من مآسي زمنناالعجيب أنك لا تجد سبيلا للرجوع إلى أصلك وفصلك وينبوع حياتك الزاخر وبيئتك الساحرة التي رسبت في تخومها مشيمتك، فتنسى - ولو إلى حين- كرب نَصَب ونصْب المدينة، إلا إذا كنت مجبرا على تقديم عزاء آن، أو متحيزا لعيادة مريض أو صلة رحم خلفه الجهد في تلك الربوع الحبيبة المهدورة.
شعرت بهذا الغبن الساحق وأنا أختلس سويعات ضاع جلها أدراج الطريق ذهابا وإيابا، وأنفقت القليل المتبقي في زيارة أحد أعرق وأعمق معالم إگيدي لأعزي في علمين من أعلامه سلكا درب الخلود مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين...في أمد متقارب، هما الحسن ولد أحمد سالم وأحمدّو سالم ولد الداهي رحمهما الله.
وكم تأسفت، وندمت ندامة الكسعي،لمّا لم أتمكن - لفرط ما كان خلفي من مشاغل الحياة- من صبر نفسي في مجلس ذلك الجمع الزكي المعزَّى وهم أحبة وأتراب وصفهمعارف بهمحق المعرفة فقال:
"جمعهم جمع عزة وفخار ** رفعــــته الأمجاد قرنا فقرنا
أريحي فليس ينطق هجرا ** ومصاف فليس يضمر شحنا
والمصابيح أوجه وسجايا ** والسجايا تزيد ذا الحسن حسنا
وأحاديث جمعهم شذرات ** من نضار يروق لفظا ومعــنى
لقطات من خالص الدر نثرا ** أو قريضا أقام للخلد وزنا."
(الشيخ الدكتور محمد المختار بن اباه).
التاگلالت وأفجار:
"رضيعا لبان ثدي أم تحالفا **بأسحم داج عوض لا نتفرق"
هذه الحوزة من إگيدي حيث كثافة القتاد واتساع وتمدد "آتكور" جنوبا وشمالا، وهو مجاري نهر صنهاجة الناضبة: ابير، بظي، الدواره، بوانعامه، همّر مَنْدَخْ..الخ. وحيث رسخت وغارت ضاربة جذورها في الأعماق قيم البظان الأصيلة؛هي أحب بلاد الله إلي، وما بين "منعج" و"سلمى"روحي:
"بلاد بها نيطت علي تمائمي ** وأول أرض مس جلديترابها"
* هنا تَفَتَّحون ما حلف "تشمشه"من بعد تأسيسه في "أگننت".. وحفر بئر ذات اليم. ثم كانت حرب "شرببه" والتدخل الفرنسي. وكانت معركة ترتلاس التي لا يزال الأئمة ناصر الدين وماهي بن سيد الفالي والمختار بن أبوبك شهداء عصرها الذهبي (أواخر القرنين الحادي عشر هـ، والسابع عشر م) يوم أحيا البظان الشرع الحق وحاربوا الفساد والاستبداد والتدخل الفرنسي في محيطهم، وأسسوا حكامة رشيدة على امتداد الضفتين، شعارها قول الإمام ناصر الدين المأثور:
"إن الله لم يبح مطلقا للملوك نهب وقتل واسترقاق شعوبهم؛بل أوجب عليهم - على العكس من ذلك-رعايتها وحمايتها من أعدائها. إنالشعوب لم تخلق لخدمة الملوك،ولكن الملوك خلقوا لخدمة الشعوب"..
وقارعوا وحدهم بالسيف والقلم تجارة الرقيق في ذلك الزمن السحيق:"إن البظان الذين كانوا سادة مملكة والو بصورة مطلقة، والمسيطرين على الملك ياريم كوديي حرموا عليه المتاجرة بالرقيق"... "ولما رأى ديموشين (رئيس المركز التجاري الفرنسي في سان لويس) أنه أصبح مستحيلا عليه ممارسة التجارة تلك السنة (1674) نتيجة لذلك التحريم..عندها عقد العزم على تصفية حركة الزوايا بقوة السلاح". (بوبكر باري.مملكة والو ص من 115).
* ومن هنا رفع أربعة رجال هم: الكوري ولد سيد الفالي ومودي مالك والفالي ولد الكوري ومينحن ولد مودي مالك، تحدي الهزيمة واضطلعوا بعبء تعليم أبناء الشهداء، وبناء وتنمية نشب الحياة في محيطهم المدمر.
* وهنا وهناك وهنالك:
ـ درج "يَگْوَى ولد أحمد ميلود ولد شدار:
"عاود العين سهدها فحماها ** سنة النوم واستباح حماها
فلئن كان كل مغنى لسلمى ** لك يبدو يهيج منك هواها
فبذات الكلاب مغنى ومغنى ** لسليمى لدى نبيكة راها
ولها حول مخرم البئر دار ** أوحشت بعدها وصم صداها"
ـ وحبا "زَعْدَرْ" ولد سيدي ولد حرمه:
فما الذهب الإبريز ينشر في رق ** ولا القهوة الصهباء تعرض في زق
بأحسن من اخناثه بالأمس منظرا**على جفر ذات اليم مغبر الأفق
ـ وشب "أبو بَكْرِنْ" بن محمذ بن ببكر (بَكّنْ) عن الطوق:
وعاذلة هبت علي بلا مهل ** تعيرني بالعجز والبخل والكسل
تقول: يمين الله ما لك حيلة ** ولا رأي تدبير لديك ولا عمل.
ـ وترعرع "اَلْبُو ولد امّيْنْ"في حضن أمه فاطمة بنت باب ولد الفاظل.
ـ وغنى "أحمدّو سالم ولد الدّاهي" الكبير...
ـ وطار ذكر الفتى جمال في الآفاق.
أما العلماء والرؤساء والقضاة والزعماء والوجهاء فحدث ولا حرج... وقد أدركنا في شخص الشيخ الكريم أحمد بن أبّا ولد امين- أطال الله بقاءه- الذي تشرفنا بزيارته، مثلا بارزا ممن عاصروا قيام الدولة منهم، مثل: سيد أحمد ولد اياي، ومحمد فال ولد البناني، والبراء بن بگي، والبراء بن ألمين ولد سيدي ومحمد عبد الله ولد الحسن، ومحمد سالم ولد امخيطرات رحمهم الله جميعا.
* ومن هنا أخيرا توجه الأديب الكبير أحمدّو سالم ولد الداهي منذ أيام في رحلته الأخيرة إلى موعد "الجمعة" المنتظم مع "گومه" وأشياخه بباطن تنبيعلي المبارك وهو ينشد في صمت أبدي قوله:
يالگــوم ال ما گط گوم** عاد كيفتكم مناسحوم
لخلاگـــه ذان جيت يوم **الجمعه وال شاطـــن
محدّ شاطن ما انگــــوم**ملانــه عــالم باطْ ان
ما عندي فالدارين جلب ** امن الظاهر والباطن
كون الگوم ال عند علب **تنبــــيعلي فلــــباطن.
فرحم الله السلف، وبارك في الخلف، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
تصنيف: