خدمة إعلامية غير مسبوقة للأمن الموريتاني : شهادة معتقل سابق...

وفي حدود الساعة العاشرة صباحا اتصل على نفس الصديق ، وطلب مني أن أطمئن الوالدة والأسرة وأخرج للقائه في نقطة معينة قرب المنزل ، فودعت الوالدة والأهل ، على وابل كثيف من دموع الوالدة ، وخرجت للقائه حيث وجدته في سيارة مدنية بصحبة زميله الضابط (ش) دردشنا قليلا وأعلنت لهما استعدادي لتسليم نفسي ، فذهبنا باتجاه إدارة أمن الدولة ، وفي الطريق طلبت منهما إيصالي لملتقى "مدريد" لأتزود بحاجتي من "التبغ" فردا علي بكل سرور وحينما وصلنا بائعة التبغ دفعا ثمن الكمية ، فأخبرتهما أن لدي نقود فرد علي (ش) انت الآن على نفقتنا نحن.
وصلنا إلى الإدارة العامة للأمن فأجريا اتصالا طلب منهما من كان على الطرف الثاني أن نوافيه في (جهة أمنية) فواصلنا طريقنا نحوها.
كان الحديث طوال الطريق وديا ، وكنا نثرثر بتلقائية دون أي نسبة من الضغوط النفسية أو البروتوكولية ، كما لو كنا خارجين في رحلة صيد . وبعد أن تناولنا كأس الشاي الأول حضر محقق شاب اسمه (ع. أ) سلم علي باسمي مبتسما ، وجلس على المكتب وطلب مني الجلوس على أحد المقعدين ، وأخبرني أنه يعرف جدا من أكون ، فجلست على الكرسي الأيسر بالنسبة له ، لينسحب الآخرون في الحال ، ويبدأ التحقيق.
بدأ المحقق بسرد جميع حقوقي أولا بما فيها حق الامتناع عن الإجابة ، والفحوص الطبية ، واختيار الوجبات. ثم بدأ التحقيق بسؤال واحد كانت إجابتي مطولة شيئا ما ، دردشنا أثناءها وتناولنا بقية كؤوس الشاي ، وسألني إن كنت قد أفطرت وأنه مستعد لإحضار وجبة فطور. وبعد أن احتسينا آخر كأس شاي كان التحقيق قد أذن بالنهاية فطلب مني تسليم هاتفي وتعهد بإعادته إلي قبل إطلاق سراحي.
صادفت هناك أحد جيراني القدماء في عرفات يسمى (أ. ب) يعمل في نفس المكان فطمأنني على أن وضعيتي ستكون مريحة ، وانسحب. خرجت بعدها بصحبة المحقق(ع. أ) فأوصلني إلى أحد المنازل المستقلة داخل المقر المخصصة للحجز ، وقدم لي بعض النصائح في الطريق عن أدبيات التوقيف وعرض علي بعض النقود لشراء حاجياتي فأخبرته ان لدي ما يلزم . واقترح علي غرفة واسعة خيرني بينها وبين غرفة أخرى بعد أن سمح لي بلقاء زميليي عبدو ومحمد علي.
انسحب المحقق بعد ذلك فأخذت حماما بدون صابون ، وبدأت أدخل في جو المعتقل.
كان الحراس ودودون ، وكانت معاملتهم حسنة ، حيث يقيمون الشاي ، ويحضرون الحاجيات من السوق ، وربما التقيت بأحدهم في إحدى الردهات فسلم عليك داعيا (فك الله أسركم).
في اليوم الأول كان يحرسنا عدد من الشباب كان أطولهم مقاما معنا الوكيل (ع. س) وكان شابا لبيبا طيبا من غير تهاون في تنفيذ تعليمات رؤسائه. يفهم في الأدب الحساني ويستطيب سماعه. وكان بصحبته شباب آخرون لا يقلون عنه طيبة.
كنا نلتقي في الردهات وعلى أبواب الغرف ، وفي اليوم الأول بعث لي الزميل تاج الدين بوجبة مستجلبة من خارج المعتقل ، اشتملت على لحوم وخضروات وفواكه وأجبان وقناني مياه معدنية ، اكتفيت بها عن طعام المعتقل.
عند الساعة الخامسة مساء ، اخبرني الحارس بأن المفتش في أمن الدولة (م. ل) يريدني فذهبت اليه في مكتب في مبنى مجاور ، فأخبرني أن لدي زيارة ، وبعد قليل حضر الوالد العزيز والأستاذ القاضي المامي ولد أبابه ، الذي وقف معي ومع الأسرة بكل جهوده، فأخلى لنا المفتش المكتب ، فالتقينا ودردشنا فترة ليست بالقصيرة وطمأنني على الوالدة والأهل ، وزودني ببعض النقود ، وانسحب. ليدخل بعدها المفتش (م. ل) ونبدأ دردشتنا لمدة ساعة طرح علي خلالها أربعة أستفسارات قصيرة ، أجبت عنها بما أعرف. لينسحب بعد أن سألني هل لدي حاجة ، فأخبرته أنني أريد ناموسية ولحافا (امبدو) بعث من يشتريهما من السوق ليعود إلي بهما بعد إن عدت لمعتقلي.
خلال المساء شربنا الشاي وأنشدنا الشعر الحساني ، وتمازحنا طيلة فترة الشاي الذي أعده الوكيل (ع. س) تناولنا بعده وجبة العشاء وهي عبارة عن معكرونة ودجاج استجلب لنا بعدها تاج الدين علبا من الحليب المحلي، تناولناها بعد وجبة العشاء. بعد ذلك حضر الضابط المسؤول عن (الجهة الأمنية) ففتش الغرف وصادر الولاعة التي أستخدم في إشعال التبغ، وأمر بإغلاق الأبواب. أحسست حينها أنني معتقل حقا وأن حريتي قد أصبحت في خبر كان.
بعد أداء الفروض خلدت للنوم حتى الصباح ، فأحضر لي الزميل عبدو تاج الدين وجبة الفطور من خارج المعتقل ، وهي عبارة عن حليب محلي وجبن و "كرواسان" تناولنا الشاي بعدها وقد أعده أحد أفراد الوردية المداومة لا اتذكر اسمه. خرجت بعد ذلك إلى الفضاء الأمامي ، لأجل التدخين أساسا ، وربما أفرطت في ذلك قليلا بسبب طول الفترة التي قضيت عنه ، ماسبب لي غثيان ودوار ، أسندني اثنان من الحراس حتى أوصلوني للمعتقل ، وقاما بتدليك عنقي وكتفي لمدة ساعة حتى تجاوزت النوبة ، طلبت منهما بعد ذلك إحضار كيس بلاستيكي داخل المعتقل حتى لا يعاودني الغثيان فأتقيأ في الغرفة. وعدت إلى فراشي ، وخلدت للنوم حتى الساعة الخامسة مساء ، تخللت ذلك زيارة من أحد أفراد أمن الدولة وهو أحد جيراني في الرياض ، يسمى (ش. م. ع) استفسرني عن وضعتي الصحية ، وهل أحتاج طبيبا ، فأخبرته بعدم وجود ضرورة لذلك.
فتح أحد الحراس باب غرفتي حوالي الساعة السادسة مساء ، وأخبرني أن هناك من يريدني ، فخرجت لأجد شابا بشوشا يلبس مدنيا فأمرني بالجلوس بجواره ، في سيارته ، واصطحبني إلى إدارة الأمن ، حيث قابلت المفتش (م. ل) فقال لي مدير الإدارة يريدك ، وأدخلني إلى مكتبه فحياني وأمرني بالجلوس على أحد المقاعد ، وأخبرني بإطلاق سراحي.
اتجهت بعد ذلك لغرفة مجاورة من أجل إكمال الاجراءات حيث جلست بصحبة أحد الأفراد يسمى (و. ط) ففاتحني في الحديث ، وجلسنا جلسة أدبية ، أنشد لي بعض انتاجه الأدبي ، وأمدني بتبغ ، ومكثنا لمدة ثلث الساعة تقريبا ، ناداني بعدها المفتش (م. ل) ورد إلي هاتفي وودعني لاخرج بصحبة الزميل عبدو الذي صادفته في الباحة الأمامية وانتشق أريج الحرية من جديد.
خارج المعتقل وجدت أنه أصبح لدي أسرتين جديدتين لا تقلان حبا وأهمية عن أسرتي الأولى ، إحداهما تسمى (المدونين) والأخرى تسمى (الصحافة) وليس (نقابة الصحفيين) في الخارج أدركت أن ما كل من يبدي البشاشة كائنا أخاك. خارج المعتقل أدركت أن هناك من يستحق وهناك من لا يستحق.

للعبرة : مهما كانت وضعية اعتقالك مريحة ، ومهما كان محيطك ودودا ، فلن تذوق طعما للحياة وأنت مسلوب الحرية.

بقلم: الشيخ ولد المامي

المصدر : صفحة المؤلف على الفيسبوك.
 

تصنيف: 

دخول المستخدم