واحترقت مكتبة أدبية أخرى : في تأبين المرحوم الخليل ولد مولود / بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

 كنت أعرف السيد الخليل ولد مولود - رحمه الله-منذ زمن، فنحن من منطقة واحدة، وقرية واحدة،ونسكن منذ حينمدينة واحدة. ولكن معرفتنا ظلت سطحية رغم ذلك،فهو ليس من أولئك الذين يغتصبون خصوصيات غيرهم ويفرضون عليهم التعارف والتفاعل المبتسر.

ومنذ نحو ثلاث سنوات فقط جمعتني معهندوات مسائية نظمها بعض المصطافين خارج العاصمة على طريق انواذيبو،حيث النسيم العليل ولبن الإبل وسمر الأرض..فاكتشفت بعض خصاله، وعمي علي بعض...

واستمرت الألفة بيننامنذئذ،فكنا نلتقي من حين لآخر، وكلما التقينا نقرر تلبية دعوة مفتوحة وجهها إلي نهرب فيها من صخب وهموم المدينة إلى باديته فننفق وقتا غير محسوب في "العربدة"بين معاهد وأوكار الوطن التي خلدها شعراؤه وأدباؤهعبر ترحالهم في نصوص جميلة نحفظها معا عن ظهر قلب، وإن كان يمتاز عني بمعرفة جل تلك الأماكنعيانا أو على الخريطة.ومن بين خصاله المميزة -رحمه الله- ما يلي:

- كان مكتبة أدبية تجمع بين الجزالة والطرافة والغنى؛ وماأسفت على شيء مثل أسفي على احتراق تلك المكتبة دون أن أجني منها شيئا، حتى ولو كان نزرا قليلا؛إذ كنت أؤجل –كغيري-الارتواء من معينه الأدبي الغزيرإلى فرصة أوسع دون أن أضع اعتبارا للموت بسبب جهلي.

وأذكر هنا - كاستثناء من تلك القاعدة-أننا التقينا ذات مرة،وكنت ضجرا مما بين يدي، فطلبت منه أن يتحفني بنص أدبي لم أكن قد سمعته من قبل، فلم يتلجلج أو يتردد،وأنشدني بداهة طلعة ما سمعتها من قبل،حفظتها من حكاية واحدة لجزالتها وجمالها وعفويتها وندرة غرضها العذريالذي كاد أن يختفي من أدبنا الحديث بفعل طغيان وضغط الحياة المادية:

مارت عنـــي فَاعْلَ** تشــــــواشيلعل

نمشِ في الليل اعلَ** كـرعَيَّ في الظلم

مان واعـــــــد فَعْلَ** ألان واعِدْ كَــــلْم!

فما أروع هذا النص الذي استطاع قائله "نظم مراده" في شكل أدبي رفيع قابل للتداول في كل وسط وزمان،وفي حيز ضيق لا يتجاوز ستة أشطار (تيفلواتن) مجزوءة!

-وكان،رحمه الله-رغم تمدنه وتمعدنه في انواكشوطوما له من مشاغل وارتباطات عصرية- يعشق البادية وحياتها،ويملك قطعانا من المواشي يرتاد بها المراعي أينما كانت.وكانت لديه هواية الوقوف على جميع المعاهد والدمن والأوكار المذكورة في كنوزنا الأدبية التي قلما غابت عن حفظه إحدى أمهاتها. وبذلك أصبح موسوعة جغرافيةلتلك الأماكن "الأثرية" شاء حظنا العاثر أن تضيع هي الأخرى إذا لم يكن قد دون منها شيئا.. فمتى نعتبر!

- أما الخصلة الثالثة التي لم أكتشفها فيه إلا بعد وفاته رحمه الله؛والتي هي من أعظم خصال الرجال وأندرها توفرا في ساستنا ومتكلمينا الذين يحبون العاجلة،فتتمثل في رحابة صدرهومدى قبوله بالرأي الآخر وطول نفسهوصبره في العمل السياسي. وأضرب لذلك المثل التالي: أنا سياسي بطبيعتي. وكنت خلال عقود الجمر والهدر ناشطا في صفوف المعارضة الوطنية؛خاصة شيعة الرئيس أحمد ولد داداه،إلى أن قرر الالتحاق بجبهة الدفاع عن الديمقراطية التي تطالب بعودة الرئيس سيدي إلى الحكم.عندها فقط، انفصلت عن المعارضة لأسباب تتعلق بالخط،شرحتها في كثير من المناسبات.لم يرق ذلك لمعظم أصدقائي في المعارضة، وظل مثار جدل ونقاش بيني وإياهم كلما سنحت لنا الفرصة.ومن الغريب أنه خلال جميع أحاديثنالم يصدر عن الخليل - رحمه الله-أي رأي أو تعليق حولهذا الموضوع!الشيء الذي كنت أرده إلى اعتزاله للسياسة.ولكن،كم كانت مفاجأتي كبيرة عندما علمت بعد وفاته أنه كان قياديابارزافي حزب تكتل القوى الديمقراطية الذي نعاه نعيا مهيبا بصفته تلك!فالرجلإذن لم يكن في عجلة من أمر السياسة؛بل كان يمارسها بأريحية، ويدعو إليها بالحكمة وبالتي هي أحسن، وكانت له مشارب واهتمامات أخرى غيرها.. وحسنا فعل.

فرحم الله الخليل ولد مولود وأسكنه فسيح جناته، وبارك في خلفه وذويه، وفي أصدقائه ورفاقه، وألهمهم جميعا الصبر والسلوان.

إنه سميع مجيب.

تصنيف: 

دخول المستخدم