خاطرة سياسية: لا اعرف التجارة.. فهل اندم ؟

أتذكرني وأنا في نهاية الستينات من القرن الماضي : طفل في ريعان العمر، أتجول بين وديان آدرار على مسافة قريبة من مدينة أطار شمالا: لمعيذرـ ترون ـ اتويزكت ـ زيرة لخشب. 

أتخيلني أتنقل ببراءة بين واحات النخيل الجميلة في تلك المنطقة وأنا احمل على كتفي كيسا صغيرا يحتوي بضائع بسيطة أبيعها وافتخر بها.. تتكون من حلوى وبسكويت. وأتذكر أنني لم اربح.. واقتصرت ممارستي للتجارة على تلك التجربة الخاسرة التي دامت شهرا أو شهرين تقريبا.

وقد تبين لي فيما بعد ـ بعدما تخلت عني براءة الطفولة ـ أنني لست موهوبا في الفن التجاري. واليوم  لست ادري هل اندم على ذلك أم اعتز به. لأن التجارة ـ أو على الأصح المتاجرة ـ بثت سلطانها في كل مكان وعلى كل ميدان: لا السياسة سلمت منها.. ولا الدين.. ولا الصداقة.. ولا الحب.. ولا الشِّعر...

ولما استمعُ إلى الجدالات والصراعات الدائرة في بلدي حول الدستور هذه الأيام وغيره.. وفي الأماكن الأخرى.. وحول شتى المواضيع... فلا أظن أيا كان في مأمن من خطر تفشي ظاهرة المتاجرة بالفكر.. بالمعتقدات.. بالعواطف. ورغم ذلك فلا أحد يقبل بذلك إطلاقا لما يتعلق الأمر به شخصيا.

 في هذه الحالة ينتابني أحيانا شعور بالاعتزاز بالنفس لكوني لا أتقن فن المتاجرة الذي يبدو تفشيه على هذه الصورة مخجلا حسب الضمير الجمعي التقليدي "الرسمي" حتى وإن كان لا مفر منه: يسري في العقول وفي السلوك مثل سريان الدم في الاوردة والشرايين.  غير أن رؤية معاصرة للمفهوم ودلالاته المختلفة وتطبيقاته المتعددة تدفع بي تارة أخرى إلى الندم : ما يعتبره المتشبثون التقليديون بالأخلاق وبالقيم النبيلة "متاجرة بالدين.. بالسياسة.. بالمشاعر..."، ما هو في نهاية المطاف سوى عمل بالقاعدة الماكيافيلية المعروفة التي لا مناص منها لمن يبتغي النجاح في عالمنا المادي، والقائلة: الغاية تبرر الوسيلة.

وتفكيري في هذه النقطة أعادني مرة أخرى إلى الوضع السياسي في بلدي. فقلت في نفسي:  لعل في هذه القاعدة يكمن مبرر خفي لرفض التعديلات الدستورية من طرف من يوصفون بالمعارضة المتشددة. تتمثل دوافعهم في ظنهم أنهم بهذا الموقف الرافض لأي شيء يصدر عن النظام ومحاوريه سينالون منه باعتبار محاولات اسقاطه واضعافه بغية اخذ السلطة هي شغلهم الرئيسي إن لم يكن شغلهم الأوحد.

ثم حاولت تطبيق نفس المنطق على الطرف الآخر، متسائلا:

 ما هو الدافع الخفي وراء اقتراح هذه التعديلات من طرف النظام الحاكم؟ وبعبارة أخرى : ما هي المكاسب غير المعلنة، الفردية أو الجماعية، التي سيجنيها الرئيس محمد ولد عبد العزيز واصدقاؤه ومشاركوه من المعارضة ـ دون غيرهم ـ من تغيير العلم؟ أو من تغيير النشيد الوطني؟ أو من استبدال مجلس الشيوخ بمجالس جهوية أو إقليمية؟ أو من تأسيس أفضل لحرية الصحافة أو لمجلس الفتوى والمجلس الإسلامي... ؟

 وأمام هذا السؤال بقيت دون إجابة.. حائرا . فقررت أن أشاطر غيري هذه الإشكالية. لعلي القي من بين من يتقنون جيدا فن المتاجرة من لهم دراية أوسع بخفايا السياسة. فهم مشكورون إن كشفوا لنا "السر المريب" الذي يخفيه عنا مقترحو التعديلات الدستورية التي يدور النقاش حولها الآن في بلادنا. وإلا فليخرس ويكف عن فعلتهم من يقومون بحملات الشيطنة وبث المعلومات الخاطئة حول هذه التعديلات وحول الإستفتاء الشعبي المتعلق بها.

البخاري محمد مؤمل

تصنيف: 

دخول المستخدم