في إطار الحوار السياسي الوطني الدائر الآن في قصر المؤتمرات بنواكشوط، يشكل تغيير العلم والنشيد الوطني أحد المواضيع المثيرة للجدل بوصفهما على رأس الرموز المؤسسة للدولة التي أدى نقاشها إلى إثارة أسئلة جوهرية مهمة نتوقف هنا على ما يتعلق منها بالعلم: على أي أساس وكيف تم إعداد العلم الوطني الحالي ؟ من هم الذين تولوا تصميمه ؟ وما هي دلالاته؟ وأين مكامن النقص فيها؟ وما هي الحلول البديلة الكفيلة بعلاجها؟
حول هذه الأسئلة، كتب الباحث والسياسي محمد اسحاق الكنتي الأمين العام المساعد لرئاسة الحكومة الورقة التالية تحت عنوان "قصة علم".. وهي تسرد ثلاث روايات مختلفة حول الطريقة التي تم بها تصور ورسم العلم الوطني الموريتاني وحول من قاموا بتصميمه.. مبينا نقاط الضعف في كل رواية.. قبل أن يخلص إلى أنه لا مانع من تغيير العلم الحالي من أجل تصحيح النواقص التي تشوبه.
" قصة علم
لعل من محاسن الحوار الجاري هذه الأيام بين أطياف واسعة من الشعب الموريتاني أنه تجاوز التجاذبات السياسية حول المناصب العليا وإدارة وتسيير المرافق العمومية إلى الرموز الوطنية، متسائلا حول العلم والنشيد والشعار... لكن التساؤل توقف عند إعلان المواقف بين مؤيد لإعادة النظر في هذه الرموز ومتشبث بها تشبث الغريق بالقشة. ولعل الموقف الصحيح يكمن في معرفة الظروف التي أحاطت باختيار العلم وعزف النشيد، وصياغة الشعار، ثم تبني المواقف في ضوء ذلك...
لم يكن أي من هذه الرموز الثلاثة حاصل إجماع وطني حول مقترحات توجت باستفتاء شعبي، كما يدعوا إليه المتحاورون اليوم، وإنما تم اعتمادها من طرف نخبة سياسية ضيقة، أحادية التوجه والثقافة، قليلة الخبرة. فهناك ثلاث روايات تحدثنا عن الظروف التي أحاطت باختيار العلم الوطني تظهر كلها ارتجالية الاختيار وتأثره بالعوامل الخارجية، والميل إلى الاقتباس بدل الحرص على الأصالة والتجذر في الثقافة الوطنية. نجد هذه الروايات في مؤلف الأستاذ سيد أعمر ولد شيخنا: موريتانيا المعاصرة، شهادات ووثائق، الجزء الأول.
تقول الرواية الأولى.." يروي الأستاذ محمذن ولد باباه فإنه، صحبة آخرين، في مدينة أندر، ¬¬¬سان لويس، قدم لهم المختار ولد داداه مقترحه للعلم الوطني، وقد كان عبارة عن رأس جمل في إشارة إلى الطبيعة الصحراوية للبلاد، ولكن ولد باباه تدخل قائلا إن الأعلام ينبغي أن تعبر عن الخلفية الحضارية للشعوب، وإنني أقترح اللون الأخضر الذي هو لون إسلامي أصيل بدل الألوان الحمراء المنتشرة الآن وذات الخلفية اليسارية، كما اقترح على غرار علم الجمهورية الإسلامية الباكستانية المماثلة لنا أن يكون وسط هذا العلم الأخضر هلال ونجمة اللذان يجدان أيضا دلالة في تراثنا الإسلامي."، ص:53
تظهر الرواية أن مقترح المختار ولد داداه رحمه الله مال إلى رمزية المكان على حساب السكان، بينما كانت ملاحظة ولد باباه في مكانها، لكنه، هو الآخر تجاهل السكان. لقد كان موفقا في اختيار الأرضية الخضراء للعلم لما فيها من رمزية لشعار الإسلام، لكن استنجاده بالباكستان" التي تشبهنا" لوضع الهلال والنجمة على الأرضية الخضراء تعني تجاهلا للسكان وثقافتهم وتاريخهم. فالبحث عن صلات بعيدة تجمعنا بباكستان لنستجلب علمها يدل على انعدام الشعور بالرمزية المحلية للعلم الوطني. ولست أدري وجه الشبه بيننا مع الباكستان، إذا استثنينا صفة الإسلامية! أما دلالة الهلال والنجمة "في تراثنا الإسلامي" فتحتاج إلى تأصيل. فلم يكن الهلال والنجمة شعارا للإسلام، وإنما اتخذتهما الدولة العثمانية شعارا لها، وقد عرفا لدى حضارات سابقة على الإسلام. أضف إلى ذلك أن البعد الآيديولوجي لم يكن غائبا عن اختيار العلم بلونين؛ فولد باباه ينفر من اللون الأحمر لرمزيته اليسارية، غير المحبذة لدى الحكومة الفرنسية التي "منحت" الاستقلال... مرة أخرى تتدخل العوامل الخارجية في اختيار العلم الذي ينبغي أن تتماشى ألوانه مع ذائقة المستعمر. لكن ولد باباه لم يتساءل عن سبب اختيار اليساريين للون الأحمر ليدرك أنه يرتبط بالتضحيات التي سالت فيها الدماء غزيرة دفاعا عن أوطان، أو مبادئ، ويريد اليساريون، عرفانا للذين بذلوا أغلى ما يملكون، تخليد ذكراهم. ولم يكن اللون الأحمر شعارا لليساريين وحدهم. فقد اتخذته "الثورة العربية" في علمها مستوحية قصيدة صفي الدين الحلي التي يقول فيها..
بيض صنائعنا *** سود وقائعنا
خضر مرابعنا *** حمر مواضينا
وقد ضمت أعلام البلدان العربية معظم هذه الألوان...
تقول الرواية الثانية: "أما محمد سعيد ولد همدي فيؤكد أن أحمد بزيد ولد أحمد مسكه هو من قدم مقترح العلم الموريتاني الحالي، نقلا عن علم كان لمقاطعة وهران الجزائرية أيام الاحتلال الفرنسي، وكانت فيه عارضة خضراء يتوسطها هلال ونجمة ذهبيان تعبيرا عن الإسلام... ويضيف ولد همدي وعندما زرت مؤخرا متحف باريس عثرت على علم وهران الذي كان أحمد بزيد ولد أحمد مسكه قد جاء به واختار منه علم البلاد..."، ص:53.
لا تحتاج هذه الرواية إلى تعليق لما فيها من تصريح باستجلاب علم جاهز، كما تستجلب المواد المعلبة، ويظل مشجب الرمزية الإسلامية، التي تنسب إلى اللون الأخضر أحيانا، وإلى الهلال والنجمة أحيانا أخرى، المبرر الوحيد لاختيار العلم.
أما الرواية الثالثة فهي تلك التي يسردها الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله في مذكراته.. "كان المخطط الأولي للعلم موجودا في خزانة مكتبي منذ عدة أشهر، فقد تم اقتراح الخطوط الأولى له من قبل لجنة غير رسمية؛ ففي إحدى الأمسيات، وأنا في منزلي في سان لويس، كان معي اعلي ولد علاف وأحمد بزيد ولد أحمد مسكه ومحمذن ولد باباه، وكان الثلاثة طلابا، فجرى بيننا نقاش حول مستقبل بلدنا واحتمالات حصوله على الاستقلال. وكان ضيوفي، وهم شباب محترمون، متشائمين، فحاولت إقناعهم وإكسابهم الثقة بمستقبل الوطن الموريتاني. وفي أثناء هذا النقاش خطر بي أن أطلب رأيهم في تصور العلم الموريتاني مستقبلا، وأعطيتهم رأيي فيه، وبعد تبادل للآراء توصلنا إلى تصور هذا العلم..."
تحدثنا هذه الرواية عن "مخطط أولي"، و"لجنة غير رسمية"، ونقاش بين الرئيس المقبل للبلاد، وثلاثة طلاب متشائمين، "يخطر" له أن يطلب رأيهم "في تصور العلم"... نلاحظ، عند مقارنة الروايات الثلاث، أنها من حيث الرواة تعود إلى ثلاث شخصيات تتبنى اثنتان منها أبوة العلم، بينما تنسبه الثالثة إلى شخصية أخرى، ويظهر تأثير موقع الرواة في صياغة الروايات وإخراجها؛ فولد باباه يحاول تبرير اختياره، بينما يصرح ولد همدي بأن ولد أحمد مسكه استورد علما وتم تبنيه... أما الرواية الثالثة فالصنعة فيها ظاهرة لكونها ترد في مذكرات الرئيس الراحل التي يروي فيها "قصة الجمهورية" لذلك يظهر القليل من محاولة مأسسة الاختيار عن طريق لجنة غير رسمية، ونقاش مع ثلاثة طلاب متشائمين...
إذا كان لابد من ترجيح إحدى الروايات، بدل الجمع بينها، فإننا نميل إلى اعتماد رواية ولد همدي لورودها على لسان "محايد"، عكس صاحبي الروايتين الأخريين. وما يعزز رواية ولد همدي هو تصريحه بالعثور على علم ولاية وهران، الذي نسخ منه ولد أحمد مسكه، بزيد، علمنا "الوطني"، في متحف باريس...
الخلاصة أن ما يربط الشعب الموريتاني بهذا العلم لا يتجاوز أرضيته الخضراء، أما النجمة والهلال فقد اتخذتهما البلدان العربية التي كانت واقعة تحت النفوذ العثماني، ولم تكن بلادنا من ضمنها. وقد تخلت بعض تلك البلدان التي غيرت أعلامها عن الهلال والنجمة مثل مصر، أو عن الهلال دون النجمة مثل العراق.
فلا مسوغ إذن لرفض تعزيز ألوان العلم بشريطين أحمرين يرمزان لتخليد أمجاد المقاومة الوطنية التي ضحى أبطالها بدمائهم دفاعا عن دينهم ووطنهم ومجتمعهم. فقد ساهم كل الموريتانيين في المقاومة، كل من موقعه. فالقادر على حمل السلاح حمله بشجاعة وتضحية، وأصحاب الأعذار قاوموا بطرق شتى، فكانت المقاومة بذلك شعار الموريتانيين جميعا. وقد كان من بين "قميات وإمالزن" وطنيون خدموا المقاومة من مواقعهم. فمذكرات الضباط الفرنسيين مليئة بالمواقف الوطنية "للقوم" حتى كان ضباط المستعمر، وأعوانه من الأجانب لا يأمنون انقلاب "القوم" عليهم في أي لحظة. وقد كان "للقوم" مواقف مشهودة أدت إلى خسارة المستعمرين للمعارك وانتصار المقاومين.
والعجب كل العجب من أولئك الذين يتباكون على "شهداء الربيع" ويرفضون تخليد ذكرى شهداء مقاومتنا الوطنية الأبرار بإضافة شريطين أحمرين إلى ألوان العلم وعرض المقترح على الموريتانيين، من خلال استفتاء عام، ليصبح العلم بذلك وطنيا حقا...
أما النشيد فله حكاية أخرى سنرويها لاحقا...".
محمد اسحاق الكنتي
المصدر : صفحة الكاتب (فيسبوك)
تصنيف: