غني عن البيان بيان العلاقة بين شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولغة العرب ذلك لأن القرآن بلغتهم نزل. قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء: 192 - 195]
وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} [النحل: 103]
وغني عن البيان أيضا أن عادات العرب بعضها جاء الإسلام من أجل تكريسه وإتمامه كما صح عن سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ).
المقصود من هذه المداخلة ليس هذا ولا ذاك غير أن المداخلة تستهدف بيان أهمية اللغة العربية ومكانتها في عملية الاستنباط والاجتهاد الفقهي .
ذلك لأن العلماء من لدن الشافعي وحتى أبي اسحق الشاطبي متفقون على الإقرار بان الجاهل بلغة العرب جاهل بالشريعة وإن كان حافظا للمرويات والأخبار وأن العالم بلغة العرب عالم بالشريعة وإن كانت بضاعته مزجاة في المرويات والآثار .
ذلك لأن فهم الشريعة والتعرف على مقاصدها منوط بمعرفة لغة العرب و بأساليب خطابهم .
ولقد اعتبر الشاطبى مقصد الإفهام وفق أساليب العرب مقصدا من مقاصد الشريعة. فقال فى الموافقات :"إن هذه الشريعة المباركة عربية ، لا مدخل فيها للألسن العجمية ، وهذا - وإن كان مبينا في أصول الفقه ، وأن القرآن ليس فيه كلمة أعجمية عند جماعة من الأصوليين ، أو فيه ألفاظ أعجمية تكلمت بها العرب ، وجاء القرآن على وفق ذلك; فوقع فيه المعرب الذي ليس من أصل كلامها - فإن هذا البحث على هذا الوجه غير مقصود هنا .
وإنما البحث المقصود هنا أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة ، فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة فمن أراد تفهمه; فمن جهة لسان العرب يفهم ، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة ، هذا هو المقصود من المسألة ".
ويقرر الشاطبي الأثر المترتب على عربية الشريعة ، حيث يقول :
"فإن قلنا : إن القرآن نزل بلسان العرب وإنه عربي وإنه لا عجمة فيه ، فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها ، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره ، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه ، وبالعام يراد به الخاص ، والظاهر يراد به غير الظاهر ، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره ، وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره ، أو آخره عن أوله ، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة ، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة ، والأشياء الكثيرة باسم واحد ، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها .
فإذا كان كذلك فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب .
فكما أن لسان بعض الأعاجم لا يمكن أن يفهم من جهة لسان العرب ، كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة فهم لسان العجم; لاختلاف الأوضاع والأساليب .
وقد نقل الزركشي عن جمهور العلماء عدم وجود غير العربي في القرآن، ومن هؤلاء أبو عبيدة، والطبري، والقاضي أبو بكر بن الطيب في" التقريب"، وابن فارس اللغوي، والشافعي في" الرسالة".
ولقد اعتبر الشاطبي أن التمكن من لغة العرب شرط فى الاجتهاد حيث يقول إن المجتهد يجب أن يكون ( مجتهداً في اللغة العربية حتى يفهم الشريعة ويكون اجتهاده صحيحاً خاصة إذا كانت المسألة المجتهد فيها لها اتصال بالاستنباط من الخطاب الشرعي وليست خاضعة للنظر المصلحي ...)
(فالشريعة عربية ،وإذا كانت عربية ؛ فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم ؛ لأنهما سيّان في النمط...فإذا فرضنا مبتدئاً في فهم العربية ؛فهو مبتدئ في فهم الشريعة ،أو متوسطاً فهو متوسط في فهم الشريعة ،والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية ، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة ، فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة .
فمن لم يبلغ شأوهم ،فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم ، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة ، ولا كان قوله فيها مقبولاً..".
و يقرر الشاطبي في كتابه الاعتصام أن من أعظم أسباب الابتداع في الدين عدم معرفة لسان العرب ...
فيأتي المرء فيفهم من الخطاب الشرعي غير ما أُريد به لأجل الجهل بأساليب العرب) ..
والشواهد على أهمية معرفة لغة العرب كثيرة منها ما وقع للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما استشكل قوله تعالى (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
سأل الفاروق أحد الأعراب ما معنى التخوف قال التنقص. قال: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعرنا.
تَخَوَّفَ السَّيْرُ منها تامِكاً قَرِداً. . . كما تَخَوَّفَ عودَ النَّبْعةِ السَّفَنُ
يصف ناقة وأن السير تنقص سنامها بعد تمكنه واكتنازه.
والمعنى : أي من رحمته أن أمهل فجعل فسحةً للتوبةِ.
فقال عمر: أيها الناس، عليكم بديوانكم لا يضل. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم
ومن أمثلة أهمية معرفة عادات العرب أيضا ما وقع للصحابة في فهم الآية الكريمة : (إن الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158).
جاء فى جامع البيان المعروف بتفسير الطبري
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثني أبو الحسين المعلم قال، حدثنا شيبان أبو معاوية، عن جابر الجعفي، عن عمرو بن حبشي قال، قلت لابن عمر:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حَج البيتَ أو اعتمر فَلا جُناحَ عليه أنْ يَطَّوَّف بهما" قال، انطلق إلى ابن عباس فاسأله، فإنه أعلم من بقي بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. فأتيته فسألته، فقال: إنه كان عندهما أصنامٌ، فلما حُرِّمْن أمسكوا عن الطواف بينهما، حتى أنزلت:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حَج البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أنْ يَطَّوَّفَ بهما" (1) .
ومن الشواهد على أهمية معرفة أسباب النزول وهى فى حقيقتها علم بسياق النزول وحال العرب وقت نزول القرآن .
ما وقع لابن مسعود رضي الله عنه فقد جاءه رجل وقال تركت فى المسجد رجلا يفسر القرآن برأيه يفسر
قوله تعالى :
(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)
قال يأتى الناس يوم القيامة دخان فيأخذ بانفاسهم حتى يأخذهم كهيئة الزكام
قال ابن مسعود من علم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فغن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به الله أعلم إنما كان ذلك لأن قريشا استعصوا على النبي صلى الله عليه وسلم فدعى عليهم بسنين كسني يوسف حتى أكلوا العظام فجعل الرجل ينظر الى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد فانزل الله هذه الآية .
ولقد كان أول الابتداع والغلو من العجم بسبب عدم معرفتهم لأساليب العرب سئل نافع كيف يكون رأي ابن عمر في الحرورية قال هم شرار الخلق إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين .
وبالنظر الى أهمية معرفة اللغة فقد أثر عن العلامة الجرمي قوله "أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس [في الفقه] من كتاب سيبويه".
وشاع فى المقولات السائرة :من تكلّم في الفقه بغير لغةٍ تكلم بلسان قصير"!
و نخلص مما تقدم إلى نتائجَ من أهمها:
_ العربية الفصحى هي وعاء الإسلام، فالاعتناء بالعربية عناية بالاسلام والرغبة عنها رغبة عن الدين
= درجة الاجتهاد واستنباط الأحكام ومعرفة مقاصد الشريعة منوطة بمعرفة لغة العرب وأساليب الخطاب عندهم
_لا بدّ من معرفة عادات العرب أيام نزول الوحي؛ لأن القرآن نزل مراعيًا عُرْفَهم في الخطاب فلا يعرف الاسلام من لا يعرف الجاهلية .
• وجوب الاهتمام باللُّغة العربية لأنَّها تمثِّل الهوية الحضارية للأمة الإسلامية.
• كل استهدافٍ أو طعن في اللغة العربية فهو في حقيقته استهدافٌ للقرآن، ومن ثمَّ لهوية المسلمين وحضارتهم.
---------------------------------------
⃰ محاضرة ألقاها عضو المجلس الإسلامي الأعلى الدكتور الشيخ ولد الزين ولد الامام في إطار ندوة حول العربية نظمها مركز الدفاع عن العربية فى فندق موريسانتر منذ يومين.
تصنيف: