نحو استحقاق انتخابي في الديمقراطية والإصلاح

تمر الأيام سراعا نحو استحقاق انتخابي مصيري بالنظر إلى خصوصيته وتاريخيته وطبيعة الظرف المحلي والاستراتيجي  في نزوع البلدان نحو الاستقرار  و النمو المتسارع في بلدان تصنف عادة ضمن خانات معينة من عدم الرفاهية والتقدم.

والحق أن هذا التخندق يدخل في طبيعة التجربة ذاتها لبلدان تعتبر فيها العملية الديمقراطية وليدة لحظة تسارع إرادات متعددة لإظهار التجربة محليا وتبيئتها في بلدان لم تعرف الفعل ذاته، وإن كان بمسميات متعددة يجد وجاهته التاريخية في نقاش مستفيض من قبل المثقفين حول الوافد الجديد وطبيعته ودوره في خلق تنميات متعددة في أقطاب تستدعي فعلا تشاركيا وتفهما للمصائر عكس بيئات ديمقراطية صنعت نماذج اعجازية في التفاعل السلطوي بين القادة والقمة بالمفهوم المعاصر.

       ولعل الحديث عن التجربة الموريتانية فى مجال الديمقراطية و الإصلاح يستدعي ضرورة  النظر فى تجارب الأمم والدول ممن كانوا قبلنا، وكان لهم الفضل أو كان لهم سبق التنظير فى الفضائل  من حيث الحكمة والموعظة الحسنة وانتشار الخير  بين بنى الانسانية جمعاء .

    بهذا المنطق بنيت الحضارات وصارت فى سجل الخالدين بما تركت من آثار ومعاني شكلت الأمل والمرجع لبنى الانسان، إذ أن  استدعاء التجارب مسألة ضرورية وحتمية من أجل الاستفادة من التراكمات التى خلفتها، ولعل الاستئناس هنا  بالتجربة اليونانية بسردية مفرطة؛ قد يعيننا كثيرا على ما نود الإشارة إليه هنا فالعمل أو الإصلاح قد  يعوزه رأي حكيم مسدد الخطى مدعوم بقدرة خارقة تمكنه من إنجاز ما عُجز عنه، أو ما كان  مستحيلا بنسبية البشر المعهودة، وقد يكون الجمهور بحاجة إلى إعادة التركيب من جديد، فتصبح التجربة بمعادلاتها  الثنائية تحتاج إلى خلق جديد وتفكير جديد ونمط جديد.

إذ تذهب الأسطورة اليونانية فى بداية التأسيس لحضارتها  إلى القول بأنه: " كان دوكاليون ملكا عادلا وكانت زوجته بيرها إمرأة خيرة، ولذلك قرر زوس كبير الآلهة استثنائهما من الغرق حينما قرر التخلص من بني آدام نظرا لعدم إحترامهم للآلهة،  ليبقى  هو وزوجته على وجه البسيطة بعدما أغرق الطوفان جميع البشر. وبعض مضي أزمان وجد الملكان العادلان نفسيهما فى حالة وحشة رهيبة استدعت منهما الطلب مجددا فى إعادة البشر من جديد، فأرسل كبير الآلهة رسوله هرمس فأمرهما بأن يأخذ كلا منهما حجرا ويلقي به وراءه فنشأ  خلق جديد فصارت أحجار الملك ذكورا  والملكة إناثا".

من هذه الأسطورة يمكن أن نفهم سر  تألق الحضارة اليونانية والحضارات عموما وبناءها من جديد ــوهو ما نحتاج إليه فعلا ـ وفق آليات ومذاهب ترتكز على الاحترام والبحث فى الميادين المختلفة من تنمية للإنسان ومداركه العقلية  تشمل  مختلف الأصعدة و شتى المجالات من أجل الرقي والازدهار بالأمة الخالدة، ليشكل الأمر برمزيته المفرطة جدا والغير الساذجة طرحا مغايرا وبداية جديدة  للتغيير في الأفكار ونحل العيش والضرورات المستجدة علينا، فالحضارات مثل الإنسان تماما  تحيا و تموت وتمرض وتشيخ و يعتريها ما يعترى البشر ممن مميزات وخصائص تنطبق سير النعل بالنعل على الدول.

فالدول وفق هذا التحليل  تندثر  تبعا للأهواء والميولات الشخصية أو الجماعية لتكثر الأنانية والطرح المصلحي فى كل شئ ساعتئذ يحتاج البشر والدول إلى إعادة البناء من جديد تفكيرا ونظرا وروحا  قد كثر غيها وصارت نشازا عن محيطها وعن القواعد العامة للإنسانية المميزة لها عن غيرها،  فيصير البعث من جديد مذهبا لا غنى عنه من أجل تدارك الأخطاء وصقل عقول البشر من الشوائب، كي يبدأ الخلق من جديد وفق دينامية جديدة تخلق النماء والازدهار لحضارة جديدة تؤثر فى الانسانية ويصير لها الذكر الجميل .

إذا المشكل عويص جدا في أيام الناس هذه و يقترب إلى النظر الفلسفي في محاولة معالجته و النظر إليه بمنطق أعمار الأشخاص غير  أن الدعوة والتبشير  إلى مثل هذه المقاربات يكثر فى زماننا هذا، وتتعدد معانيه وفق رؤية المعنيين أيا كانوا ومهما كان طرحهم لكأن كل شخص لديه رؤيته الداخلية الخاصة به فى تغيير المسار والانتباذ قصيا بهذا الطرف القصي بما يخالجه من آراء وفرضيات تنطبق انطباقا كاملا على التجديد وروح الإصلاح، ومع هذا يبقى الحال هو بدون تغيير إلا ما كان من رؤى تترآي لذوى المصالح والنظر الضيق ممن جمعهم الفكر  والنظر فى متع زائلة تقوض المجتمع والحضارة، لتندثر وتذوب ليس من باب الترف والدعة، وإنما بسبب  فقدان القيمة الانسانية وتردى الذوق والطباع على الرأي الخلدوني.

استئناسا بالآراء السابقة والفرضيات يستشف أن الدولة الموريتانية تحتاج الإصلاح بنفس تشاركي في البرامج والرؤى الاستراتيجية،  وهو  أمر ليس  باليسير ولا حدث عابر  يتشكل وينساق إلى خطاب معين لحظي، فالأمر  ليس بالتمني ولا المطالب الجمعوية العامة فى أسسها الملتفة  والمنضوية حول أي خطاب مهما كان أحرى إذا كان نابعا من سلطة بغض النظر عن نوعيتها أو رمزيتها، فالأمر سيان فى المجتمعات المحتاجة للإصلاح بمتخيلاتها الأسطورية وأسسها المبني عليها.

ولا أدل على ذلك من قراءة مبسطة جدا لواقع البلد استئناسا بماضيه من أجل اكتشاف اللبس والعلامات الفارغة فى تاريخ هذا المجتمع والمبررة والواجدة العذر فى أي أمر مادام من  صناع القرار أو ممن يتصورون ذلك التصور، غير أن هذا لا يعني بالضرورة انصياع الجميع تحت قبة الولاء لكل شيء اعتمادا على أنماط معينة  فى التفسير والحكم والنظر فى المصالح العامة، مما ينفى جدة بعض الموافق أو الحكم عليها مستقبلا فيبقى المفهوم حاضرا لدى كل الأجيال لتجد فيه بصيصا من أملها المفقود ومرتجى يبعدها نظريا عن الحكم عليه أو التلميح على انحراف المسار.

فالوقوف مع اللحظة الزمنية المعاشة  في أتون حملة رئاسية مسألة ضرورية وواقعية جدا من أجل روح تجديدية تتجسد فيها الأحلام والأماني، وما لم يكن مدركا ولا متخيلا فى فترة وجيزة، فالقول هنا يقتضي مجموعة من الأفكار  البنيوية  من أجل انطلاقة فعلية جادة تأخذ فى الاعتبار  أبعادا تتلخص في المعطيات التالية:

  • التعاطي والنظر إلى القضايا بنظرة شمولية تبتعد كل البعد عن منطق المنافع والمصالح والطرح الجزئي المغيب لروح الإصلاح ودواعيه الأسمى. لتشكل هذه الدوافع مجتمعة بداية الانطلاقة الفعلية للمشروع النخبوي من أجل إصلاح ما أفسد الدهر أو البشر .
  • إشراك الفاعلين وأولى الكفاءة وإقامة الورشات الضرورية من أجل وضع ثقافة إصلاحية جديدة تقف على مبدأ إظهار التطمينات والأفكار المعقولة سيرا على أن أي فكرة مهما كانت تحتاج قبل كل شئ إلى قابليتها للتحقق، وثانيا النظر إلى البدايات بنظرة شمولية لا تتجزأ من  أجل الوصول إلى  حلول أمثل وأصوب.
  • النظر إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، كي لا يظل الأمر دولة بين نخبة تتمني بأفكارها وآرائها  وتظهر من حين إلى آخر خللا فى المسار أو انتقادا  لكنها تفتقد إلى الواقعية المنشودة، أو بين متحكمين لديهم أفكارهم الوردية  والمستمسكين بهداها، وتبقى غالبية الشعب بين الرأيين ترى فيهما الحلم والأمل لكنها تصنفهما على وجهتين متمايزتين  تاركة الأول  لحين ومندفعة فى  الخيار الثاني.
  • النظر في المظالم التاريخية والواقع الفئوي الذي أنتجته  وهو ما يحتاج إلي مقاربات سريعة تبني على رؤية ناضجة  ترعاها النخبة المثقفة جميعا من خلال المؤتمرات و الندوات وخلق الوسائل الردعية والنفعية في الآن نفسه. ولعل التعليم يبدو هنا أكثر المطالب الملحة والسريعة الأخذ بها بدون تفرقة ولا حساسيات آنية قد تكون أفسدت الكثير من السياسات التي أنتجت في هذا المجال.
  • الابتعاد عن الأشكال المعتمدة في الولاء والنظر إلى التصورات القبلية كآراء فى الحكم لها قدسيتها والتحول تدريجيا من النمط القبلي المؤسس ثقافيا واجتماعيا إلى معايير تنتهج الوطنية والمصداقية الأخلاقية فى بناء دولة معاصرة ينسجم فيها الجميع بمبدأ الإخاء، وعدم الإحساس بالغبن بأنواعه ومضامينه المقصودة هنا، حيث المساواة فى تجلياتها الناصعة والمحببة والابتعاد عن الأفكار الرجعية التى تبرز من حين إلى آخر.
  • حسم الاشكاليات المصيرية بأنواعها وتشعباتها وتعقيداتها البارزة للعيان منذ دولة الاستقلال وحتى أيام الناس هذه؛ من قبيل هوية البلاد والخطاب السياسي الموحد الجامع لبني هذا المجال الجغرافي بحسم الانتماءات و العمل على انمحاء الفوارق والإحساس باللادولة والغبن والتهميش وقول كل متقول مهما كان فى مصائر الناس وتاريخيتهم ونسف مرتكزاتهم إلى حس وطني شامل ومرتكز بين وواضح.

 بهذه الأبعاد  يمكن أن نطلق فعلا بروح ونفسية جديدة تعكس الحاجة والضرورة الداعية إلى تحرك يسمو على المصالح الضيقة والنظر بعين الفرص واغتنماها و التوجه أينما و جدت أو ظهرت أو كان أملها وهو ما يتحاج إلى إعادة التصويب ودراسة النفسيات والمبادئ من أجل انطلاقة فعلية متصالحة مع الذات والضمير  تستدعى الظرف والحاجة والمتغير.  يتواصل بأذن الله في الأيام القادمة تباعا.

دكتور باب ولد أحمد ولد الشيخ سيديا

تصنيف: 

دخول المستخدم