا به فكان ردنا أننا نفضل آخر بقية من النظام المدني القائم على أجود نظام عسكري سوف يخرّب موريتانيا. وذكّرناهم آن ذاك بكلمة عزيز المصري للضباط الأحرار؛ وهو ضابط كبير في الجيش المصري اختلف مع القصر الملكي هناك ونال الكثير من الاضطهاد جراء ذلك، وحين أزمع الضباط الأحرار الإطاحة بالنظام الملكي بعثوا إليه السادات ليشعره بالأمر ويطلب رأيه – وكانوا يعتبرونه أبا القومية العربية هناك، ولحركة الضباط الأحرار أيضا- فقال له: يا ابني عايزين رأيي؟ (أتريدون رأيي؟) كررها ثلاثا وكان رد السادات بنعم في كل مرة، فقال: يا ابني أنصحكم بأن تتعلموا وتتعلموا وتتعلموا.. دول (هؤلاء) خربوا مصر بالعلم، وأنتم يخشى أن تخربوها بالجهل! نصيحتي لكم أن تتعلموا قبل أن تنقلبوا.
لحسن: جميل.. تحدثنا عن النقطة المتعلقة بالحرب من الناحية السياسية وغير ذلك. بقيت النقطة المتعلقة أساسا بالمؤسسة العسكرية؛ فكيف كان الجيش حينها وهل قرار الحرب أعطى البداية الحقيقية لانقسام داخل الجيش مثلا.. خاصة في القيادات؟
ذ. إشدو: لم يكن لدي الكثير من أخبار المؤسسة العسكرية في تلك الفترة، وإنما أعلم أنها لم تكن موجودة؛ فقد كانت قليلة جدا لا يتجاوز أفرادها الألفين أو الثلاثة، وإمكانياتها محدودة، ودخلت الحرب دون أن تكون مهيأة لها بحال من الأحوال! فلم يكن لديها سوى الشجاعة والبطولة وحسن النية.
فعلا تضخمت خلال الحرب فناهز أفرادها عشرين ألفا، وهذا التضخم فرض الكثير من التكاليف وخلق الكثير من المشكلات والتناقضات، إلا أن ثمة ثلاثة أمور خلقها:
أحدها دخول الصراعات القبلية والجهوية في الجيش.
الثانية نمو الانهزامية في بعض ضباطه.
الثالثة – وهي أخطر، وستكون من أسباب الانقلاب- كثرة اختلاس المال العام، وفعلا قبيل الانقلاب كانت هناك مجموعة يحتمل أن تساءل عن أموال عامة تم الاستيلاء عليها.
لحسن: ما حقيقة ما قيل من أن الرئيس قبل الانقلاب كان يفكر في وقف الحرب؟
ذ. إشدو: بالتأكيد.. نحن اتصلنا قبل الانقلاب بالرئيس وأوضحنا له صعوبة الوضعية وأنه ينبغي البحث عن حل، وقد وافق على ما كنت أقوله منذ قليل؛ مع أني لست من كان على صلة به، وإنما السادة المصطفى ولد اعبيد الرحمن ومحمد الحسن ولد لبات والطالب محمد ولد لمرابط هم من كانوا يقومون بذلك الدور، وقد اتفقوا مع الرئيس تقريبا دون أن يعلم بعض بطانة الرئيس بذلك لأنه كان سرا؛ على أن يتم اتصال مع البوليزاريو ويبرم اتفاق معهم على ما نحن ندعو إليه دائما.
ونحن نرى أن مما عجل الانقلاب اكتشاف هذه الخطة؛ فيبدو أنه قد تسرب عزم الرئيس على اتخاذ قرار في هذا الاتجاه. ولم يكن هذا في صالح اليمين الذي يستغل الحرب للانقلاب لأن الانهزاميين في الجيش لن يجدوا مبررا، وكذلك ذوو الميول القبلية في الجيش.
ولم يكن هذا أيضا في صالح المغرب، وللمغرب يد طويلة.. فلا أستبعد أن يكون قد تحرك لإفشال هذا المسعى.
لحسن: الوقت وصل إلى نهايته، وقد أتينا في هذه الحلقة على المنعرج المهم في التاريخ السياسي الموريتاني المتعلق بحرب الصحراء التي شكلت نهاية مرحلة وبداية أخرى. سيكون لنا – إن شاء الله- في الحلقة القادمة حديث مطول أيضا حول أسباب الانقلاب على الرئيس الراحل المختار ولد داداه.
بهذا نضع نقطة نهاية على حلقة الليلة من برنامج "ضيف وقضية" ونشكر في نهايتها الأستاذ والسياسي والمحامي والأديب محمدٌ ولد إشدو على حضوره معنا. شكرا جزيلا لكم يا أستاذ.
ذ. إشدو: شكرا لكم. أعود فأطالب جميع الذين عاشوا هذه المراحل بالكتابة عنها وتدوينها؛ وخاصة ما حدثتكم عنه، فهو وجهة نظر من شخص كان حاضرا، ولكن قد تكون خاطئة في بعض النواحي.
لحسن: لكنها تبقى شهادات على العصر، ونحن نعتز بمثل هذه الشهادات التي تتعلق بالتاريخ السياسي الوطني، والتي تعرف المواطنين أكثر على الماضي السياسي لهذا البلد، كما أن حديثنا بطبيعة الحال لم ينته هنا، فستكون لنا لقاءات حول الحاضر السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
نشكركم، والشكر موصول لكل المشاهدين على حسن الإصغاء والمتابعة. إلى أن نلتقيكم في حلقة قادمة من برنامج "ضيف وقضية" دمتم في أمان الله.
تصنيف: