"في الحقيقة وبأمانة لا أجد صورا لوالدي في ذكريات وعيي الأولى إذ لم يكن عالمي في وعيي الأول يسع غير أمي ...
أذكر شدة تعلقي بها وشعور الطمأنينة في حضنها كأي طفل عادي ... قبل أن يتسع عالمي بعد ذلك ليشمل أشخاصا مميزين ومؤثرين في حياتي كجدي "الداه"عثمان ولد الدرويش وجدتي "مامة"لالة بنت سيدي ولد محمد الأمين وعمي الحسن ولد أنجيان رحمهم الله وأدخلهم فسيح جنانه .
لم ألاحظ وجود أبي مبكرا أو بمعنى أصح لم يثر اهتمامي على النحو الذي سيكون حتى جاء ذلك الصيف البهيج في شنقيط الذي لم استطع و أنا أحاول تحميض عتيق ومضات الذاكرة التعرف على أي سنة كان ولا على عمري حينها …
كل ما أذكره هو أن حجمي الصغير كان يأخذ وقتا طويلا نسبيا في قطع بعض المسافات التي يقطعها الكبار في لحظات ...
بدأت ذلك الصيف أراقبه وألاحظ اختلافه مع الآخرين بكثير من تطفل الأطفال ودهشتهم الأولى …
ببراءة خام وإدراك محدود متوشح بحب استكشاف كنت قد تنبهت لضجيج بعض الكبار لتحركاتهم حتى وهم يستعدون للذهاب إلى الصلاة عند الفجر ...وكيف ينهرون النيام بشدة وكيف يلوم بعضهم الآخر على عدم ترشيد الماء في "لمغارج" … حتى تمتمة من يضطرون إلى "اجبيد" الماء من البركة من جديد كانت تبدو صاخبة في انفعالاتهم وهم بين اليقظة والنوم (كانت البركة قد بنيت حديثا ويتم تزويدها من بئر "لعوينة" الموجودة بقرب "دار أهل انجيان الفوكانية )...
كان القادم من انواكشوط هادئا لدرجة ملفتة يستيقظ ويتوضأ ويغادر إلى المسجد ويعود دون أن يكون إلا مميزا ومتميزا عن الجميع …
ربما حجبت صورة تناغم هالة السكينة المحيطة به والوقار المشع منه صوت كل نشاز …
كان كل يوم تقريبا يكرر نفس الطقوس بوقت مضبوط حكما بانتظام دون أن تشعر برتابة مملة في الأمر فلا تكاد تمل من تأمل صباحه الذي يبدأ بالسواك والوضوء ثم الذهاب إلى المسجد وينتهي بخلود مبكر للنوم …
في حجرة حجرية متوسطة قديمة سبغ نصف حائطها السفلي بالأزرق والنصف العلوي بالأبيض كثيرة الأبواب والشبابيك المنخفضة -بالنسبة لقياسها - يرى في سقفها من الداخل بعض أنصاف جذوع النخيل رصت بعناية فوق حصائر "أوسطن" (حصائر نسجت من "اجريد انخل") كان أبي يتكئ دائما في مكانه المعتاد منذ أول انتباه لي للأمر … وكأنه يألفه أو له معه قصة خاصة وكالعادة أيضا كان يفتح حقيبة يده ويخرج الراديو ثم يبدأ بالبحث عن محطاته المفضلة …
كان يولي اهتماما بالغا بجهاز الراديو الذي طالما بدى جميلا وبسيطا ونظيفا كحال أغلب مقتنياته …في عيني كان الأمر كذلك .
كان رحمه الله يبدأ بمحطات فرنسية ويتنهي بأخرى عربية يستمع في هدوء لا يفسده صوت حركة مسبحة ذات لون أحمر عقيقي لطالما كانت ملفتة وكأنها التحفة الوحيدة في صورة وجو البساطة تلك …
لا أذكر أكثر الأذكار كان يردد حينها لكني لا أنسى كيف كان ينطق "لا إله إلا الله" بطريقة مميزة تهز حتى قلب طفلة بدت للتو نقش الذكريات في ذاكرتها الطرية ...
كان يفطر ببعض التمر وقليل جدا من النشاء ( كان يحبه طبيعيا من غير إضافة الحليب) وكانت عنده طريقة خاصة لشرب الشاي حيث يرتشف من الكأس الواحد رشفة واحدة وإن زاد اثنتين فقط فكنا نتقاتل على ما يبقى في كأسه من الشاي ... ربما لشغف الأطفال بتذوق بقايا شراب الكبار !
ما كانت الشمس ترتفع قليلا في السماء حتى يبدأ الزوار بالتقاطر على المنزل حينها فقط يمكنك سماعه يتكلم …كان عندما يرى من يكبرونه يدخلون البيت يقف ويخرج مستقبلا وتراه شديد الاهتمام بالجميع يسأل ضيوفه عن حالهم وحال أهلهم وقرابتهم في المدينة والبادية ثم يبدأ بالسؤال عن مواضع من الأرض كيف هي هل تساقطت عليها الأمطار هل يبشر حالها بشتاء فلاحي كان يطمئن على حال الجميع وكأنه يطمئن على بعض من أهله ...
كان دائما ينجح في إبقاء أغلب زواره معه لتناول الغداء والذهاب للمسجد لصلاة الظهر التي يتبعها بقيلولة على وقع أثير المذياع ...
لم يتسنى لي في ذلك الصيف أن أراقبه بعد الظهر لأنني وأخواتي كنا ندخل في هذه الفترة ما يشبه المعتقل حيث نجبر على أخذ قيلولة قسرية في "المصرية" (غرفة حجرية كبيرة تقع عادة في أطراف منازل أهل شنقيط ) بعد الغداء مباشرة لا يسمح فيها بالاستيقاظ إلا بعد حلول العصر ولا يسمح بالحرية بعدها إلا لمن شربن نشاء المساء .
كنت في هذه الفترة انتهز الفرصة لأقوم برحلة مكوكية تقودني إلى زيارة أكبر كم من أقربائي والذين كانت تربطني بأكثريتهم علاقة جد مميزة خصوصا مع كبار السن وكان والدي يأتي علي وأنا عند بعضهم والعكس صحيح ...
كانت الغالبية من كبار السن يحدثوني أحيانا بشكل أسطوري عن جدي انجيان وينشدون علي بعضا مما قيل فيه مدحا ثم يحدثوني عن طفولة أبي "اندلس" (اللقب الذي كانت تلقبه به أمه )
كانوا يجمعون تقريبا بأنه كان قليل الكلام أديب لدرجة حملت أمه مريم بنت اعل رحمها الله على الخشية من أن يجوع أو يمرض دون أن يعبر أو يشكو الأمر الذي فسر اهتمامها بأكله وراحته على غير العادة في تربية الأولاد كما أخبرني ذات مرة بعض أعمامي رحمهم الله …
كنت أحرص في المساء على أن أعيد على مسامعه رحمه الله ما سمعت منهم وأمطره بسيل من الأسئلة بعدها وكنت لشدة انصاته لي وانتباهه لما أقول أتوقع أن تكون قصتي لما قبل النوم حكاية عن أمجاد انجيان لكنه كان على عكس ما اتوقع يبتسم ويسألني سؤال يحول انتباهي إلى موضوع آخر دون أن أشعر بالأمر فتتحول قصتي لما قبل النوم إلى مجال بعيد من دروب الفخر والحماس …
أذكر جيدا كيف سألني ذات مساء هل زرتي اليوم خالتك فاطمة بنت اعل (خالته) رحمها الله فأجبت بسرعة نعم فقال لي هل تعرفين أنك سميت على اسمها ؟
قلت أخبرتني أمي بذلك فأردف قائلا وضحكة خفيفة تعلو محياه وماذا أعطتك ؟ واستطرد قائلا يجب أن تعطيك شيئا لقاء تسميتك باسمها أو غيري اسمك !!
قلت له بعد تفكير سريع حسنا سوف أسألها شيئا لقاء اسمي في الغد …
ذهبت باكرا في اليوم الموالي إلى منزل أهل أعل فوجدتها جالسة تنسج حصيرا من "اجريد" …
لا أتذكر أنني سلمت بل دخلت في الموضوع مباشرة وطلبت منها أن تعطيني شيئا لقاء تسميتي باسمها وحاججتها بما دار بيني وبين الوالد البارحة فقالت لي دون أن تفسد تركيزها في نسج الحصير فعلا يتوجب علي أن أعطيك شيئا لكنني يابنتي لا املك إلا هذه القطة مشيرة لبرهة إلى هرة تتكئ بكسل بجانبها فإن شئتي خذيها وإلا غيري اسمك !
لم يكن مني إلا أن رجعت للبيت غاضبة و لم أجد فرصة للحديث معه رحمة الله عليه إلا مساء ولما أخبرته بما كان من خالته ومني قال ضاحكا أنت "مبلوكة" وخالتي كريمة قلت كريمة !!! ولم تجد ما تعطيني إياه إلا قطة !!! فأخذ يشرح لي قائلا هي كريمة جدا لأنها أعطتك كل ما تملك كان من الممكن أن تعطيك بعضه كأن تنتظر أن تلد القطة وتعطيك أحد أبنائها مثلا .
بنبرة غاضبة أنهيت النقاش بأني لا أريد قططا ولا أريد شيئا ليرد علي ب حسنا إذن أنا على حق انت "مبلوكة" .
حقيقة لم أستوعب معنى الكلمة حينها لكني شعرت بأنه نعت سيئ …وعندما هممت بالذهاب ناداني تعالي هنا لم ينتهي الأمر بعد فقلت ماذا تريد؟ قال لم تخبريني وماذا فعلت أنت "لتقراتك " قلت لا شيء تبسم مرة أخرى وقال إذا كان عليها أن تعطيك شيئا مقابل الاسم فإنه عليك أيضا خدمتها لأنها "تقراتك" وخالتك معا.
وقفت قليلا أفكر في معنى كلامه ولما لم أهتدي بسرعة على المقصود منه انطلقت بسرعة الريح لألتحق بجوق "جريكان لعزب" وأنا أسمع ضحكته وهو يقول "مري الهيه يالبخنوسة"…
ياااااه ! … كيف للقب مريع أن nيكون بذلك الجمال عندما ينطقه؟!
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته وجميع موتانا وموتى المسلمين والمؤمنين
فاطمة محمد الأمين انجيان
تصنيف: