أطلقوه من عقاله

تحمل طويلا وهو يذكر الحبيبة ويتغزل بها والرماح تنهش جمسه وسيوف الهند والسند " نواهل من دمه" على طريقة عنترة ابن شداد ، وكابد تحطم النضال على النصال مع المتنبي وتحول "المنايا أمانيا"، وعانى ألم بسمة الشابي المستلة "من بين ذابلات الورود " عملا بنصيحة الحكيم أبي ماضي بأن نصطنع الجمال في كل الحالات والأوضاع " لنرى الوجود جميلا"...

 لكنه اليوم ما عاد قادرا على التحمل بعد أن انتشر عطر منشم داخل كل بيت عربي، وانتقلنا من طور مبارزة الأنداد إلى عهد "غزوات الخوارج الجدد" الذين يخططون في الظلام ويعتمدون الغيلة والمباغتة أسلوبا.. و يحطمون ما شيده الأجداد.. ويذبحون الأطفال العزل داخل مدارسهم.. ويستبيحون أقدس مقدستنا.. ويحفرون في أجسام ونفوس الأمم الأخرى صورة تقدمنا كمجموعات من ياجوج وماجوج أو الوحوش الكاسرة التي لا هدف لها سوى القتل والذبح والشي..

.حار في الأمر.. سأل ولم يجد جوابا مقنعا...قارن وأستقرأ.. استشار واستخار، ولم يحصد سوى جبال من الشكوك والأوهام.

بعضهم ينسب الأمر إلى آفات الاستبداد والتسلط.. وآخر إلى كوننا لا نعرف موقعنا الجغرافي ونريد تأمين مرابعنا من إخوتنا وجيراننا عن طريق الغرباء  من وراء الحدود.. وثالث إلى أننا لا نملك ببساطة ثروتنا بل يوظفها الغريب ليشعل بها حروب داحس والغبراء بين أبناء الحي الواحد داخل مدننا.. ورابع إلى تضاؤل المعرفة الحقيقة بالدين الإسلامي وفوضى الفتاوى والتأويلات المنتشرة عبر مختلف وسائط الإعلام الرقمي...

ما استطاع تحصيل ظن أو تخمين من كل ما سبق من تخريجات وتفسيرات فتوارى خلف سدف اللاشعور وأحكم إغلاق الأبواب والنوافذ متمنيا نومة أصحاب الكهف.

توالت عليه وفود الشعراء الواحد تلو الآخر من ولد رازكه إلى ولد الطالب مستعطفين بالديار والمرابع والأمجاد الغابرة وبالفجر الذي لابد أن ينبلج بعد الظلام وأن "بلادي وإن جارت علي عزيزة...". وهو يصم أذنيه ويستغشي ثيابه ويردد "رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه": لا أحب الهجاء ولا أجد مناسبة للفخر...ما عدت أستطيع أن أتغنى بجلسات العشاق على سفح جبل الشيخ ولا بعيون"المها بين الرصافة والجسر" ولا بمغامرات عمرو بن أبي ربيعة بواد العقيق...

 ولم أعد أسمع حمحمة خيول خالد ابن الوليد أو طارق ابن زياد.. وأبعد من ذلك أن أرى رجال الضفادع البشرية العربية يدكون تحصينات خط بارليف أو صواريخ الحسين تتساقط على رؤوس الغزاة الصهاينة في تل أبيب...

واليوم ونظرا لكون إخوتنا العرب يصفوننا من باب الكرم والإيثار المتأصل في طباعهم بأننا "بلد المليون شاعر".. ولكوننا نتجاوز التصديق بتلك المقولة إلى درجة اعتبارها ميزة وخاصية لشعبنا، فإن طلبنا الوحيد المرفوع إلى قمتهم المنعقدة بانواكشوط أن تعمل كل ما في وسعها من أجل أن تطلق مارد الشعر لدينا من عقاله المحتجب في سجن قصي رافضا مناشدات والتماسات  شعراءنا مصرا على البقاء في محبسه بانتظار مناسبة عربية للفخر.

الأستاذ/محمد سالم بمب

تصنيف: 

دخول المستخدم