جمل ولد أحمد مسكه (تأبين بقلم المحامي/ محمد سيدي عبد الرحمن ابراهيم)

المحامي/ محمد سيدي عبد الرحمن ابراهيم

توفي يوم الإثنين (14 مارس 2016) بمستشفى Saint-Joseph في العاصمة الفرنسية باريس العلم الموريتاني أحمد باب ولد أحمد مسكه ودفن يوم الأربعاء 16 مارس، في مقبرة لكصر بالعاصمة انواكشوط فذعرت موريتانيا وضجت الساحة باجترار المسار الثقافي والنضالي الحافل لرجل متميز.. ولأنني لم أكن في العاصمة لم أحضر الصلاة ولم انضم لمشيعي جنازة الفقيد.. قرأت بعض ما كتب من تأبين للراحل: "الوداع الأخوي" للمحامي الباريسي شمس الدين حافظ و"ووداع البدوي العصري" لأحمد محمود ولد محمد الملقب جمال وتأملت خاطرة "الشوق والسلوان أيها الراحل الكبير" لناجي محمد الإمام وقصيدة "انهض أبا التحرير" للشيخ ولد بلعمش.. فقررت أن أدلي بدلوي وطفقت أفتش عن فرجة خاصة أطل منها لتعزية الأهل والموريتانيين عموما وتوديع فقيد الكلمة ببيان من جنس عمله.. ولتجنب التكرار خلصت إلى أن أستأثر بتسليط الضوء على جمل ولد أحمد مسكه.. سيقرأ الكثيرون الجمل بضم الجيم لما خلفه الراحل من سطور وكتب وربما يفاجئهم القول بأن المقصود هو الجمل الحيوان (بفتح الجيم) لانفراط حبل الوصل بين العيس وبين رجل ذكر الرئيس الأول المختار ولد داداه، رحمه الله، في كتابه "موريتانيا على درب التحديات" بأنه جاب معه بالسيارة دولا أوروبية عديدة لمشاهدة شمس منتصف الليل، على مشارف القطب الشمالي سنة 1954، بينما كان الفتيان الموريتانيان طالبين في فرنسا. وربما استفسر البعض عن سر عدم ذكر الجمل بصيغة الجمع لما لأهل أحمد مسكه من سوائم همل، اشتغلوا عنها بالكتب واسترخصوها حتى ليذكر أن جدهم عرض خمسة وعشرين رأسا من البقر على سيدي عبد الله بن الطالب العلوي الملقب ولد رازكه ثمنا لكتاب (القاموس المحيط).
انجذب أحمد باب ولد أحمد مسكه إلى وطنه بعد أن عاش مدة طويلة في الغربة.. قرر "البيظاني" العودة إلى موريتانيا ليكمل النقص الذي عبر عنه في (كافه المرفود) ويحط الرحال بين ذويه ومقدريه.. لا بد أن الأديب العائد قرأ في رواية زميله الراحل الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال": (عدت وبي شوق عظيم إلى أهلي.. ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة أن وجدتني حقيقة قائما بينهم فرحوا بي وضجوا حولي ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجا يذوب في دخيلتي، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس. ذاك دفء الحياة في العشيرة، فقدته زمانا في بلاد تموت من البرد حيتانها..)، ولأن الإقامة تتطلب مقومات مادية لم يترك الكراس فسحة، في حياة الرجل، لتدبيرها ولم تغن المؤلفات لكسادها المعروف عندنا، فكر أحمد باب في نشاط يدر دخلا ينفق منه ولم تكن السبل كثيرة فاختار الصيد.
أشرف ولد أحمد مسكه على تجهيز سفينة تقرر أن يكون مرساها في دخلة انواذيبو الدافئة إلا أن من الطبيعي أن يكون لسفينة الأديب ما يميزها فلم يركن لتسميتها على النمط المألوف واختار أن تكون "اجمل لبحر".. ربما انتقى التسمية تيامنا "كما كان آباؤنا يفعلون" فجمل البحر سيكون قادرا على اجتياز الموج المتلاطم مخنفا كما تجتاز النجائب كثبان آكشار وآزفال غير آبهة بالعواصف التي دأبت على هتك الشاطئ الأطلسي دون تمييز بين المنكب البري واللجة البحرية.. يمكن القول تخمينا إن أحمد باب لم يرد لفلكه أن تكون ناقة "تنجب" وإنما جملا، زهدا في الأساطيل على نهج أغلب أرباب الأدب والثقافة.. ولربما استحضر أحمد باب كتاب البادية وأجال الفكر في قصيدة السفين وتداعت لذهنه التسمية التي أطلق هو والمختار رحمهما الله على سيارتهما "أربعة جمال" إبان رحلتهما للشمال فأراد أن يبدع اسما ملتقى يرمز لذلك كله وغيره.. اسما مدهشا لأنه يقحم سفينة الصحراء في البحر مع ما في ذلك من حرج.. ما خلصت إليه أن المؤلف بيت أن تكون تسمية سفينته كعنوان الكتاب الذي يعبر عن مكنونات كثيرة "يسهر الخلق جراها ويختصم".
بعد عقود من النشاط والحيوية عاد جسد أحمد باب ليطمئن في حضن أمهاته الثلاث اسويعيدو وموريتانيا والأرض: اسويعيدو التي ولدته صغيرا وعلمته التحدي وموريتانيا التي كان أحد أبنائها المؤسسين والتي شارك شقيقه بزيد في إبداع علمها والأرض التي تعكس مؤلفات الفقيد قناعة بصورية الحواجز التي تحول بين المنتمين لها والتي خلقنا الله منها ويعيدنا فيها. الحقيقة أننا رحل فحيثما أقمنا في البوادي والحواضر لا نلبث أن نسافر فرادى إلى لكصر أو البعلاتية أو أم لعواتك أو غيرها من المدافن المنتشرة حولنا. يسعي الأحياء في حدود متر فوق سطح الأرض ويستقر الأموات في نفس الحدود تحتها. 
إنا لله وإنا إليه راجعون.

المحامي/ محمد سيدي عبد الرحمن ابراهيم 

تصنيف: 

دخول المستخدم