يوم العبور : ليتني حصلت على جهاز راديو، مثل جهاز الشاعر احمدو ولد عبد القادر!*

اليوم تحتفل مصر بالذكرى 44 ليوم العبور.. وأنا كمصر: جد معتز وفخور .. وأمثالي كثيرون جدا. وكنت قد عشت الحدث لحظات إعلانه وأنا يتجاذبني شعور مزد وج، طرفاه متنافران :  مرارة وحلاوة.

 يومها، بكيت فرحا فورما علمت ب"البيان رقم 07 الصادر عن القيادة العامة للقوات المصرية".

الفضل في فرحتي الشديدة يعود إلى الشاعر احمدو ولد عبد القادر أطال الله في عمره. كان حنونا يعطف علينا – أنا ومن معي من الشباب- خلال تلك الشهور التي عشتها كاملة وبدون انقطاع دون أن أتمكن من مصافحته ولو مرة واحدة، رغم أنني اسكن على بعد سنتمترات منه. فشاءت المفارقة أن تكون أقسى مسافة واقصرها  في ىن واحد- يمكن أن تبعد الناس بعضهم عن بعض- حاجزا منيعا بيننا : أبوابا من الحديد موصدة. ومع ذلك، لم تمنعه الحواجز الفولاذية، التي يستحيل على أي منا عبورها، من أن يتصرف تجاهي ومن معي من "الشباب القاصرين" ،حسب تصنيف العدالة لنا، وكأنه  أونا أخونا الأكبر: مرشد  نيِّر لنا.. رؤوف.. رحيم  بنا جميعا.

وكان "الشاعر" من القلائل في قلعة بيلا الذين لديهم جهاز راديو. وقد وقف في ذلك اليوم أمام شباك زنزانته، وجعل زر الصوت في أعلى درجة حتى تبلغ الأنباء مسامع قاطني الزنزانات المجاورة. شاء الله أني كنت من بين هؤلاء، كما أسلفتُ.

والذين لم يتمكنوا من السماع، كان رفاقه في نفس الزنزانة يوصلون إليهم أخبار المعارك وانتصار القوات المصرية على ساحات القتال المختلفة: قناة السويس..  سيناء.. و  الجبهات الأخرى.. ويرسلون لنا الاخبار ونتبادل التعاليق حولها عبر إشارات  مرئية مشفرة  قاطنو "الزنزانة 17" - على ما اعتقد – هم من صمموها.

 تتمثل الإشارات في حركات نؤديها وتنخاطب بواسطتها، حيث ترسم وتوحي للطرف المشاهد بالحروف الهجائية.. ويتم تنفيذها بواسطة الأعضاء العلوية من الجسم : الأطراف العلوية، المنكب، الرقبة، الرأس، العين ، الأذن، الخ... إذ تدل الإشارة إلى الحرف الذي يبدأ به اسم العضو المشار إليه.  وأتصور اليوم أن مصممي "الزنزانة 17" استلهموها من اللغة المستخدمة عالميا لصالح الصم والبكم. أي: أننا، بسبب وضعنا كسجناء "خطيرين" أصبحنا من ذوي الاحتياجات الخاصة، كلما كنا بصدد التواصل فيما بيننا. سبب إعاقاتنا الكلامية والسمعية كان خطيرا آنذاك وعلاجه عويصا : ذنبنا المتمثل في معارضة السلطة الحاكمة !!

وكانت لنا مواعيد وقواعد صارمة ودقيقة تضبط وتؤمن تبادل الرسائل والحديث بواسطة تلك الإشارات التي كنا نتبادلها عبر شباك صغير في الجزء العلوي من الأبواب الفولاذية  للزنزانات يأتي منه الهواء ويراقب الحراس المعتقلين من خلاله. غير أن البعض – خاصة  منا نحن الشباب- لا يتقيدون أحيانا بتلك القواعد الانضباطية، مبالغين في استخدام الإشارات لدرجة أربكت أحد الحراس بشكل غريب تمتزج فيه الطرافة والشدة.

 كان المعني ينظر إلي وأنا  أطيل الحديث بواسطة تلك الإشارات مع الطالب اخيار الموجود في "الزنزانة 17".

و بعد أكثر من نصف ساعة تقريبا من التأني من طرف الحارس وهو يراقبني صامتا، نفد صبره.. و اقترب مني.. وقال بصوت خافت وبنبرة يختلط فيها ذعر  وارتباك يحاول إخفاءهما، وحزمٌ يصر على إظهاره :

  "يا بوي سَمِّ واللَّ لاهِ انعيَطْ "للضعيف".

وكررها إلى أن تيقن أنني سمعت وفهمت قوله.

امتثلت لأمره دون تردد : توقفت عن الحديث مع الطالب اخيار، وقلت مكررا بصوت عال : " بسم الله الرحمن الرحيم ... اللهم ملكني عقلي"، محاولا أن لا أُولِيَ اهتماما للموضوع.

 ثم أشرت إليه بيدي، جاعلا السبابة والوسطى أمام فمي .. وطلبته كما تعود مني  ذلك من قبلُ:

محمد، هل يمكنك أن تأخذ لي سيجارة من الزنزانة 17 ؟"

و "الزنزانة 17" تاوي سبعة عشر سجينا. وهذا الكم البشري هو السر في تسميتها. ونظرا لعددهم الكبير مقارنة بالزنزانات الأخرى، ونظرا لكون جل أهلها موظفين وأطر سامين  "ميسوري الحال"، حسب ظننا نحن الشباب، فإنها كانت ملاذا لوجيستيا لنا عموما، خاصة فيما يعني السجائر التي تشكل مادة ثمينة جدا بالنسبة للمدخنين منا...

بعد بسْملتي وطلبي المعهود له، انبسط محمد، ورد علي، مبتسما :

"الحمد لله.. اخلعنتي.. اعملت عنك جنَّيْت بيَّ ذي الحركات اللِّي اتعدل انت وصاحبك.. وَانَ ما نبغ انعلم بيك ذاك المخلوق"، مشيرا بيده إلى جهة الغرفة التي يقيم بها رئيس فريق حراسنا الملقب ب"الضعيف"؛ وصف لا ينطبق حقيقة على موصوف ذي عضلات مفتولة وجسم كبير- فتبارك الله أحسن الخالقين عليه وغفر له وأحسن مثواه، حيا كان أم ميتا.

 وبالإضافة لامتلاك "الشاعر" لوسيلة الإعلام الإذاعية الآنفة الذكر، كان هو وآخرون من زملائنا قد أقاموا علاقات ثقة متينة مع أكثرية حراس السجن. مما جعل هؤلاء يتغاضون عن الكثير من الأمور والأشياء المحظورة علينا، مثل : الشاي، السيجارة، الكتب، المجلات، الراديو... بل كان أفراد "مناصرون" منهم يوافوننا بها سرا.

غير أن الراديو صارت هي أثمن تلك الأشياء في نفسي.. لأنها يوم 6 أكتوبر 1973 أنستني طعم المرارة الشديدة التي كنت أنا ورفاقي نشعر بها بسبب ضيق المكان، وسوء التغذية، و شدة الحر والحرمان... فبدلا من تلك الأحاسيس المؤلمة، ذقنا بفضلها في ذلك اليوم طعم نصر ما سبق لي مثله. 

ومنذ ذلك التاريخ، وأنا ابحث جاهدا عن جهاز إذاعي مثل الذي كان مع "الشاعر" ..عساي أتذوق بواسطته طعم انتصارات كبيرة جديدة.. ككسب معركتيْ التحرير والبناء في فلسطين وفي البلدان العربية والإسلامية.

غير أنني مع الأسف لم أوفق لحد الآن في الولوج إلى المكان الذي يوجد به هذا النوع من الأدوات المبشرة بالخير في فضاءات أمتنا المريضة والمغلوبة على أمرها. وأخاف أن يطول انتظاري...!!

البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي) 

------------------------------------------

* نص شهادة  ألقاها المؤلف في 6 يونيو 217، خلال حفل نظمته السفارة المصرية  في نواكشوط، تخليدا للذكرى 44 لانتصارات حرب أكتوبر المجيدة. 

 

تصنيف: 

دخول المستخدم