إن الموضوع المتناول في هذا العرض ليس في الحقيقة إلا محاولة إبراز ملمح من ملامح الثقافة العالمة في عالم البدو الصحراوي، انطلاقا من الحد الذي وصلت إليه الشخصية البدوية العبقرية من علوم دقيقة كالرياضيات والكيمياء وعلم الفلك و غيرها.كما أنه يعتبر استخلاص دروس الماضي وعبره لتوظيفها الايجابي في ترشيد الحاضر الثقافي.
لقد ظل هذا المنوال من ثقافة البدو الصحراوي، أي العلوم الدقيقة، بعيدا كل البعد عن الأذهان رغم أنه جادت عبقريات أهل البدو فيه و أثبتت جدارتها في تناوله و برهنت على نجابة فكرها. و لعل هذه المحاولة تتصدى أيضا لمعالجة العقد السائدة تجاه ثقافة البدو؛ والتي لاشك أنها غير منصفة؛ وذلك من خلال تسليط الضوء على عالم اهتم من خضم باديته بنظريات إقليدس و جالينوس و غيرهم رغم البعد الزمكاني.
و في هذا المضمار نستطرد قصيدة الشيخ محمد المامي التي تتناول عد الحصا حيث يحيل إلى اقليدس صاحب كتاب الأصول الهندسية و الذي لم يزل إلى أيامنا هذه أفضل ما صنف في هذا الفن.
يقول الشيخ:
اسْتَـغْـفِرُ الله مِـنْ تَقْـرِيبِ مَـا بَعُـدَتْ
عَـنْـهُ القَـرَائِـحُ مِـنْ أَقْـوَالِ الأْشْـرَافِ
مَـعْ أَنَّ فيِ ذَاكَ تَـذْرِيبـًا لِخـائـنهـا
وَ نَـشْـلَ كُـلِّ غَـرِيـقٍ مُـنْكِرٍ جَـافٍ
فَـارْدُدْ إلى كُـتُبِ اقْـلَيْـدِيسَ مَـا كُرَةً
فَـاقَـتْ مُـرَبَّـعَـةٌ بِـهِ فِـي الاطْـرَافِ
أَوَ كَـوِّرَنْ كُـرَة ً كَـانَـتْ مـربَّـعَـةً
يُـسَـاوِ خَـيْـطٌ بـِأَرْبَـاعٍ وَ أَنْـصَـافِ
وَ لِلْـبُيُـوتِ اعْتَبِرْ فِـي لَفْـظِ عِـدَّتِـهَا
فَالْبَـاءُ مِنْ دَبْـجِ لِلْعِـشْـرِيـنَ كَالْكَـافِ
وَ مـِنْ عُقُـودٍ كمَـا لِلْمِيلِ مـِنْ رُتَـبٍ
إِنَّ اسْـمَ ذَا الْحَـبْلِ مِـنْ مَـعْلُومِـهِ كَـافِ
وَ لَيْسَ مُـعْـتَـبَرًا خِـلاَفُ تَـسْمِـيَّـةٍ
فَـلاَ تُـطِـيـعَـنَّ فِـيـهِ كُـلَّ حَـلاَّفِ
فَالـدَّرَجَـاتُ قَصَرْ أَمْـيَـالُ وَاحِـدِهـَا
وَوَوْ وَ ثُـلْـثَـانِ لِلْمَـاشِـي بِالاَحْـقَـافِ
سِتَّـةُ آلاَفِ مِـيلٍ طُـولُ بُـقْـعَـتِنـَا
وَ سَـطْـحُـهُ وَجُّ مِــنْ آلاَفِ الآلاَفِ
وَ وَيْبَ مِـنْ أَلْفِ أَلفِ الاَلْـفِ تَـعْمُقُهَـا
وَ الْمِيلُ دَبْـجُ أُلُـوفٍ مـِنْ حَـصَـانَا فِـي
بَيْتِ الْمِئِينَ وَ سَطْـحَ الْمِـيلِ نَـعْلَـمُـهُ
بِـدَبْـجِ دَبْـجٍ بِـإِمْـعَـانٍ وَ إِنْـصَـافِ
وَ عُمْقَ دَبْـجٍ بِدَبْـجِ الدَّبْـجِ نَـعْلَـمُـهُ
كَعـِلْمِنَا أَلْـفَ أَلْـفِ الاَلْـفِ وَ الْـقَـافِ
وَ الدَّبْجُ مِـنْ عَـدَدِ الأَمْـيَالِ فَـارْقَ لَـهُ
تُـخْرِجْ لَكَ الأَرْضُ تَـعْـدَادَ الْحَـصَـا وَافِ
إِنْ كُنْتَ تُـنْكِرُ ذَا يُـنَبِئْـكَ عَـنْ عُرُضٍ
إِمَـامُ حَـيٍّ بِقُـسْـطَـلاَّنَ مُـصْـطَـافِ
صَـلَّى الإِلَـهُ عَـلَى خَـيْرِ الْـوَرَى أَبَـدًا
أَضْـعَـافَ ذَلِكَ فِي أَضْـعَـافِ أَضْـعَـافِ
إنه من الصعب سرد كل التجارب العلمية التي استحوذت اهتمام العالم. و مع ذلك، ففي عام 2002 خلال استطلاع أجرته مجلة ’’عالم الفيزياء’’ حدد باحثون متميزون ما كانوا يجدونه برأيهم أجمل التجارب العشرة في تاريخ الفيزياء، و التي تم إعدادها في المختبرات ذات الموارد المحدودة جدا مع قلة المساعدين و بدون استخدام أجهزة المعلوماتية. فقد اشتركت لدى هذه التجارب خلاصة رائعة الملامح في العلوم الفيزيائية، سواء تعلق الأمر ببساطة المعدات أم بالتحليل المنطقي.
و إذا كانت من ضمن هذه القائمة التجربة التي توضح طبيعة الكم في العالم المادي و احتلت المركز الأول، فإن التجارب التسعة المتبقية يقدمن مسحا لألفي سنة من الاكتشافات. و في المركز السابع نجد مقياس محيط الأرض لإراتستينس في القرن الثالث قبل الميلاد.
إن العلماء اليونانيين في العصور القديمة هم في الواقع أول من استدرك الشكل الحقيقي للأرض و محاولة قياسها. ففي القرن الرابع قبل الميلاد كان أرسطو يدرك أن الأرض مستديرة و هي الأطروحة التي دافع عنها في مؤلفه المعنون ’’بالسماء’’ حيث استنتج أن محيط الأرض يقاس بـ 400.000 سير أي ما يناهز 9.987 ميل جغرافي حيث كان السير اليوناني يقدر بـ 164 متر. و هو ما يعني أن تقديره كان يفوق القيمة الفعلية لمحيط الأرض بمرة و نصف. و قد اعتبر المؤرخون هذا العمل أقدم طرح حسابي متعلق بمحيط الأرض.
و في القرن الثالث قبل الميلاد، بعد حساب أرسطو، تعاقبت نتائج أعمال أرخميدس و إراتستينس مبرزان على التوالي مقاييس الأرض بمقدار 7495 و 6292 ميل جغرافي. واليوم يقدر محيط الأرض بـ 5400 ميل جغرافي.
وفي الواقع، كان إراتستينس أول من ظفر بتحديد طول خط الطول الأرضي حسب استخدام أساليب تعتمد أسسا علمية سليمة.
منهجية إراتستينس
افترض إراتستينس في البداية أن الأرض كرة مضاءة بشكل موحد من قبل أشعة الشمس المتوازية فيما بينها. و بناء على هذا الافتراض تم تصور الفكرة الرائعة لقياس طول خط الطول. فكان يكفي لذالك ضبط حساب زاوية قوس خط الطول التي تشكلت في مركز الأرض، كبيرة أم صغيرة فهذه الزاوية ستقاس بالتحديد على سطح الأرض.
إذًا، انطلاقا من هذا المنظور لجأ إراتستينس إلى مبدأ من مبادئ علم الهندسة المبسط للكرة أو الدائرة.
و كمرجع أول لضبط حساب الزاوية، اختار إراتستينس البلدة القديمة لأسوان لأنه لاحظ أنه في الانقلاب الصيفي عند الزوال بالضبط، عندما تكون الشمس في أوجها، قد لا يوجد للمسلاّت ظل كما أن الشمس أيضا تنعكس مباشرة في قعر البئر. و هذا يعني أن الشمس توجد تماما في الاتجاه العمودي و بطبيعة الحال تسقط أشعتها عموديا في البئر. وكان مرجعه الثاني لحساب الزاوية المقابلة مدينة الإسكندرية التي تقع شمال أسوان.
و عليه، افتراضا أن الشمس تقع في مكان بعيد عن الأرض بحيث أن أشعتها تسقط على كوكبنا بالتوازي، استنتج إراتستينس في هذه اللحظة بالذات في الإسكندرية أن أشعة الشمس لا تقع عموديا بل تشكل زاوية مع الخط العمودي: فكانت للمسلاّت ظلال، الشيء الذي أكد أن افتراضه العبقري كان صحيحا. فلأرض على شكل منحني، فلو كانت مبسوطة لكانت المسلاّت ذات نفس الارتفاع متوازية فيما بينها. و كما هو الحال في أسوان فتكون مسلاّت الإسكندرية منعدمة الظلال.
إذًَا، بادر إراتستينس في نفس الوقت بقياس طول مسلّة ضخمة ذات ارتفاع معروف. و باعتبار معرفة الأضلع المتعامدة من خلال المثلث القائم الزاوية المتكون من ارتفاع المسلّة و طول الظل استنتج بسهولة الزاوية المقابلة. فوجد أن الزاوية تساوي واحد من خمسين من القوس للدائرة الكاملة أي
.360/50=7,2 أو w=7°12’
وكما أن أشعة الشمس تسقط بالتوازي وبصفة عمودية على أسوان، استخلص أن هذه الزاوية هي نفس الزاوية التي توجد في وسط قوس الإسكندرية-أسوان.
كان إراتستينس يعرف المسافة بين أسوان و الإسكندرية و التي تمّ قياسها بالسير من قبل عدادين مهنيين آنذاك، حيث كان هذا الطول يقدر بـ5000 سيرا.
إذًا، انطلاقا من ذلك الافتراض العبقري أن الإسكندرية و أسوان توجدان على نفس خط الطول و أن هي نفس الزاوية لقوس 5000 سير، ضبط حسابيا إراتستينس أن قيمة خط الطول يمثّل 7°12’الزاوية
خمسين مرة المسافة الفاصلة بين المدينتين، أي سير360/7.2 x 5000 = 250 000
.(41 000كلم )
و عليه، فباعتبار أن إراتستينس استخدم وحدة القياس المشتركة اليونانية أي السير (حوالي 164 م )، فكان قياسه يزيد قليلا بـ1000 كلم على الطول الفعلي للأرض المقدر بـ 40000 كلم.
وتتقارب نتائج أعمال إراتستينس مع ما ينقل لنا الشيخ محمد المامي، دون أن ينقاد أو يستسلم لتلك الاستنتاجات التي كانت تعتمد أساسا الملاحظات و التجارب، حين يقول:
سِتَّـةُ آلاَفِ مِـيلٍ طُـولُ بُـقْـعَـتِنـَا….
مقدرًا طول خط الطول، بقيمة تتوسط أعمال إراتستينس و أرخميدس.
و هو ما يعني أن طول خط الطول يعادل 6000 ميل جغرافي. و الميل الجغرافي كان يقدر في بعض الأحيان بـ 164 متر، بعتبار أن قيم المقاييس كانت غير موحدة، الشيء الذي لمح إليه الشيخ حين يقول في نفس القصيدة:
وَ مـِنْ عُقُـودِ كَمَـا لِلْمِيلِ مـِنْ رُتَـبٍ
إِنَّ اسْـمَ ذَا الْحَـبْلِ مِـنْ مَـعْلُومِـهِ كَـافِ
وَ لَيْسَ مُـعْـتَـبَرًا خِـلاَفُ تَـسْمِـيَّـةٍ
فَـلاَ تُـطِـيـعَـنَّ فِـيـهِ كُـلَّ حَـلاَّفِ
ويضيف الشيح افتراضات متعلقة بأشكال هندسية ترسم مربعا في دائرة مفروضة وكذلك مربعا محيطا بدائرة مفروضة للتمكين من ضبط سطح الأرض حين يقول:
فَـارْدُدْ إلى كُـتُبِ اقْـلَيْـدِيسَ مَـا كُرَةً
فَـاقَـتْ مُـرَبَّـعَـةٌ بِـهِ فِـي الاطْـرَافِ
أَوَ كَـوِّرَنْ كُـرَة ً كَـانَـتْ مـربَّـعَـةً
يُـسَـاوِ خَـيْـطٌ بـِأَرْبَـاعٍ وَ أَنْـصَـافِ
هكذا استمر الشيخ محمد المامي ضمن قصيدته في طرح الافتراضات العلمية أو إثبات عكسها، دون أدنى جمود على النص، معتمدا أسلوبه التربوي المعروف، الذي يقتضي تبسيط البعيد المجهول بالقريب المتناول، رافضا القاعدة الخلدونية التي تعزل البدو عن الثقافة العالمة.
السلام عليكم ورحمة الله
محمد المامي ولد أحمد بزيد
محافظ زاوية الشيخ محمد المامي
تصنيف: