صدق الببغاء... / بقلم البخاري محمد مؤمل

صدق الببغاء...

حدثتني منذ تاريخ بعيد جدتي اخْويرَهْ - تغمدها الله برحمته الواسعة - في إحدى ليالي السمر الجميلة التي كانت تقضي مع احفادها؛ حدثتنا أنا وابن خالتي بأنه كان في سالف الزمان رجلان يسمى كل واحد منهما محمد: احدهما تاجر ثري .. والآخر قائد سياسي ذكي حكم البلاد بمساعدة حلفاء كثيرين من أبرزهم التاجر الثري. كان الرجلان صديقين حميمين وكانت تربطهما أواصر قربى متينة تعود لانتمائهما لنفس القبيلة ولنفس الجيل. ثم شاء القدر أن تحولا فجأة إلى عدوين لدودين دون أن يعرف الناس ما هو السبب في البغضاء الشديدة التي فرقت بينهما. وعلم الناس أن محمدا التاجر هاجر الأوطان.. وشاع فيهم أنه يعمل ما بوسعه انطلاقا من مكان إقامته البعيد على الإضرار بخصمه مستثمرا قسطا وافرا من ماله الكثير في سبيل الإطاحة بحكمه.

وبقي الشعب مذهولا.. مرتبكا..  أمام هذا الوضع الغريب. وذهب كل أحد يؤل الأمر بما فاضت له به قريحته. بعضهم ذكر أن محمدا الحاكم السياسي ألزم محمدا التاجر بأن يدفع لبيت المال مستحقات قديمة عليه كان الحاكمون السابقون يغضون الطرف عنها.. وأن هذا الأخير رأى في الأمر مكيدة خفية يراد منها المساس به شخصيا : بشرفه.. بثروته..  بأمنه... وقالوا أنه اتهم ابن عمه الحاكم بخيانته وبعدم الاعتراف بالجميل. وبأنه حلف على أن يقتص منه باشنع طريقة..

والبعض رأى في الصراع الظاهر بين ابني العمومة خدعة كاذبة حاكها الْ"محمدان" لتضليل الناس.. لكن القائلين بهذه الفرضية بقوا عاجزين عن تقديم براهين  يمكن الرجوع إليها لاثبات أطروحتهم النافية لأي صراع بين الرجلين.

نوع آخر من الناس رحب بالأمر. وانقسم إلى صفين كل واحد منهما خلف أحد "المُحمَّديْن" المتصارعين، حسب المُبتغَى الشخصي الدافع لكل فرد: الجاه والنفوذ السياسي بالنسبة لأعضاء الفريق التابع  لمحمد السياسي ؛ والمال بالنسبة لأصحاب محمد التاجر.

من بين الفريقين تولد صف ثالث حاول استغلال الفرصة ليجمع المال ويتباهى بممارسة السياسة. أعلن هؤلاء عداءهم لمحمد الحاكم وابلغوا خصمه التاجر بولائهم له ومشيهم معه. قال له جزء منهم :

"أنت تعرف مدى معارضتنا منذ البداية لهذا النظام منذ نشأته.. الذي ظلمك و ضايقك..."

قال معارضون آخرون برزوا بعد مغادرة محمد التاجر للبلاد :  

" كل من عاداك فنحن له بالمرصاد."

قال له الجميع :

" ما عليك إلا أن توفر لنا ما نحتاجه من مال للقيام سريعا بثورة قاضية ضد هذا النظام.. فنحن نتكفل بإزالته في أيام معدودات.. لأن الشعب كله معنا ولا ينتظر ليثور ضده ويطيح به سوى إشارة صادرة منا."

صدقهم محمد التاجر وانصاع لطلبهم. غير أنه انتظر كثيرا ما وعدوه به.. وبعد فترة طويلة، بدأت الشكوك تراوده.. متسائلا باستمرار :

"هل أهل الأحزاب كذبوا علي؟"

  انتهى به الأمر إلى اليقين بأنهم خدعوه.  وتبين له أنه صار من الصعوبة بمكان استدراك الموقف.. متذكرا مقولة عسكرية تعلمها قديما وهو في سن المراهقة لما كان يتردد بانتظام على قاعات سينما "المونا" التي تعرض الكثير من أفلام الحرب: "جميع  الحروب الخاسرة يمكن تلخيصها في كلمتين : فات  الأوان"، تقول المقولة.

قضى أياما وليالي كثيرة يفكر في خيانة السياسيين له وفيما آلت إليه علاقاته من سوء مع صديقه وقريبه الحاكم.. حتى صار الأمر يؤرقه ليلا ونهارا.

 وذات مساء.. وهو في  إحدى سهراته الطويلة.. وحيدا في مكتبه الفاخر الموجود إلى جانب غرفة نومه.. جاءت إليه إحدى  خدمه.  ودخلت دون أن تستأذن.. والعرق يتصبب من جبينها. استغرب محمد التاجر سلوكها.. وهو يعلم مدى انضباطها ووفائها. فسألها.. حائرا :

" خيرا.. يا خاديجه ǃ لما ذا لا تنامين في هذا الوقت المتأخر من الليل؟"

ردت عليه - مشيرة بإصبعها إلى القفص الموجود في البالكون:

"أما سمعت ما يكرره الببغاء منذ ساعات ؟ أنا هي من علمته هذا الدعاء. كنت أكرره على مسمعه ردا على القوم الذين كانوا  يجتمعون بك كثيرا في الأشهر الماضية..  وما زال بعضعهم يزورك من وقت لآخر".

واصلت خاديجه حديثها:

   "لقد كنت اختلس السمع مرة.. لما سمعت أحدهم وهو يقول لرجلين كانا في رفقته بعد خروجهما من مكتبك..قال لهما  أنك لا تعرف السياسة.. وأنهم أوهموك بأشياء ما نزل بها من سلطان.. ليأخذوا منك مالا.. مدعين أنهم سيقتصون لك من ابن عمك.. وأنهم  سيدمرون  سلطان هذا الاخير..."

قاطعها  قائلا بأدب - لكن بنبرة آمر صارم يعرفها مرؤوسوه وخاصة خاديجه :

"شكرا لك على ما تفضلت به... الآن انصرفي إلى غرفتك واستريحي..."

نفذت عاملة المنزل الأمر فورا وبدون ادنى تردد...  ثم بدأ محمد التاجر بدوره يدرب الببغاء على الكلام الذي كانت خاديجه تعلمه .. والطائر قابع على أصابعه .. يكرر بعده :   

"اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن".

وهنا طلبت منا جدتي أن نعيد بعدها :

"آمين يا رب العالمين."

ففعلنا؛ ثم دعتنا إلى النوم.. معلنة نهاية السمر...

البخاري محمد مؤمل

تصنيف: 

دخول المستخدم