بعد الحديث تحت الشجرة عن الكادحين وما اجمع عليه الحاضرون من تسفيه احلامهم وذم اهدافهم، طاف فى خيالي سؤال أسررته فى نفسي:سبحان الله ! لماذا يتهرب القوم عن لُبّ الموضوع وعنوان الصراع الابرز بين الكادحين
والحكومة ؟ لما لا يتعرضون فى كلامهم لجوهر
الخلاف الذي هو بامتياز خصومة مردها السياسة ومطالب الناس برفع الظلم والغبن عنهم وتحرير طاقات البلد من براثين الاستعمار الغاشم ؟انهم بدل مقارعة الحجة بالحجة وإقناع الناس بما لديهم من قولٍ وبينة، يعمدون الى تأليف القصص والأقاويل والتفنن فى أكاذيب باطلة ما أنزل الله بها من سلطان ... ولا وزير! هم صراحة كما قال المثل الفرنسي "من أراد قتل كلبه إتهمه زوراً وبهتاناً بمرض الكٓلٓبِ".
بينما انا أجترٌ حديث النفس إجتراراً ،لا أستطيع البوح بما يدور فى خاطري إِذْ أذّنٓ مؤذن :أيها القومُ الى سياراتكم إنَّا مرتحلون .أنطلقت عابرات الصحراء متوجهةً إلى مدينة النعمة.
توقف الموكب بمدينة تمبدغة ،سمعت بعض المسافرين يلقبونها"أتْنٓيْبٓهْ" تعبيراً عن حبها وتقديراً وإجلالاً لساكنيها ! بعد التوقف واصل الموكب المسير الى النعمة، بدأتُ أشعربالحمى وبآلامٍ مبرحة فى البطن ،أحسستُ بها عند مغادرة لعيون لكنها تفاقمت بتأثير السفر وحركة السيارات الرباعية الدفع تهُزٌ الجسمٓ هزاً.
أثناء الطريق وبعد ان نفد صبري على تحمل الألم والحمى الشديدين ،سألتُ سائق السيارة التى أستقلها ضمن الوفد عن المسافة آلتى تفصلنا عن مدينة النعمة ، أجاب :ثلاثون كلمتراً.
قلتُ له سأهبط عنكم هنا،المعلم الذى أقصده موجودٌ قرب المكان وعلى هاذا البُعْد من المدينة.
ابتعدت عني السيارات بعد أن لفني غبارٌ كثيف تطاير بفعل عجلاتها.تابعتُ الرحلة بصعوبة وعناء ،أرتفعت حرارة جسمي تملكني عطش سببه الحرٌ الشديد وما أفقده من سوائل.
خارت قواي وأنتابني الوهن والخور ،عندها أيقنتُ أني لا محالة من الهالكين!
أدرت شريط حياتي كله ؛ تذكرت الرفاق الطيبين
أوقفتُ دوران الذكريات على صورة سميدع ووجهه الوضاح والبطولات التى يُسطرها الأحباب فى كل مكان،يُقارعون المستبدين ويتصدون للظالمين. قلتُ فى قرارة نفسي انا ان متّ فلستُ الا قطرةً من بحر المناضلين يتقدمون موجاتٍ تتلوها موجات نحو الهدف المنشود.ولما بدأت أترنّحُ وتضلٌ من قدمي الطريق وأخذت خطاي فى التباطإ إذا بقافلة تقترب مني تسير فى الإتجاهِ المعاكس، أشرتُ إليهم بكفي نحو فهي أعياني الكلام ! أقبلوا علي بماء ٍأخذتُ اأبتلعه بسرعة ،صاح أحدهم توقف توقّف! لا تُسْرِعْ، العطشان خلاصه الشراب جرعةً جُرعةً وإلا هلكٓ !خذتْ شمسُ ذالك اليوم الثقيل الطويل تجنحُ للغروب فتتوارى رُويداً رُويداً خلف الكثبان وأشجار الغابات .نهضتُ من كبوتي ،ودعتُ السابِلِين من أصحاب القافلة وقلت لهم بتأثرٍ وقد إغْروْرقتْ عيناي بالدمعِ :أنقذتهم حياتي فلكم الشكر والإمتنان يا أبناء الأكرمين.
دخلتُ مدينة النعمة عِشاءً خائرٓ القوى،لا تكاد تحملني قدماي من التعب والخور !
سألتُ المارة عن دار أهل بُبكّرْ أشاروا الى زقاق يُوصِلُ إليها،طرقتُ الباب إستقبلني صديقي وإبنهم الخلوق الودود محمد لمين الملقب أنّنّ المغفور له بإذن الله (في الصورة الأولى) وكان ناشطاً شجاعاً فى حركة الكادحين.تقلد المغفور له بعدما اكمل دراسته وظائف فى إدارة مؤسسات عمومية عِدّة .
الصورة التى تركها الراحل فى ذاكرتي وأكدها رفاقه الاقربون،صورة إنسانٍ خلوقٍ صبورٍ تعددت شمائلُه . رغم ما كنتُ أقاسي من ألمٍ وإرهاق لم يذُقْ جفني طعم المنام،بتٌ أعدٌ ساعات الليل الطويل ساعةً بعد أخرى وما أنِ أنبلجٓ الصبْحُ حتى أخذني الوالد الحنون المرحوم محمد محمود بن بُبٓكّرْ الى مستوصف المدينة وأعطاني الدواء الشافى فبدأت صحتي تتحسن. فى اليوم الموالى جمعتُ كبار المناضلين فى المدينة ،سلمتُهم حصتهم من المنشورات وبلغتهم أخبار الكادحين وما أكتسبوه فى البلاد. بعد إكمال مهمتي فى مدينة النعمه،علمتُ أن الأمن رصدٓ نشاطاتي وشرع فى البحث عني وزار أماكن مررت بها و أنهم يُغْلقون منافذ لمدينةويستجوبون المسافرين المغادرين.
خرجتُ من النعمة سيراًعلى الأقدام ،سجلٓ الرفاق تذكرة راكب منهم غير معروف،أخذٓ مكانه بين المسافرين ولما تخطت الحافلة مركز الرقابة وأبتعدت عن أعينهم أوقفها وهبط منها فجلستُ مكانه وتابعتُ الرحلة الى مدينة تمبدغه دخلناها ليلاً،إستقبلتنا عند مدخلها فرقة من الأمن أمرونا جميعاً بالتوجه الى مخفر المدينة ولما وصلناه طلع علينا فوق الشاحنة أحد أفرادالامن ،طلب بطاقات تعريف الركاب أجابه شيخٌ كان يجلس جانبي،يبدو أنه من أعيان البلدة :أنا فلان بن فلان كل الناس يعرفونني انا وأتباعي لا نُفتشُ ولا نسألُ عن شيء ، رد رجل الأمن : حسناً إهبط أنت ونفرك ، إنتهزتُ الفرصة الذهبية فنزلتُ مع الشيخ أسنِدُه كأني من أتباعه ومريديه! بعد تفتيش السيارة واستجواب المسافرين تابعنا رحلة العودة ليبدأ من جديد مسلسل العمل السيزيفىى لسعاة بريد المهمات الخاصة جنود الكادحين المجهولين ، يسطرون أروع البطولات ويُنْجِزُون أصعب المهمات.
منقول من صفحة الوزير السابق والسفير عبد القادر ولد احمدو
تصنيف: