الحمد لله.. وأما بعد: فقد سئلت عن وظيفة موثق العقود الذي يلزمه القانون توثيق العقود سواء كانت مباحة أو ربوية فهل هو داخل في عموم المنع الوارد في شان كاتب الربا أم لا ؟
فأجبت ( ⃰ ) وبالله التوفيق بعد البحث والنظر بان الربا جاء الوعيد الصريح بشأنه. قال تعالى :( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) الآية (275) سورة البقرة
وقال تعالى ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) البقرة )
وقال تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) البقرة )
وقد جاء في الحديث الشريف التحذير من الربا بل ورد لعن كل طرف من أطراف عمليته . فقد روى مسلم عن جابر قال:" لعن رسول الله آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء" رواه مسلم
وقد ترجم الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه (3/59) ، مشيرا إلى هذا الحديث قال : " بَابُ آكِلِ الرِّبَا وَشَاهِدِهِ وَكَاتِبِهِ " .
ثُمَّ سَاقَ فِي الْبَاب حَدِيثَيْنِ . ومن المعروف عند المحدثين أن البخاري إذا صح عنده الحديث و لم يخرجه لعدم توفر ضوابطه عنده أخرجه في تراجمه .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قَالَ اِبْن التِّين : لَيْسَ فِي حَدِيثَيْ الْبَابِ ذِكْرٌ لِكَاتِبِ الرِّبَا وَشَاهِدِهِ ,
ثم أردف قائلا : وَهَذَا إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَنْ وَاطَأَ صَاحِبَ الرِّبَا عَلَيْهِ ؛ فَأَمَّا مَنْ كَتَبَهُ ، أَوْ شَهِدَ الْقِصَّة لِيَشْهَد بِهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ ، لِيَعْمَلَ فِيهَا بِالْحَقِّ فَهَذَا جَمِيلُ الْقَصْدِ لَا يَدْخُلُ فِي الْوَعِيد الْمَذْكُور . انتهى من فتح البارئ شرح صحيح البخاري لابن حجر .
تأسيسا على ما ذكره صاحب الفتح ومن خلال الاستقراء يتبين وجود صورتين خارجتين عن الكتابة والشهادة المحرمة:
الصورة الأولى : أن يشهد الواقعة ، أو يكتبها ، لتوثيقها ، والشهادة على أصحابها بها كما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله ؛ وهذا مثله كمثل من يرى جريمة قتل ، أو جريمة سرقة تتم ، فيقوم هو بتصويرها ، أو تسجيل أحداثها ، ليشهد بها عند الحاكم ، ويساعد على الوصول إلى الجاني ، وإقرار الحق ؛ فمثل هذا لا علاقة له بأطراف الجريمة ، ولا يمثل طرفا من أطراف العمل المحرم ، أو العقد المحرم .
والصورة الثانية أن يتم التعامل مع مؤسسة ربوية ولكن في معاملات أخرى لا علاقة لها بالعملية الربوية .
بالنظر إلى ما سبق فهل وظيفة الموثق هي وظيفة الكاتب أم أنه شاهد يضع ختمه تأكيدا لتلك العقود فقط ليترتب عليها ما يترتب عليها من حق ؟
ينص القانون المنظم لوظيفة الموثق في موريتانيا فى مادته الأولى على ما يلي : (الموثقون مأمورون عموميون مكلفون باستقبال العقود والتصرفات التي يريد الأطراف إعطاءها الصفة الرسمية المميزة لأعمال السلطة العمومية ...)
فالموثق إذن يتصف بوصفين أحدهما كونه مأمورا عموميا وثانيهما كون ختمه معبرا عن السلطة العمومية .
هذان الوصفان يجعلان وظيفته شبيهة بضابط الشرطة القضائية الذي يشهد على الجرم من دون أن يكون مجيزا له أو شريكا فيه . لان شهادته من باب الاداء لا من باب التحمل .
فكما أن الشاهد على الجريمة ليس ركنا فيها كذلك الموثق ليس جزءا من العملية وبهذا يدخل في الصورة المستثناة من التحريم كما بين ابن حجر في الفتح .
وبهذا التكييف يكون اسم كاتب الربا الذي جاء الوعيد فى حقه لا ينطبق بالكلية على الموثق في عصرنا , .
وأما الرسوم التي يأخذها ، فقد اختلف العلماء فى الإجارة على الحرام على أقوال :
- الأول: عدم الجواز، وهو مقتضى مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، والإمامين أبي يوسف ومحمد بن الحنفية – رحمهم الله تعالى جميعاً.
فقد قالوا: لا تجوز الإجارة على المنافع المحرمة كالغناء والملاهي؛ لأنها محرمة، والتعاقد عليها باطل لا يستحق به أجرة.
- القول الثاني: أنه يجوز العقد والأجرة حلال وهذا مذهب أبي حنيفة
- القول الثالث يصح العقد ويقضى له بالأجرة، لكن لا تطيب الأجرة للآخذ
إما كراهة تنزيه، أو كراهة تحريم. وهذا قـول ثانٍ عن الإمام أحمـد ، ورجحه ابن تيمية وابن القيم .
ومن أمثلة ذلك عندهم تأجير الدابة لمن يحمل عليها خمراً. لان المعتبر عندهم الوزن لا الموزون .
والخلاصة أن الموثق وظيفة عامة من وظائف السلطة العمومية لا تحرم بل هي وظيفة ضرورية لقيام حياة الناس و ضبط نقل الأملاك بينهم .
والمعتبر فيها العقد لا محتوى العقد .
والأجرة الحاصلة من الوظيفة مباحة إن كانت عن عقود مباحة .
فإن كانت العقود فاسدة جرت فيها الأقوال السابقة قيل بإباحة الأجرة وقيل بمنعها وقيل بكراهتها .
ويندب في مثل هذه الحال التصدق على الفقراء بقدر المال المشتبه فيه تطييبا لباقي المال . ومن القواعد انه لا حسبة في المختلف فيه .
والله أعلم
كتبه الدكتور الشيخ ولد الزين ولد الإمام
عضو المجلس الإسلامي الأعلى
-----------------------------------------------
( ⃰ ) شخصية مرجعية فقهية وطنية أخرى في غني عن التعريف تدعم بقوة هذه الإجابة.. فكتبت بشأنها :
" بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله أما بعد فإنما كتبه الفقيه المحقق الدكتور الشيخ ولد الزين ولد الإمام
حفيد أسرة العلماء الأجلاء ، ما كتبه مسلم عندنا فهو صلب العلم وحقيقته
فله الفضل وله الشكر . والله ولي التوفيق
حمدا ولد التاه
4ابريل 2017"
تصنيف: