مساعدات إنسانية، أم تغطيةٌ على جرائم ضد الإنسانية وشرعنُتها ؟

أعلنت الإدارة الأمريكية نيتها المشاركة في تقديم مساعدات إنسانية لسكان غزة بواسطة إنزال جوي، بالتعاون مع شركاء آخرين من بينهم المملكة الهاشمية التي نفذت أكثر من عشرين إنزالا جويا على غزة للمساعدات منذ 6 نوفمبر الماضي. وستكون هذه أول عملية عسكرية أمريكية لتقديم المساعدات للفلسطينيين منذ بدابة الحرب.

مناورة تكتيكية ذات مقاصد دعائية مريبة، داخلية وخارجية

وقد جاء الإعلان بعدما تضررت كثيرا صورة الولايات المتحدة في العالم بسبب دعمها اللامشروط للهجوم الإسرائيلي الوحشي على غزة؛ كما ورد بعد يومين من نتائج انتخابات تمهيدية مخيبة للآمال حصل عليها جو بايدن في ولاية ميشيغان، حيث فقد أكثر من 100 ألف صوت من أنصاره من أصول عربية ومسلمة ومن يسار الحزب الديمقراطي، اختاروا البطاقة "البيضاء" للتعبير عن عدم رضاهم عن سياسة الدعم الأعمى التي يتبناها الرئيس الأمريكي تجاه إسرائيل. ولا يخفى على أحد في هذا الظرف الانتخابي والجيوسياسي غير الثابت على حال، بأن العملية الجوية لإنزال المساعدات المذكورة، فضلا عن كون كمياتها ضئيلة جدا مقارنة بحجم الحاجات الملحة للسكان،  وتطرح إكراهات تقنية وتنظيمية لا يستهان بها، فإنها تشكل مناورة دعائية تكتيكية، داخلية وخارجية: عبارة عن ذرِّ الرماد في العيون للفت الأنظار عن حملة التجويع التي تقوم بها إسرائيل منذ فرضها عام 2007 حصارا مؤلما على غزة؛ حصار من جميع الجهات: بحري وبري وجوي، يمنع السكان من الولوج إلى معظم البضائع والمواد الضرورية للحياة، تستخدم فيه قوات النظام الصهيوني أدوات وأسلحة فتاكة ما كان لها أن تحصل عليها لو لا الدعم الأمريكي.

الإنزال الجوي، خيار عملياتي تضليلي وماكر

 خيار الإنزال الجوي كأسلوب عملياتي لتوفير المساعدات الإنسانية دليل في حد ذاته على مكر الإدارة الأمريكية ومحاولاتها التضليلية؛ لأن الاكراهات التي تدعو إلي تبنيه هي الفاعل الرئيسي في خلقها. إذ يتم اللجوء إلى عمليات التموين والتزويد عن طريق الإنزال الجوي في حالة عدم توفر الوسائل الأخرى البرية والبحرية، وفي في حالات الاستعجال القصوى. 

وحول الكارثة الإنسانية التي بين أيدينا، فالولايات المتحدة هي من توفر الوسائل العسكرية والحماية السياسية والدبلوماسية لمنع استخدام الطرق البرية والبحرية الكفيلة بتقديم المساعدة للفلسطينيين في غزة وفي غيرها من وطنهم المحتل والمسلوب من طرف إسرائيلأما موضوع استعجال المساعدات الإنسانية، ففعلا الأوضاع الكارثية في غزة تتطلب تدخلا سريعا جدا وقويا جدا. لكن، متى كانت الولايات المتحدة تأبه بالحلول السريعة عندما يقتضي الموقف مواجهة تداعيات جرائم النظام الصهيوني، بينما هي الممد الاول بالأسلحة والدعم لصناعة تلك الجرائم؟  

 فحصار غزة صار له 17 عاما على الأقل مع ما ينجم عنه من محن ومآسي يعيشها الفلسطينيون منذ أن فرضته عليهم قوات الاحتلال سنة 2007. واليوم فإن الحصار لا يتسع مداه فحسب منذ خمسة شهور، بل إن إسرائيل تتعمد التدمير الكامل لجميع مرافق الحياة والعيش في غزة. وتتخذ اعمالها وحملاتها التدميرية ضد المنشآت المدنية- الممتلكات والبنى التحتية- اشكالا إجرامية  تبعا لسياسة "الأرض المحروقة" غير مسبوقة في العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

بعد هذا الزمن الطويل من جرائمها بدعم أمريكي شديد، فمن يصدق أن الإدارة الأمريكية صحت فجأة من سباتها التآمري لتكتشف الآن الكارثة الإنسانية الفلسطينية، وأنها تنوي حقا استخدام الإنزال الجوي للمساعدات استجابة للطابع الاستعجالي للقضية!  

لا خلاف بينهما حول الهدف، ولا حول السياسة العامة

بلغت حملة التجويع ذروتها منذ بداية حرب الإبادة الجماعية الحالية لما بدأت إسرائيل تدمر، بفضل دعم الولايات المتحدة، كل شيء كردة فعل على "طوفان الاقصى".

. صحيح بإن "العم سام" لا يقر بدوره في الجريمة رغم كونه هو أساسا من يقدم بكل سخاء الأدوات والآليات اللازمة للعملية الاجرامية الجارية في فلسطين: الأسلحة، المال، الوسائل اللوجستية، الدعم السياسي والدبلوماسي، الاستشارة والخبرة العسكرية...

وصحيح أيضا أن الرئيس بايدن يتظاهر من حين لآخر بخلافات جانبية بينه مع نتنياهو. خلافات تتعلق بأساليب القيام بالجريمة ووتيرتها، بينما الفريقان متفقان جوهريا على الهدف والاستراتيجية المؤدية له. لكنهما قد يختلفان ظاهرة في بعض آليات التنفيذ. وكأنهما وقعا ضمنيا عهدا بهذا الشأن : يفصح بايدن أحيانا عن عدم رضاه عن نهج نتنياهو في حين لا يبخل مثقال ذرة في دعم سياساته الإجرامية.

هيهات، هيهات... لن نرضخ للإهانة والمذلة !

وهكذا، فعندما ينجرُّ الرئيس الامريكي إلى اعلان نيته إنزال مساعدات إنسانية للفلسطينيين بواسطة طيرانه العسكري، فإنه يحاول تحويل الأنظار عن جوهر المشكلة: عن القضية الاجرامية التي يشكل هو وغيره من قادة الدولة الأمريكية صُنَّاعها منذ نشأة الكيان الصهيوني. وكلنا نتذكر في هذا السياق مقولة بايدن الشهيرة: " لو لم تكن هناك إسرائيل، لكان على الولايات المتحدة الأمريكية أن تخترع إسرائيل لحماية مصالحنا في المنطقة".

فخلافا لما تحاول واشنطن إيهام الناس به، فإن المأساة الفلسطينية الحالية ليست وليدة اللحظة، ولا تقتصر على "نقص في كمية أو نوعية مساعدات إنسانية يعمل جو بايدن وإدارته على المساهمة في سده". فما يعرف قي قاموسهم ب"المساعدات الإنسانية" التي يتفوهون بها ويطبِّلون حولها، ما هي إلا دعاية مضللة، الهدف الحقيقي من ورائها هو "شرعنة"  للحصار ولفت الأنظار عن سياسة التجويع المفروضين علي غزة، و"شرعنة" للدمار الذي لحق بها وبالفلسطينيين على أيدي النظام الصهيوني تحت رعاية الإدارة الأمريكية وبدعم منها منقطع النظير. تجويع وحرمان يشكلان في حد ذاتهما نكرانا ورفضا من طرف المجرمين الغزاة لحق شعب في التمتع بحريته وممتلكاته وبالعيش بكرامة.

وكما تدل على ذلك خمسة أشهر من المقاومة الشرسة والبطولية، فكأنني بالضحايا والمظلومين يصرخون يأعلى حناجرهم في وجه المعتدي :

"هيهات، هيهات... فمهما كانت همجية جرائم الإبادة والاحتلال التي ترتكبونها، فلن نرضخ نحن "الغزويون" ولا شعوب المنطقة لسياسات المذلة والإهانة، لا في فلسطين، ولا في لبنان، ولا في سوريا، ولا في العراق. ولا في أي مكان آخر."

البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)

تصنيف: 

دخول المستخدم