لن يوهمنا أحد / الولي ولد سيدي هيبه

لن يوهمنا أحد أننا دولة يرتفع صرحها بسواعد أبنائها المالكين كل الخبرات الفنية الضرورية و المستغنية عن اليد العامة الأجنبية... و لن يوهمنا أحد أننا نستفيد من معارف مهندسينا في شتى المجالات لتحويل بعض مصادرنا المنجمية إلى مواد تلبي حاجياتنا الداخلية و لا الزراعية إلى سياسة اكتفاء ذاتي من أراضي ضفة نهرنا الخصبة و الزراعة المطرية و واحاتنا الممتدة فوق أنهار من المياه الجوفية العذبة... و لن يوهمنا أحد أن اقتصاديينا و مخططينا و خبراء المال فينا يرسمون ملامح البلد الذي يوازن بين احتياجاته إلى التنمية و التصنيع و بين طموحاته إلى التصدير و المنافسة... و لن يوهمنا ممسكو إدارتنا بأننا في القرن الواحد و العشرين ننثر المساواة و نرتقي إلى الشفافية و الانسيابية... و لن يوهمنا أحد أننا بمساجدنا التي لا توحد الوقت و لا تسد أبواب الجدل العقيم حول الجزئيات في غفلة الأساسيات في العبادة نحن أصحاب الإسلام الصحيح و غيرنا -استعذنا بالله- في ضلال مبين... و لن يوهمنا أحد أن شوقي و الجواهري و نزار قباني و كل الشعراء تتلمذوا علينا قبل قرضهم الشعر... و لم يوهمنا أحد أننا نريد الاعتراف بضرورة أن نحبو ثم نقف على أرجلنا ثم نسير ثم نجري ثم نرفرف و نحلق كما فعلت و تفعل كل الشعوب المتواضعة و لكنها القابضة على جمر التحول يخزها و يدفعها لكنه لا يحرقها... لن يوهمنا أحد أن سياسيينا قرأوا كتاب الإشارة في تدبير الإمارة للإمام الحضرمي و كتاب الأمير لماكيافيل، و الحرب و السلام لليون تولتسوي و الحرب و السلام بين الأمم لرايمون آرون، و أنهم يريدون وطنا ناضجا يمخر عباب العصر لا يخشى زوابعه العاتية إلى أفق عولمته الكاسحة... و لن يوهمنا أحد أن مثقفينا يريدون أن يكونوا الشمعة التي تحترق لتضيء الدروب للآخرين و أن شعراءنا يخشون التخنث إن ضبطوا إيقاع الالتزام بقضايا التغيير و متطلباته.

تضخم الأنا النافية

تابعت الليلة البارحة عنصرا ثقافيا بامتياز على إحدى قنوات الإمارات .. مقابلة فكرية راقية من العيار الثقيل مع "مفكر" صومالي يخوض بكل اقتدار و اتساع مدارك في مواضيع أكبر من كل الصومال.. مواضيع لم أعهد مناقشتها إلا على القنوات العالمية التي استقرت في مداراتها الاختيارية حول كوكب المعرفة العالية. كان الصومالي الأربعيني يصول و يجول في مسائل حساسة علمية ملموسة غير متاحة لمس الجواهر و إبداء رأي فيها يغير و يضيف إلا لمن يمتلك خلفية صلبة من المعرفة يتكئ عليها و يستقي الحجج و منطقية الاستنتاج من ناحية، و ميتافيزيقية مركبة مربكة تتجاوز الأفق الضيق و النفس الاستسلامي القصير... و كنت قبلها وقعت على مقابلة مع مفكر لبناني أثر في الحركة النقدية الغربية و آخران سينغالي و مالي باتا يثريان الفكر الزنجي و الأكاديمية الفرنسية من منظور إفريقي صرف و بمنطق أكاديمي وقف له الفرنسيون إجلالا و تقديرا، و مفكر و كاتب مغربي كان أعجوبة و جوهرة معرض الكتاب الدولي المنعقد مؤخرا في باريس.. مفكر أبهر بمضامين أدبية جديدة تراءت له في فن السرد الملتزم بقضايا جوهرية، حيوية و مصيرية.

و أما عندنا فزبد لا يَملُّ الذهابَ جفاء، و إذا ما تجاوزنا لغة الحذلقة في ادعاء المعرفة و الإستعلائية و النرجسية و سوء تقدير الآخر رفضه و تضخم الأنا فإننا لن نجد على أرض الواقع المعرفي بكل أوجهه و تجلياته من يُعتد برصيده المعرفي و فكره التنويري داخليا و لا من يحمل اسم البلد في المحافل العالمية فيوصف بدرجة عطائه فيخرق أجواء الجمود الفكري و يعتلي صهوة النبوغ إلى فضاء المعارف فيحرر مدارا يتحرك فيه و يرسل منه طاقة التميز.

عزف النفاق على وتر النفوس الخائرة

في ذات اللحظة التي كان يموت فيها أحد المستكشفين عطشا على نقطة ما من صحراء هذه البلاد المترامية الأطراف المنافقة بسحر ليلها البارد الهادئ قبل يومها الحارق المتقلب الغدار، كان أبوه في "أروبا" يشكو من استمرار هطول المطر الذي أطفأ ظمأ كل شيء إلى حد الملل.

بلى إنه دبيب سريان النفاق في كل أوصال المجتمع و الدولة بأشكاله و ألوانه مُعلَنا و غير معلن، مكشوفا و مطليا ينخرُ جسم بلد المنكب البرزخي المتأرجح لانتماءين الإسلامي و العروبي بين داري "سيبة" الماضي العاتية و "سيبة" الحاضر الماحقة التي ولدت من رحم الاستقلال-الهبة من الاستعمار الفرنسي قبيل ستين عاما فقط... نفاق بكل الأوجه و الألوان يصارع الذوات البخيلة على أنفسها فيعطيها سيئ متاع الدنيا الذي تتهافت عليه و يحرمها بالمقابل لحظة من "كرامة" تذكر بها عندما تفنى... نِفاق أغلقَ الباب أمام الإبداع حتى تصحرت الساحة الفكرية و الثقافية.. فلا وجود مطلقا لرمز معلوم تعرف به البلاد في محافل الحضور العالمي و لا في الداخل ليحفز على الإتباع مثلا و قدوة و يدفع إلى التشييد بجد الاقتدار في ساحة البناء... حسد صامت يغلق المنافذ، تغابن سافر يسبب الإقصاء... جاهلية في القرن الواحد و العشرين تطفئ ببطء أمل البقاء و تعيد كرة تحكم النفاق فترى الجميع يقول ما لا يفعل و يظهر عكس ما يخفي في قلبه، يظهر الخير ويكتم الشر، يذيع الحب والاحترام و يخفي الكره والحسد، علما بأن المنافق هو الذي يمتلك وجهان يظهر أحدهما حسب الموقف الذي يمر به.

وهم النشاط و وهن الواقع

خلال نهاية كل أسبوع تتزاحم في قاعات فنادق نواكشوط السبعة (موريسنتر، الخاطر، حلينة، اطفيله، أتلانتيك، الملوك، وصال) أنشطة مبتذلة في عمومها و تتراوح كلها ما بين إطلاق أنشطة جوفاء تتعلق باتفاقيات ثانوية ضعيفة إن لم تكن مخلخلة المضمون أو تخليد أيام أممية رمزية أو تنظيم دورات تكوينية مرتجلة و ملقاة مواضيعها على العواهن لتتمحور حول قضايا متجاوزة  ـ يُمَولها الغَرْبُ أساسا ليُكفرُ عن عن تَجاوزاته الكبيرة في حق الدول المتخلفة  و يلهي  أو يلطف تدخله في شؤونها ـ و كأن البلد بكل هذه الأنشطة الوهمية يبنى و يشيد... أنشطة خائرة يتقاطر عليها الأمناء العامون و المكلفون بمهام و المستشارون بعد أن سئمها الوزراء و كأن حضورهم عامل مبتكر لدعم و تقوية خورها و أداة رفع نضجها إلى المقبول الغائب... كما تتزاحم الكامرات لتصور الكلمات الافتتاحية لفائدة نشرات الأخبار و الفضوليين الذين يحضرون ليحسبوا على النخبة... مسرحية هزلية لا بد من مراجعة كل نصوص فصولها و تصليح خشبتها و تجديد ديكور خلفياتها المهترئة و تقوية إضاءتها الضعيفة.

تعثر اللباقة بين التعمد و الفطرة

كنت أتابع عنصرا إذاعيا على إحدى القنوات التلفزيونية الدولية - التي ألجأ إليها طمعا في ثراء معرفي مجاني ـ عن معاهدة روما التي شكلت النصوص الأولى بداية ميلاد الاتحاد الأوروبي منذ أقل من سبعين عاما خلت. تسجيا بالصوت و الصورة لذلك الحدث المؤسس تظهر في أدق التفاصيل توقيع النص المؤس و المعاهدة داخل قاعة عريضة و مرتفعة بروما كأنها بنيت في هذا العصر بأحدث و أجمل و أصلب المواد و تحت عين و إشراف أقوى المندسين. و أما هندام الحضور و لغتهم الراقية و سلوكهم المتمدن فلا يشكو رغم سبعة عقود خلت أي خلل دبلوماسي أو قلة لياقة في حركة أو لفظ تشف عن فظاظة طبع أو حدته... قلت رحم الله أسلافنا في ذلك العهد الذين كانوا بالكاد يخرجون فيه من "عام العرية" على خلفية انتظام الأمور في الغرب (الذي كان القماش يجلب منه) بعد الحرب العالمية الثانية، و عفا عن أجيال تلك الفترة الصعبة حيث لا دولة في ظل "السيبة". و لكنني أحسست بدوار لحال الواقع بعد ست و ستين عاما من الدولة المركزية المستقلة... لا أثر لبنايات تحفظ جدرانُها بقايا من رائحة معاهدات تبني أو توقيعات على نصوص تفاهمات تحمي و تشكل مصدر قوة و مرجع توافق عند حلول الأزمات العابرة و العميقة... لا قدرة على الخطابة اللائقة التي لها سحر حل نصف المعضلات و لا اعتراض بالوسائل التي تُمرر الرسائل و تنيرُ الدروب... أية بداوة هذه التي تستعص على رقة العصر و لا تحذو حتى حذو بداوة "المغول" الذين تشبثوا بها داخل قبة المدنية و التحضر فنجحوا، و الهنود الحمر في "محمياتهم" و قد لامسوا الحداثة حتى في مظاهراتهم ضد تلويث بيئتهم، و أقزام "البيكمي" الذين أصبحوا علماء يزاولون لحساب "الناسا"، و بَدْوُ الهند العارفين بالإبل و أحوالها في صحراء "طهار" الكبرى حيث رقت طباعهم و كبرت أحلامهم و تبدلت إلى الحداثة أحوالهم.   

ترف الكلام و سلبية الانتظار

و تمضي معارك الكلام على أشدها في كل رواق و مكتب حول الأغلبية و المعارضة و الدستور و مواده و لا مَسؤولا تَرى يُسطر على دفتر الجِد رأيا مهنيا صائبا حول اهتمامات قطاعه لأنه "منتظِر سلبِي" و "مترف" في صَمَم عن دوشة البناء، و "مستمع" مجيد لغنائيات الاسترخاء و الهزل. و إن زرت المكاتب فإنك ستبصر حتما شظايا الخبز على طاولة المحادثات و آثار الشاي على الصحف و الورق المبعثر فوق واجهتها. اطرح على المسؤول استشكالات مهنية فستجده ينحرف بك فورا ضاحكا و مستهزئا إلى إشكالات السياسة التي من المفروض أنه لا يحمل همها أثناء تأدية الواجب.. و تظل المسرحية العبثية إلى نهاية وقت الدوام... لكن إن سألت أين أصحاب المصالح و الإدارات و المستشاريات و الأمانات و المقعد الوثير يقولون لك إنهم غادروا بقليل بعد الوصول... إلا من أدركه حب الشاي و السياسة و ترف الكلام.

اجتثاث الشعر كالنبتة الضارة

عندما تجود بالشعر قريحةُ طبيب أو جندي أو مزارع أو مهندس أو عالم ذرة أو أي كان ممن لهم اختصاصات البذل و العطاء فإنه لا محالة يشف عن جوهر الإبداع و سمو الأدب و علو النفس و الهمة و رهافة الحس و الرقة و الإنسانية و يرفع الستار عن لذيذ غزل مباح و تغني في محله بالأمجاد و بكاء على أطلال لتحيى و توجيه إلى كل المعالي في المُتناسِب منها مع الروح و المُحاذِي منها للسلوك و المُلتحم بالعمل الميداني الذي لا يخون معركة الاستواء على السوق و ضمان البقاء في وجه عوادي الزمن التي لا تكف عن العصف؛ و إن شعرا في سوى ذلك من غير أولئك هو أقرب إلى الابتذال و التسكع و الانتهازية و التطفل على موائد اللئام. صحيح كما قال الشاعر ولد لمجاد أنه لا توجد جامعة يتخرج فيها الشعراء لأن الشعر موهبة وإبداع وفتوة وانطباع وقيمة مضافة في تاريخ الفنون والشعوب والحضارات، و صحيح كما استدرك و صاغ له أمثلة مثيرة لعدم تعارض الشاعرية و العطاء العلمي و الحرفي المهني فذكر بأن محمود سامي البارودي أبرز شعراء النهضة العربية كان ضابطا في الجيش المصري، و أن حافظ إبراهيم شاعر العربية كان ضابط شرطة، و الشاعر عمر أبو ريشة عالما في الكيمياء، و نزار قباني دبلوماسيا و اللائحة طويلة... و لكن الشعر عندما يتحول بفعل الأطماع إلى مهنة تَكسب بدغدغة المشاعر و التنويم و المدح و الهجاء فإن روحه تموت و قيمته تتبخر و يفقد البلد الذي قتلته فيه شلة المتشاعرين ديوانا فتنخر و تفكك أوصاله و تذوب نضارته قبل أن يؤول إلى الاضمحلال و التلاشي... فهل نحفظ لعنواننا (بلد الشعر) بُرجه العالي أم نظل نسومه بغثاء المتشاعرين و منتشر منابر المتمالئين سوءَ التقدير و نظل بذاك نَمضي رويدا إلى اجتثاثه كما تجتث النبتة الضارة.  

النهب على إيقاع العطلة الصيفية

كلما انتصفت أو أوشكت السنة الدراسية على نهايتها و موسم الخريف على بدايته كلما زادت وتيرة الرشوة و النهب و النشاطات الهلامية التي لا تفيد و تستنزف في تمويلها المال العام لضمان عطلة الأولاد في رخاء و استمتاع بالخريف في العمق إن لم تستنزف الوجهات إلى خارج البلد ذلك المال المدخر. و يتم شفط هذا المال العام بلا رحمة  بمناسبة ورش جوفاء لا تقدم إن لم تكن لى الأرجح تؤخر في كل القطاعات و يُرى الوزراء و هم يفتتحونها كأنها "فتح تنموي مبين" و الأمناء العامون يحضرُون الكلمات الحافلة بمفردات الجد و التأطير و تعلنون باسم الوزير عن الافتتاح الرسمي و انطلاق الأشغال، تلك الأشغال التي تنتهي مباشرة بعد أن يُولي الدُّبُرَ الرسميُون و المُستشارُون و المُكلفُون بمهام و تنطفئ معهم أضواء كامرات تصوير الحدث.

و أما الأموال الأخرى فتستنزف من جباية الضرائب و انقطاع التيار الكهربائي و الماء  و تسريب البضاعة من الحدود و الموانئ و الصفقات المضخمة مع التجار و رجال الأعمال لينعم أولاد هؤلاء الموظفين و باعة "الوطن" بعطل مريحة و ليتردى أبناء الفقراء، و ما أكثرهم، في وحل الخريف إن أمطرت السماء و تطرحهم حمى الملا ريا أرضا و ليدركهم من بعد الافتتاحُ القادم و قد نقص وزنهم و ضعف نظرهم و خارت قواهم العقلية و يروا أترابهم مقبلون يثقلهم لحم الراحة و شحمها... فهل حقا في هذا إنصاف في بلد يدعي كل من فيه "رياء" أنه مسلم مؤمن يعرف الحق و يتبعه و يرى الباطل باطلا فـ ... يبيحه.

موريتانيا ضحية هوان ناطقي لغتين

في ظل غياب المناسبات العلمية في هذه البلاد ـ التي تصر على الجمود و التقوقع في ثنايا التخلف ـ يظهر فيها أهلها عبقرياتهم الملموسة على بساط الواقع كما هو الحال في كل دول الجوار المباشر، مرت مناسبتان هامتان من دون أن نستثمرها لرفع مستوانا الفكري الهابط و الثقافي المتدني و العلمي الغائب. و أما المناسبة الأولى فكانت الاحتفاء منذ أقل من شهر بـ"اللغة العربية"؛ مناسبة ضاعت بين التغني بمجدها الماضي و قرض الشعر غير الملتزم المتقوقع  أغلبُ شعرائه استعلاء و تقعرا في "اللغة العتيقة" التي أصبحت بعيدة عن مدارك التناغم مع معطيات العصر و تجليات الحداثة بمفرداتها التي تولد من رحم تلاحق التحولات فيها بسرعة المضي إلى المسقبل الذي ليس سوى حاضر مجهول. و أما المناسبة الثانية فتمثلت في الاحتفاء بالفركوفونية منذ أيام في أجواء من طاعة الفركوفونيين العمياء الواقعين تحت سحرها و قدرة احتوائها على عقول المتحدثين بها و لو كانت مستوياتهم في مثل ضعف مستويات افرنكفونيي موريتانيا الذين لا يتمتعون بجدارة الإنتاج بها حيث الموجود في الثقافة و الفكر و الأدب غث من ناحية، و تدني المستوى الذي يزداد جيلا بعد جيل من ناحية أخرى... و بهذه الوضعية الأليمة تبقى بحق موريتانيا ضحية ضعف لغة عربية رسمية لا علاقة لمتحدثيها بالعلم و التقنية و التنمية الاقتصادية، و لغة فرنسية للعمل لا ترفع من هزال مستوى المزاولين بها البلد من حضيض التخلف المرير عن ركب الأمم.

مقاييس الاعتبار العرجاء في ساحات مفترض العطاء

أو تدرون أنه في المناسبات التي تحسب على العطاء العلمي و الفكري و الثقافي كالندوات و المحاضرات و الأيام التأملية و المذاكرة حول الشخصيات المؤثرة و الأعمال الصادرة و غير ذلك من العناوين الكبيرة - و ما كل ذلك في الغالب بحافل كبير قيمة ـ لا تخفى على متابع متجرد محايد و صادق متأمل أن الاعتبار في صفوف الحضور تضبطه قائمة معدة مسبقا على أسس تجافي النزاهة الفكرية و حيادها و ترفع أهلها عن مزالق الهبوط إلى حضيض الكبر و العجب و حضور "الأنا" السقيمة في فضاء ممنوع عليها بأسوار التواضع العالية و نكران الذات في حضور المعرفة الأسمى و الأنقى و الأشمل رفعة. قائمة من الأفعال الدنيئة تبدأ بحجز الصفوف الأمامية لأشخاص دون آخرين ضربا بالحائط أنه في حضرة الثقافة "الكل سواء" و كتوزيع المداخلات على أسس انتقائية تؤخر أحيانا إن لم تمنع أحسن المتدخلين و أغنى المداخلات. و من هذه المسلكيات المشينة المجاملة الزائدة بالعناق الحار الذي تفوح منه رائحة المجاملة النتنة و الإطراء المسترسل لأفراد كأنهم الصفوة دون آخرين في انتقائية لا تستجيب لأدنى مقومات الذوق السليم و لا المعيارية العلمية، كأن المناسبة "المقامة" غير فكرية ثقافية، لاعتبارات لا علاقة لها أيضا بها إعلانا لنثر العطاء من المعارف؛ اعتبارات خلفياتها الوظيفة و المال و المكانة السياسية في دائرة الأقوياء. و في المقابل إتيان سلوك لا تخفى علاماته الهابطة و هي أقرب إلى الاستخفاف بالخارجين عن دائرة أصحاب الحظوة هؤلاء و فيهم من أصناف أهل العطاء ما لا يحصى و يعد، و افتعال إهانتهم تجسدها الجرأة السافرة على تقليص زمن المداخلات و من بعد تأخيرها لذات الأسباب، و المقاطعة الجلفة أحيانا، و تجريد الأسماء من صفاتها المعلومة البارزة الصارخة في وجوه الأدعياء و المستعلين بغير حق..  و أما الصالحون فإن متكأهم محفوظ و مقامهم معلوم و عطاءهم رحيق مختوم لا تحصره المناسبات و لا تزيده المجاملات.. و إنهم بتواضعهم تنحني الرؤوس و تخيب مقابض الفؤوس.  

من دفين الطباع... إغلاق صفحة الضمير أمام التأنيب

صحيح أننا ننتمي لفئة الشعوب التي لا تحبذ زهق الأرواح لحل المشاكل البينية و فرض حال لحيف يُجتَر أو غُبْن يتَواصل و يَدوم. و من قال يوما بإن القتل لا يكون إلا بالأسلحة البيضاء أو النارية أو بالحرق أو الإغراق أو الشنق أو بالضرب المبرح أو بالسم أو بكل فعل مادي فظيع؟

إن في جعبة إنسان هذا البلد من أسلحة القتل اللامرئية ـ غير كل تلك الأسلحة التقليدية ـ أصنافا أشنع و أبلغ أثرا في النفوس المستهدفة حيث تبقى بعد قتلها تتحرك فوق التراب "ميتة حية ". و هي الأصناف التي لا يتقن فن صنعها إلا الذين يمزجون بإحكام بين المناورة "الغرضية" لنيل المكسبين المادي و السلطوي الضيق و الواسع، و القدرة على تحرير النفس ـ لحظة "الاغتصاب" و "السطو" و "التملك" و "الهيمنة" ـ من كل خلق نبيل و قيم فاضلة، و يملكون كذلك قدرة لا حدود لها على الإقدام بجرأة مخيفة على قتل كل وازع و إغلاق صفحة الضمير أمام التأنيب. و لا عجب أن القتل هنا في الشرف "نوعية محببة" يأتي على رأس هرم كل الترسانة المتوفرة من الأسلحة الفتاكة الصامتة التي يتقنون صنعها و يجيدون استخدامها على كل جبهات الحياة. فالساحة حبلى  بالقتلى بالإقصاء داخل كل مجالات العمل في الدولة، بالإحباط في الترقيات، بالإنتكاس في غياب تثمين العطاء و التراجع في المستويات، بالعجز عن نيل الحقوق، و بالتوازي مع ذلك في التجارة، في لبعطائهم العلمي و الفكري و الثقافي، و في تقدير المواهب... الجميع يغتالهم المرجفون، و القبليون و السياسيون النتنون (الحربائيون و المغالطون حول سرائرهم) و المفسدون المستوون على سوقهم بمال النهب و سوء التسيير، و المخنثون، و الشعراء و الغاوون، و المعقدون من جهل و خواء، و المعتلون صهوات أفراس "السيبة" و مفاهيمها و عقلياتها... و النتيجة ساحة مائعة، القوي فيها هو العاجز عن سرج أحصنة النبل و إلإباء و الفكر و العطاء، و المستضعف فيها هز المحاصر المهمش و المقتول في نبله و شرفه حتى يعطل عن الاسهام بطاقاته الجمة و قدراته الفائقة فيقلب الأمور رأسا على عقب... حالة مأساوية من التناقض تشف عن ضعف بلد لم يقو على النهوض رغم مضي نصف قرن يزيد سنين من الاستقلال و الانفتاح.

مر الواقع.. نوم على دغدغة الفلكلور.. و غياب مرير عن مسرح الحضور

لا نشرات اقتصادية متخصصة تعمر الفضاء السمعي البصري، لا خبراء و محللين مختصين يتابعون تطور الحركة الاقتصادية في الصادرات و الواردات، لا بورصة تؤيد ظهور مؤشر وطني ينافس، لا علامات تشير إلى السعي من أي نوع أو درجة كان لتحويل التكنولوجيا... حالة مقلقة لجمود مريب في بلد يملك ثروات هائلة من المعادن و شاطئ يغص بالأسماك و الغاز و البترول و نهرا معطاء و أراضي خصبة و عمقا غنيا بالواحات و الماشية التي تصنف كإحدى أكبر الثروات في القارة و الأولى في الوطن العربي... في السنغال و المغرب و الجزائر قنوات تلفزيونية و إذاعات تخصصت في الشأن الاقتصادي و المتابعة بحرفية و مهنية جميع الأنشطة التنمية فيما قنواتنا تخصص أكثر من 80% من وقتها للبرامج الفلكلورية و إعادة قراءات مجترة عن غابر التاريخ و كأننا في استكشاف لهوية ضائعة.. فمتى تقف المهزلة... و نتجنب الوقوع تحت شفرة المقصلة؟

الظلم طبع أصيل و ظل ظليل

من ذا الذي لا يُظلم في اليوم ألف مرة و يَظلم ألفي مرة ثم يعمل الحساب لينام قرير العين لأنه استطاع أن يظلم ضعفَ ما ظلم. الظلم عندنا طبع أصيل و ظل ظليل و أدبه شعر جميل لا يكدر صفو مسار الحياة و لا يوقف عجلة الزمن عند محطة حسابات أو ثأر علما بأن الحسابات و الثأر جزئيات من كل الحراك، جزئيات بقدر ما تهم لا تؤثر. الأخ يظلم الأخ شقيقا أو غير شقيق و الابن يظلم الأبوين عندما يشتد عوده و يشب عن الطوق. التاجر الكبير يظلم التاجر الصغير الذي يظلم المستهلك الذي يظلم نفسه فلا يشتكي.. و لكنه إن سئل أجاب "إن لي في الرحاب من أظلمُه". الموظف يظلم و ظيفته و يشرب دمها، و السياسي يظلم خطابه السياسي العقيم فينحت لذاته خشبة و يكدر بالنشاز صفو "الجوقة السياسية" حتى تعطيه من الآلات إحداها. و المثقف يظلم رعيته الثقافية و الفكرية فيكتم عنها معرفته و يبيع لغتها الأقوياء و الحكام فيشتروا بثمن بخس ثم يجبروه على تحويلها إلى مدائح و تزكيات تعلق على جدران "وَهْمِ" وطَن عمره ست و خمسون عاما، الظُّلمُ فيه بذرة "السيبة" التي لا تقهر و لا تشيخ.

قتل المواهب

لا شك أن بين ظهرانينا مواهب من الطراز الذي تتلقفه عند ظهوره و اكتشافه معاهد البحث العلمي و مخابر التحليل و المصانع و المعاهد التقنية و دور العروض الفنية الراقية و كل جهات الإبداع و الاختراع في العالم ولا شك أنه من بيننا ظواهر في الإعجاز الأدبي و التجديد المتوازن للخطاب الديني و من القانونيين من يجددون فيشطبون و يزيدون و من المؤرخين و الانتربولوجيين و الأثريين من لهم ملكات بناء هرمنا التاريخي المشتت الحجارة، المبعثر الأركان و الغامض الأسرار أو مطمورها تحت أقل ما يلمعها و ينفض عنها أدران النسيان و التحريف، و التمكين للسلطات المعنية إلى تحويلها وجهة للاستجمام الفكري و السياحة الثقافية في دائرة بيع البلد وجهة آمنة و حافلة بمقومات انعاش العقول و إثراء المحصل الفكري. و لكن أمراض القلوب من "حسد و غل" و غيرها  التي ما زال نيرها قائما بفعل حضور عقلية "السيبة" المتسلطة بكل تجلياتها و أطرها و إملاءاتها تمنع بكل جبروتها من الخروج من دائرة احتكارية الذكاء السلبي و الفتوة المرتكسة المحجمة على شكل مرضي عن مساحات النبوغ "الحرفي" المقولب في البلد مع علامات الإحتقار حيث المخترع "معلم" و الفنان "منافق" و  الروائي "كذاب" و الصحفي الملتزم "ذرب اللسان" و الرسام "معوق عقليا" و اللائحة من المتناقضات تقض المضاجع و ترمي بالبلد في غياهب جب لا قرار له. و ما حالك حالنا و قذارة شوارعنا و فوضى  إداراتنا و قهقهاتنا الصاخبة التي تخرق جدار صمت المدنية و التحضر، و هندامنا الثقيل و لغتنا المشحونة بالرموز المرتكسة الفتقرة إلى مفردات الواقعية لذات تشذيب الحاضر بعطاءاته المذهلة و إدراك أنه المستقبل بما يحمل. فهل ندرك تلك الأبعاد و نحن ندفن مواهبنا حية كما فعل الغرب ذات يوم - لم يتكرر- بالموسيقار الفريد "Mozart" الذي مات فقيرا مستهجن الأعمال السينفونية الخالدة؛ فعل شنيع ألهم الكاتب و الطيار و الانساني الشهير الفرنسي سان اكسوبري "Saint Exupery" فكتب عن تلك الخيانة العظمى جملته الشهيرة  "إنه موزارت الذي يغتالC´est Mozart qu´on assassine"، و التي أضحت صرخة مدوية و إنذارا بمنع قتل المواهب في مهدها. فهل نسمع أم أن ... " ...عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا" ؟

 

تصنيف: 

دخول المستخدم